المقالات الأخيرة

رسالة في الجوهري من وجودنا المباشر.. ضوء لإنارة مدينتنا العربية

رسالة في الجوهري من وجودنا المباشر.. ضوء لإنارة مدينتنا العربية

بعد نحو اثني عشر كتابًا بالعربية، وكتبٍ ودراسات أخرى بالفرنسية، تنتسب في مجملها إلى فضاءات البحث الأكاديمي، يحط المفكر فهمي جدعان رحاله على ضفة البحث الحر، مختارًا عنوان «رسالة» لكتابه الأخير (ونرجو ألا يكون أخيرًا) «معنى الأشياء» الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات...

الهوامش الفلسفية في التراث الشرعي

الهوامش الفلسفية في التراث الشرعي

إن الناظر في التراث الإسلامي يلحظ تسرب بعض المسائل والقضايا الفلسفية إلى العلوم الشرعية وتحديدًا أصول الفقه، وعلوم الحديث. وورود مباحث ومسائل في الأدبيات الشرعية، مما ليس داخلًا في حدود الفن الذي وردت فيه بمعناه الضيق، ليس غريبًا(1)، إلا أن ثمة خصوصيةً في طبيعة...

سيف الرحبي.. هذا الرأسمال الثقافي العربي الكبير

سيف الرحبي.. هذا الرأسمال الثقافي العربي الكبير

أُومِنُ بأن لا شيء يدوم، كل زمن له جيله، بما في ذلك الأزمان الثقافية والمؤسساتية، ومع ذلك، ولأنني أعتبر «نزوى» بيتي الثقافي فقد شعرت بنوع من الحزن الغريب، يتعالى على المنطق، وأنا أقرأ خبر مغادرة الصديق سيف الرحبي هذا النزل الأدبي والفكري العريق، شعور يشبه من يرى بيتًا...

صمتُ الجثة الغريبة بين الغرباء

صمتُ الجثة الغريبة بين الغرباء

(جملٌ يُطلُّ بعنقه الطويل، إلى مئذنةٍ على حافة الصحراء، بسَمْتٍ مهيبٍ كأنما يُصغي إلى النداء الربانيِّ الذي يمنحه العزاءَ والطمأنينةَ بعد رحلته الشاقة في بحر الرمال الغاضب). هذه إحدى اللوحات التي تركها لي كهديةٍ الفنان العراقي الراحل (حَمّادي) الذي صارَ يوقعُ لاحقًا...

السودان: نحو عقد اجتماعي جديد

السودان: نحو عقد اجتماعي جديد

إن التاريخ الاجتماعي السوداني لم يكتب بعد بالطريقة التي تسمح لأي باحث أن ينظر بأدواته نظرة موضوعية غير متحيزة. إن الذي نقع عليه في غالبه تحيزات وانصراف أكثر للمنهج الوصفي الذي من عيوبه أنه يركز على الإجابة على أسئلة «ماذا؟» بدلًا من، ما «سبب؟» موضوع البحث. فالغرض...

«مندوب الليل» فِلْمه الروائي الأول

علي الكلثمي: نعيش عصرًا ذهبيًّا تتوافر فيه سبل الدعم

بواسطة | سبتمبر 1, 2024 | سينما

أوضح المخرج السينمائي السعودي علي الكلثمي، أن المصادفة هي التي أوحت له بشخصية «فهد القضعاني»، مشيرًا إلى التخطيط الدقيق لبناء الشخصية، شكلًا ومضمونًا. الكلثمي تطرق في حواره مع «الفيصل» إلى العناصر المكونة لقصة فِلْمه الروائي الأول «مندوب الليل»، ودلالاتها من موسيقا تصويرية ومواقع تصوير حية وعدسات وزمان ومكان وإضاءة وألوان، بحيث توازنت هذه العناصر وأكملت بعضها وأسهمت في تحقيق رؤية متكاملة تعبر عن رحلة البطل بأسلوب واقعي ومؤثر. وتحدث الكلثمي عن المخاوف التي رافقت عرض الفِلم، محليًّا ثم عربيًّا وعالميًّا، وردود أفعال الجمهور التي عكست الخلفيات الثقافية المتنوعة، مؤكدًا أن لغة السينما والقصص الصادقة قادرة على تجاوز الحدود الثقافية واللغوية، والوصول إلى قلوب الناس وعقولهم في كل مكان، وأن التفاعل الدولي مع الفِلم السعودي يحفز المخرج لصناعة أعمال، تعبر بصدق عن «قصصنا المحلية».

