في اشتغاله على إنجازه السردي الجديد «روايات لا تطير – مصغّرات»، الصادر عن دار جدار، في الإسكندرية 2024م، استند الكاتب اليمني سمير عبدالفتاح إلى محورين رئيسين: الأول موقف القارئ ورؤيته فيما يقرأ من روايات. والثاني، رغبة الكاتب -أيّ كاتب- في استكمال ما لم يستطع استكماله من مشروعاته الروائية.
يحيل عنوانُ العمل على متنه غير المكتمل، من خلال صفة العجز عن الطيران، التي أُلْحِقتْ بكائناته النصية. والقارئ هو مَنْ باستطاعته منحها القدرة على الطيران، بما سيقوم به من استكمالٍ لتفاصيلها السردية. وإلى ذلك أشار ناشر العمل -في غلافه الخلفي- مُتحَدِّثًا عن فكرته الرئيسة، التي تستهدف إشراك القارئ في استكمال مصغراته السردية، مستأنسًا بما تضمّنَتْه كلُّ مصغرةٍ من إضاءات، كأسلوب الرواية ولغتها وضميرها، وفكرتها وأحداثها وحجمها.
ومن خلال قراءة تفكيكيةٍ للعمل، يتضح أن اجتراح نمطه السردي -هذا- مُؤَسَّسٌ على رؤيةٍ، تبلورت من خبرة القراءة الروائية الفاعلة في صياغة أفكار القارئ، وتقييمه، واكتشافه الفراغات التي يعمل على استكمالها. وقد حرص الكاتب على تضمين هذه الرؤية في هذا العمل؛ إذ انطلقت الفكرة الروائية في مصغرة «رواية النصف من أكتوبر»، من قراءة المايجور «ميكوفتش» لرواية «الشياطين» لـ«دوستويفسكي»، وما التقطه منها من مخططٍ ثوري ورد فيها، وما أضافه إليه من تعديلات متوائمة، مع ما يعرفه من تفاصيل متعلقة بآليات حماية أسرة «القيصر».
كما ظهرت هذه الرؤية التأسيسية لدور القارئ السردي -على نحو أوضح- في مصغرة «رواية تكميلية»، التي تضمّن عنوانُها إحالةً مباشرة على هذا الدور، وفاعليته في تشكيل مادة الرواية، ومعالجة بعض فراغاتها. فبعد أن انتهى بطل الرواية من قراءة رواية «الهارب»، لـ«فالنتين راسبوتين»، اكتشف أن فيها فجوة تجعل الأحداث غير منطقية، وأن الكاتب «لم يجرؤ على تدوين ما حدث فعلًا»، فعمل على معالجة هذه الفجوة.
ثم يقوده هذا الأمر إلى إعادة التفكير فيما سبق أن قرأه من روايات، فوجد أن كثيرًا منها بحاجة إلى ملء فراغاتٍ فيها، وصياغة نهايات مناسبة لها، وصولًا إلى رؤيته في دور القارئ السردي، التي لخصها بالقول: إن «على القراء في حالة عدم رضاهم عن نهايات الروايات التي قرؤوها، أو شعروا أنها لا تتناسب مع الجو العام للرواية، أو أنها نهايات مبتورة وكالحة، عليهم أن يقوموا بكتابة النهاية التي يعتقدون أنها الأفضل لتلك الروايات».
رواية «روايات لا تطير»
تحول مشاغل الحياة المعاصرة المتعددة دون استكمال الروائيين لمشروعاتهم السردية، ولا سيما تلك التي حددوا موضوعاتها وسياقاتها وآليات كتابتها، ويشعرون بالقلق من ضياعها. ويبدو أن هذه الحال، قد تنامت إلى حدّ صيرورتها تجربةً أدبية مأهولة بأبعادها السردية، التي أسهمت إسهامًا مباشرًا في إنجاز هذا العمل، بما تضمّنه من مشروعات روائية. وقد تجلت مركزية هذه الحال وحيثياتها، في المصغرة الأولى ــ «واكتبني» ــ التي أشار هامشها إلى أن فكرتها الروائية «عن كاتبٍ أُصيب في حادث سيّارة، ولم يعد قادرًا على الكتابة، وهو مشوش بشخصيات كثيرة، في رأسه لم يستطع كتابتها…؛ لذا طلب من كاتب آخر مهمة كتابتها لينزاح ثقلها من عليه. الكاتب الآخر اختار الكاتب الأول لشخصية الراوي». ومن خلال هذا النص وهامشه، تظهر نواة العمل، التي منها تشكلت هذه السردية الجديدة، بما هي عليه من معالمَ بنية سردية روائية، ولا سيما شخصية العمل التي يتوارى صاحبها خلف التجارب السردية التي يرغب في كتابتها، وكلّف كاتبًا آخر بإنجازها، بعد أن حالت عوائقُ دون اضطلاعه هو بتدوينها.