شخصيات من هامش المجتمع

  لنبدأ من أول أفلامك الروائية «مندوب الليل»، الذي يتناول حياة شاب ثلاثيني في ليل الرياض، شاب يفقد وظيفته، بينما يرزح تحت أعباء والتزامات عائلية، بين أبيه المريض وأخته وابنتها. ما التحديات التي واجهتك وأنت تحاول سينمائيًّا تجسيد شخصية فقدت عملها الرئيس ولجأت إلى العمل في مهنة خطرة؟

  عندما بدأت كتابة فِلْم كرنمال (كرنفال + مال) الذي تغير اسمه لاحقًا إلى «مندوب الليل»، مع الكاتب محمد القرعاوي، كانت لدينا العديد من التساؤلات عن فهد ودوافعه، ولكن كنا دائمًا نعود إلى المشهد الأساسي الذي شاهدته أمام عيني خلال إحدى الحفلات، التي كانت مليئة بالمشهورين ولاعبي كرة القدم، ودخل وقتها مندوب توصيل الطلبات إلى منتصف المجلس، وكأنه خيال لا يراه أو يشعر به أحد وظل هائمًا، هل هذا وهم أم حقيقة. هذه اللحظة أثارت فيّ تساؤلات حول الشخصيات التي تعيش على هامش المجتمع وتكافح للنجاة في مهن خطرة.

كان التحدي الرئيس هو كيفية تجسيد هذا الشعور بالاختفاء والانتماء الهش في سيناريو الفِلم. حرصت على أن تكون تفاصيل الشخصية دقيقة وواقعية، بدءًا من طريقة تفاعله مع الآخرين وصولًا إلى تعابير وجهه ولغة جسده. كان من الضروري أيضًا العمل على الجانب النفسي للشخصية، بحيث يظهر فهد شخصية معقدة ومليئة بالصراعات الداخلية، وهو ما يعكس بدقة واقعه الاجتماعي والنفسي.

  الملحوظ أنك تجنبت الوقوع في فخ النمطية من خلال اهتمامك بالتفاصيل، سواء من حيث التصوير أو اختيار الموسيقا، والأهم اختيار الليل، بُعدًا زمانيًّا، أضفى عمقًا ومشاعر مختلفة. كيف وازنت بين هذه العناصر لتحقيق رؤية تعبر عن رحلة البطل؟

  اختيار الليل خلفية زمنية للأحداث كان له دور كبير في إضفاء العمق والمشاعر المختلفة. الليل يضيف بعدًا من الغموض والتوتر، ويعزز من حالة العزلة والوحدة التي يشعر بها فهد. كما أن الإضاءة الليلية والألوان التي استخدمناها، مثل الألوان الخضراء والزرقاء والحمراء، ساهمت في خلق جو درامي يكثف من حالة فهد النفسية ويعكس التحديات التي يواجهها.

على مستوى الموسيقا تعاونا مع الموسيقيين فابيان ومايك كورتزير والموزع الموسيقي محمد الحمدان (أبو حمدان) من أجل صناعة موسيقا أصيلة تجذب المشاهد إلى المعضلات النفسية والعاطفية التي يعيشها فهد وتفاعله مع التحديات التي يواجهها؛ حتى تبني هذا العالم العاطفي الذي يواكب العالم المرئي، الذي صممته نيرفانا الشناوي.