النسيان والتدوين
تتجلّى ثيمة «النسيان» والرغبة في النجاة منه نسقًا مهمًّا في استدعاء آلية الكتابة الجديدة في هذا العمل؛ إذ تَضَمَّنَها عددٌ من المصغّرات فيه. كما تَضَمَّنَ عددٌ من سياقاته فعْلَ (الكتابة)، الذي يمثّل ملاذًا محوريًّا للنجاة من النسيان. وقد ورد هذا الفعل بصيغٍ مختلفة؛ منها «ستكتب نفسك»، ولا مبالاة البحر في إمكانية أن يقوم هو بكتابة الإنسان، بعد أن فقد الإنسان إمكانية كتابته للبحر. بما في ذلك، محورية الحضور، التي تجلّى من خلالها فعلُ الكتابة في المصغرة «واكتبني»، وصياغاته المتكررة فيها.
ويتخذ فعل الكتابة مساراتٍ مختلفة في مواجهته للنسيان؛ إذ قد يأتي تدوينًا للمذكرات، كما في «اعترافات منسية» و«رواية بلا بداية ولا نهاية». وقد يأتي تدوينًا روائيًّا، كما في المخططات الروائية وأفكارها في المصغرات: «جفول»، و«رواية دمنهور». و«رحلة السواد ثلاثية شهرزاد».
خصائص فنية وموضوعية
من أهم الخصائص الفنية والموضوعية، التي قام عليها هذا العمل، تقسيم المشروعات الروائية فيه على أجزاء، كأن تكون جزأين، في مثل المصغرات: «عبارات معكوسة». و«سبتمبر مرة أخرى»، و«رواية الدال». أو ثلاثة أجزاء، في: «رواية الفتى الغبي قيس»، و«خفوت». ويغلب على هذه الأجزاء أن تكون هادفةً إلى تسريدِ موضوعاتٍ متعلقةٍ بمراحل الحياة وتحوُّلاتِها، ولا سيما محطات الانتقال بين المراحل العمرية: ميلاد، طفولة، شباب، رجولة، شيخوخة. أو تسريد مراحل الانتقال بين القرية والمدنية: الإقامة في القرية، الرحيل منها، الإقامة في المدينة.
ويتفاوت «المتن» و«الهامش»، في مضامينهما؛ من حيث الحجم؛ فالأغلب أن يأتي المتن أطول من الهامش. وبنسبةٍ محدودةٍ، قد يأتي الهامش أطول من المتن، الذي لا يزيد عن فقرة واحدة، في مثل مصغرة «العائد».
كما يتفاوت الهامش من مُصَغّرةٍ إلى أخرى، فمنها ما يستوفي إضاءته لفكرة الرواية، وحجمها. ومنها ما لا يستوفي ذلك، من مثل الهوامش، التي لا إشارةَ فيها إلى حجم الرواية، كما في المُصغّرات: «إشارات الموت السبع». و«العقاب والجريمة». و«رتم الانبثاق». و«كأس شاي أحمر».
وتتنوع شخصيات المُصغّرات وفضاؤها المكاني، بين المحلي والخارجي، الذي منه: شخصية المارشال الإنجليزي (جورج إليوت)، في مُصَغّرة «احترام كافٍ لرجل فقد نصف ذاكرته». والفنان الهندي في «وخز». وشخصيات الفرنسيين الثلاثة الباحثين عن كنز أجدادهم في «دمنهور». والجندي الألماني وجدار برلين في «رواية القبو».
وتتجلّى المكانة الخاصة، التي يحظى بها حرف «الراء» في تجربة الكاتب السردية، من خلال حضوره في صياغة عنوان مُصغّرة «رواية راء». ومثلها صياغة الجملة السردية: «اكتبْ إحداهُنّ في راء الريبة»، التي وردت في المُصَغّرة الأولى «واكتبني». وفي هاتين الصياغتين، تتجسّد هذه السمة الأسلوبية امتدادًا إلى حضورها في صياغة عنوان ثلاثية الكاتب القصصية «ثلاثية راء»: (رنين المطر، رجل القش، راء البحر)، الصادرة عن مركز عبادي للدراسات والنشر، صنعاء، 2001م.
لقد استثمر الكاتبُ إشكالية الزمن المعاصر، المزدحم بما لا يتسع له من تفاصيل؛ فمن خلال توظيف هذه المعضلة، استوعبَ هذا الشكلُ السرديُّ الجديد قلقَ الكُتّابِ من ضياع أفكارهم الروائية. كما اجترح للقارئ فضاءه السرديّ الخاص، الذي يمكنه من خلاله استكمال العمل الروائي؛ وفقًا لموقفه منه ورؤيته فيه، وبنيته الفكرية والثقافية، وتفضيلاته الجمالية.
0 تعليق