عملنا على خلق توازن بين هذه العناصر من خلال الاهتمام بأدق التفاصيل في التصوير والموسيقا، بحيث تكون كل منها مكملة للأخرى، وتساهم في تحقيق رؤية متكاملة تعبر عن رحلة البطل بأسلوب واقعي ومؤثر.

 

شخصية المكان

  اتخذت من مدينة الرياض خلفية مهمة للأحداث في فِلْمك؛ إذ تبدو أكثر من مجرد مكان؛ فهي تكاد تكون شخصية في حد ذاتها، فكيف تعاملت مع تصوير المدينة وجعلها جزءًا لا يتجزأ من القصة؟ وما الدلالات الرمزية التي يحملها اختيارك لهذه الخلفية المكانية؟

  على الرغم من أن الرياض مدينتي التي نشأت وتربيت فيها ولي فيها أعمق وأدق الذكريات، ولكن خلال التحضير للفِلم، تحديدًا قبل بداية التصوير بثلاثة شهور، كنت أخرج مع مدير التصوير أحمد طاحون، نجوب شوارع الرياض ونتناقش حول طبيعة كل حي وتاريخه على المستويين الاجتماعي والاقتصادي، وحول بعض الذكريات التي تخص كل شارع، وبدأنا في اختيار الشوارع ومواقف السيارات المناسبة للقصة التي تضيف إلى المشاعر الخاصة بكل مشهد.

الرياض في «مندوب الليل» ليست مجرد خلفية للأحداث، بل هي شخصية في حد ذاتها تعكس الحالة النفسية للبطل والتغيرات التي يمر بها. المدينة بشوارعها وأضوائها الليلية تمثل عالم فهد الداخلي المضطرب والمتغير. الدلالات الرمزية لاختيار الرياض كمكان للأحداث تعكس رحلة فهد في البحث عن ذاته والتحديات التي يواجهها في مجتمع سريع التغير. تصوير المدينة بهذه الطريقة كان يهدف إلى إظهار تباين الحياة في الرياض بين الأحياء المختلفة، من الأحياء الفقيرة إلى الأحياء الغنية، وهو ما يعكس التنوع الاجتماعي والاقتصادي في المدينة، ويعزز من واقعية القصة وتأثيرها في الجمهور.

الاعتراف الدولي وتفاعل الجمهور

  حصل «مندوب الليل» على جائزة الجمهور لأفضل فِلم روائي طويل في مهرجان تورنتو السينمائي الدولي 2023م، فكيف تنظر إلى هذا الاعتراف الدولي وما الأثر الذي سيتركه في مسيرتك السينمائية وفي صناعة السينما السعودية عامةً؟

  كان هناك تخوف كبير منذ انطلاقة الفِلْم في المهرجانات الدولية انطلاقًا من أحد المهرجانات ذات التصنيف A عالميًّا، مثل مهرجان تورنتو السينمائي الدولي. والتخوف كان لأننا عندما صنعنا هذا الفِلم كان الهدف هو الجمهور والمشاهد في السعودية، في الدرجة الأولى، فقد حرصنا أن يخاطب الفِلم الجمهور المحلي وأن يكون «مندوب الليل» منتجًا للسوق المحلي. الرائع أنه مع العرض الأول للفِلم في تورنتو، كندا، أذكر أنني جلست في نهاية القاعة الممتلئة عن آخرها وبدأت أتابع ردود أفعال الجمهور، الذي كان ينقسم إلى جمهور كبير في السن يتصدر الصفوف الأمامية، بينما انتشرت الوجوه الشابة في بقية القاعة، وقد كان تفاعل كل منهما مختلفًا تمامًا مع أحداث الفِلْم، ولكن القاسم المشترك بينهم أنهم شعروا بالتعاطف أحيانًا وبالغضب أحيانًا أخرى من سلوكيات وتصرفات فهد القضعاني. وقد كانت الجلسات النقاشية بعد كل عرض من عروض الفِلم متنوعة من حيث نقاش القصة أو الاستفسار عن أماكن التصوير، وهناك من تساءل عن أدوار محمد الدوخي وجميعهم كانوا منبهرين بأن الدوخي اشتهر بالأعمال الكوميدية.

الشاهد أن لغة السينما والقصص كلما كانت حقيقية وأصيلة، لامست الإنسان في أي مكان ومن أي ثقافة. وهذا ما أثبتته لي تجربة «مندوب الليل». لا شك أننا فخورون بكل التقدير والاحتفاء بالفِلم، ولكن يبقى رد فعل الجمهور وتفاعله مع الفِلم وأحداثه وشخصياته هو أكبر تقدير يشبع غرور أي مخرج محب للسينما.

هذا الاعتراف الدولي يعزز من مكانة السينما السعودية، ويحفزني على تقديم المزيد من الأعمال التي تعبر بصدق عن قصصنا المحلية. كما أنه يفتح الأبواب أمام المزيد من التعاون الدولي، ويزيد من الثقة في قدراتنا، نحن صناع السينما، وأننا قادرون على إنتاج أعمال تنافس على المستوى العالمي.

  عرض الفِلم أول مرة عربيًّا في مهرجان البحر الأحمر السينمائي، الدورة الماضية، حصد إعجاب الجمهور، لكنه لم يفز بجائزة أفضل فِلم، ما تعليقك؟

  لا شك أن الدورة الماضية من مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي كانت المنافسة فيها شرسة؛ إذ شاركت العديد من الأفلام السعودية والعربية والعالمية القوية على المستوى الفني. كان هناك مستوى عالٍ من الإبداع والتنوع في الأفلام المعروضة، وهو ما جعل المنافسة صعبة جدًّا. بالنسبة لي، أن يكون العرض الإقليمي الأول لفِلم «مندوب الليل» بين أهله وناسه في السعودية من خلال مهرجان البحر الأحمر هو في حد ذاته إنجاز كبير. هذا التقدير من الجمهور السعودي، ودعم مهرجان البحر الأحمر السينمائي للفِلم، ساهم بشكل كبير في استكمال مسيرة الفِلم ووصوله إلى شريحة واسعة من المشاهدين المحليين.

حصول الفِلم على إعجاب الجمهور هو أمر نفخر به كثيرًا، وهو دليل على أن العمل قد تمكن من لمس قلوب الناس والتواصل معهم بشكل فعال. بالنسبة لي وللفريق، هذا التفاعل الإيجابي من الجمهور هو الجائزة الحقيقية، وهو ما يدفعنا لمواصلة العمل على تقديم قصص تلامس واقعنا وتعبّر عن تجاربنا. في النهاية، عدم الفوز بجائزة لا يقلل من قيمة الفِلم أو تأثيره، بل يزيد من حماستنا للعمل على مشروعات مستقبلية تتحدى معايير السينما، وتواصل تقديم محتوى مميز يلبي تطلعات الجمهور المحلي والدولي.

  عُرِضَ «مندوب الليل» في دول عدة؛ منها مصر وإيرلندا وبريطانيا، كيف تلقيت استجابة الجماهير في تلك الدول؟

  انتابني شعور مختلف قبل عرض «مندوب الليل» في سينما زاوية في القاهرة. كنت قد رزقت بمولودتي الثانية «عزة»، قبل أيام من العرض، وكنت أعيش إحساس الأبوة للمرة الثانية من جديد. حرصت على حضور الجلسة النقاشية مع الجمهور المصري الذي كنت أتساءل في قرارة نفسي هل سيفهم الحوار واللهجة، هل سيتفاعل مع المشاهد التي تكاد تكون مختلفة عن الصورة النمطية للرياض. لكن تفاجأت بردود أفعال إيجابية ونقاش فني عميق مع الجمهور، وهو ما أكد لي أن القصص الأصيلة تستطيع الوصول إلى قلوب الناس في كل مكان.

في إيرلندا وبريطانيا، كان الوضع مشابهًا إلى حد كبير. في دبلن، كان الجمهور متحمسًا لمعرفة المزيد عن الحياة في الرياض، وكيف يجري تصويرها من خلال عيون فهد. النقاشات بعد العرض كانت مثرية حيث استفسر الجمهور عن تفاصيل تصوير المدينة، وكيفية التعامل مع العناصر المختلفة في الفِلم. في بريطانيا، وبخاصة لندن، كان هناك اهتمام كبير بالتفاصيل الفنية للفِلم. النقاد والجمهور على حد سواء أبدوا إعجابهم بالتصوير الليلي واستخدام الألوان لإبراز الحالة النفسية للشخصيات. كان من المدهش رؤية كيف أن تفاصيل دقيقة جدًّا، مثل الموسيقا والإضاءة، قد لاقت استحسان الجمهور ونالت إعجابهم.

بشكل عام، تلقيت ردود أفعال إيجابية جدًّا من الجماهير في هذه الدول، وهو ما يعزز من إيماني بأن القصص الإنسانية قادرة على تجاوز الحدود الثقافية واللغوية، والوصول إلى قلوب الناس في كل مكان. هذا النجاح الدولي يعطينا دفعة قوية للاستمرار في تقديم أعمال تلامس الواقع، وتعبّر عن تجاربنا بأسلوب سينمائي مميز.

وصفة للنجاح

  كيف تبني جسور التواصل والتفاهم مع فريقك الفني لضمان تجسيد رؤيتك السينمائية؟ وما أبرز الصعوبات التي تواجهها في هذا الجانب؟

  بعد الانتهاء من كتابة الفِلم حرصنا، جميع رؤساء الأقسام، على مناقشة الجوانب الفنية ودوافع الشخصيات والمقترحات لأماكن التصوير، التي حرصنا أن تكون مواقع حقيقية دون اللجوء إلى أستوديوهات داخلية. هذه المرحلة من التعاون والتفاهم كانت أساسية لبناء جسور التواصل بيني وبين الفريق الفني، فكنا نتشارك الأفكار ونتبادل الآراء بخصوص كل جانب من جوانب الفِلْم.

أحد أبرز الصعوبات التي واجهناها كانت التحديات اللوجستية. التصوير والتنقل بين المواقع في مدينة الرياض المزدحمة كان أمرًا معقدًا جدًّا، وبخاصة أن الرياض مدينة لا تنام. كما أننا تعرضنا لحادث خلال تصوير مشهد النفق الذي يظهر في افتتاحية الفِلْم، حيث كان هناك خلل في تركيب إحدى رافعات الكاميرا وسقطت، ومعها أحد المصورين، ولكن بفضل الله لم تكن هناك إصابات. كانت هذه الحادثة صدمة لنا جميعًا، وتوقفنا أيامًا عدة لإعادة ترتيب أوراقنا والتركيز على تطبيق معايير أمن وسلامة تحافظ على الجميع.

  كيف تقيم النجاح التجاري للفِلم؟ وإلى أي حد تَتحققُ الموازنة بين النجاح التجاري والنجاح الفني في السينما السعودية الحديثة؟

  لأني منتج تنفيذي لفِلم «مندوب الليل» والعديد من الأفلام من إنتاج أستوديو تلفاز١١، أعتقد أن المخرج عليه مسؤولية أن يتعامل بواقعية مع المعطيات الخاصة بالفِلم، سواء كانت الميزانية أو تكاليف الإنتاج وغيرها. وأعتقد أننا نعيش عصرًا ذهبيًّا تتوافر فيه سبل الدعم والإمكانات كافة لكي يعمل المخرجون على قصص سعودية أصيلة.

حرصنا على تقديم حملة تسويقية للفِلْم تجذب المشاهد المحلي وتمنحه الثقة في مشاهدة فِلم سعودي، بما يسهم في زيادة المداخيل الخاصة بالفِلم من شباك التذاكر. ولأكون صادقًا، لم نكن نتوقع هذا الإقبال الكبير، وأن يكون «مندوب الليل» أعلى افتتاحية لفِلم سعودي على الإطلاق. إن النجاح التجاري للفِلْم كان مصحوبًا بردود أفعال إيجابية من النقاد والجمهور، وهو ما جعلني أُومِن أكثر بأن تحقيق التوازن بين النجاح التجاري والنجاح الفني ممكن جدًّا في السينما السعودية الحديثة.

النجاح التجاري للفِلم يمنحنا الموارد والإمكانيات للاستمرار في إنتاج أعمال فنية متميزة، بينما النجاح الفني يساهم في بناء سمعة السينما السعودية وجذب اهتمام النقاد والجمهور العالمي.

التقنية في خدمة القصة

  تطور التقنية في صناعة السينما يفتح آفاقًا جديدة للإبداع. كيف تتعامل مع التقنيات الرقمية محتفظًا بالعمق الفلسفي والأدبي في أعمالك؟

  حرصنا خلال مرحلة التحضير على الاستعانة بالعديد من الوسائل التقنية الخاصة بتصميم المشاهد حتى تكون الرؤية الفنية واضحة لأعضاء فريق العمل. على سبيل المثال، استخدمنا تقنيات الرسوم المتحركة التوضيحية (Previsualization) لتحديد كيفية تحرك الكاميرا وتوزيع الإضاءة قبل البدء في التصوير الفعلي. هذا ساعد في تقليل الأخطاء وزيادة الكفاءة في وقت التصوير.

ومع ذلك، كنت حريصًا على العودة إلى أساسيات السينما خلال التصوير. استخدمنا عدسات كلاسيكية من طراز Cooke Panchro، التي تعطي المدينةَ الطابعَ الحاد والدقيق الذي اشتهرت به تلك العدسات. هذه العدسات ساعدت في الحفاظ على الطابع الكلاسيكي للصورة، وأضفت لمسة من الأصالة والعمق البصري على المشاهد.

تكمن القدرة على الحفاظ على العمق الفلسفي والأدبي في الأعمال السينمائية في كيفية دمج التكنولوجيا مع الرواية الأصيلة. التقنية توفر الأدوات لتحسين الجودة البصرية والتنفيذ الفني، لكن الفلسفة والأدب يأتيان من القصة نفسها، من الشخصيات، من الحوارات، ومن اللحظات الإنسانية التي تنقل المشاعر والأفكار بصدق. لهذا، كنت أحرص دائمًا على أن تكون التقنية في خدمة القصة، وليس العكس، وهو ما يضمن أن يبقى العمل السينمائي محملًا بالعمق والمعاني التي نسعى لإيصالها. بهذا الأسلوب نتمكن من الاستفادة من التقنيات الحديثة لتعزيز تجربتنا الإبداعية من دون التضحية بالجوهر الفلسفي والأدبي للأعمال.

  تشهد السينما السعودية نهضة ملحوظة في السنوات الأخيرة. كيف تنظر إلى هذه التحولات فنيًّا؟ وما التطلعات التي تسعى إليها لتعزيز هذا الاتجاه ولإحداث تأثير دائم في الثقافة السينمائية المحلية؟

  أعتقد أننا جيل محظوظ لأننا واكبنا انطلاقة الإنترنت والثورة المعلوماتية، وكانت انطلاقتنا على اليوتيوب فرصة للتواصل مع الجمهور السعودي وبناء علاقة فنية قوية. كنا نتناقش في قضايا تشغل بالنا وتهمنا جميعًا. ومع عودة السينما بقوة، كانت هناك فرصة لنحكي قصصًا تشبهنا وتعبر عن واقعنا وتطلعاتنا.

التحولات التي تشهدها السينما السعودية فنيًّا تتميز بالتنوع والإبداع. نشهد حاليًّا إنتاج أفلام تعبر عن مجموعة واسعة من الموضوعات والقضايا الاجتماعية والثقافية. هذا التنوع يعزز من قوة السينما السعودية، ويساهم في جذب جمهور متنوع. كما أن الدعم المتزايد من المؤسسات السينمائية والمهرجانات الدولية والمحلية يسهم في رفع مستوى الإنتاج السينمائي، ويوفر فرصًا للمخرجين والمنتجين السعوديين لتقديم أعمالهم على منصات أوسع.

التطلعات التي أسعى إليها لتعزيز هذا الاتجاه تتضمن محاور عدة:

دعم المواهب الشابة: الاستمرار في توفير برامج تدريبية وورش عمل للمواهب الشابة في مختلف مجالات صناعة السينما، من الكتابة والإخراج إلى التصوير والمونتاج؛ لتمكينهم من تطوير مهاراتهم وإبداعاتهم.

التعاون الدولي: تعزيز التعاون مع صناع السينما الدوليين لتبادل الخبرات والتجارب، وهو ما يساهم في رفع مستوى الإنتاج السينمائي المحلي، ويساعد في نقل القصص السعودية إلى جمهور عالمي.

تقديم قصص أصيلة: التركيز على تقديم قصص تعبر عن التجارب والواقع المحلي بصدق وأصالة. القصص التي تنبع من الثقافة والتاريخ السعودي لها قدرة كبيرة على التأثير والوصول إلى قلوب الناس في كل مكان.

تطوير البنية التحتية: الاستمرار في الاستثمار في تطوير البنية التحتية لصناعة السينما في السعودية، من خلال بناء أستوديوهات ومرافق إنتاج متقدمة، وتوفير المعدات الحديثة التي تساهم في تحسين جودة الإنتاج.

زيادة الدعم المالي: توفير برامج التمويل المتنوعة لصناع الأفلام السعوديين، وهو ما يمكنهم من إنتاج أعمال ذات جودة عالية تستطيع المنافسة على المستوى الدولي.

من خلال هذه الجهود، نسعى إلى إحداث تأثير دائم على الثقافة السينمائية المحلية، بحيث تصبح السينما وسيلة فعالة للتعبير عن الهوية والثقافة السعودية، وتساهم في تعزيز الوعي والفهم بين الثقافات المختلفة. نحن نطمح إلى أن تصبح السينما السعودية جزءًا مهمًّا من المشهد السينمائي العالمي، وأن تكون لدينا أفلام تتحدث عن تجاربنا وقصصنا بصوت قوي وواضح.

السينما وقضايا الوجود والمجتمع

  يتطلب الفن الشجاعة لاستكشاف المناطق المظلمة وغير المألوفة في النفس البشرية، بصفتك مخرجًا، كيف ترى تأثير السينما والأفلام ودورها في تشكيل الوعي الجمعي والثقافي داخل المجتمع؟

  الفن بأشكاله كافة له دور مهم في بناء الوعي الثقافي وتشكيل الوعي الجمعي داخل المجتمع. السينما، بوصفها أحد أشكال الفن الأكثر تأثيرًا، تمتلك قدرة فريدة على نقل التجارب الإنسانية والمعاناة والأفراح إلى الجمهور بطرق تجعلهم يشعرون ويتفاعلون مع القصة بشكل عميق.

لقد تربيت في مجلس والدي الذي كان راويًا متمرسًا يقص قصصًا من التاريخ، ويروي حكايات ونوادر من الأدب، وقد رأيت كيف كان يوظف تلك القصص والروايات في نشر الوعي عن قيمة اجتماعية أو فضيلة معينة، وكيف كان يستخدمها أحيانًا في تهدئة النفوس بين المتخاصمين وإصلاح ذات البين. هذه التجربة أثرت فيّ تأثيرًا كبيرًا وزرعت فيّ الإيمان بقوة السرد القصصي في تغيير القناعات وتعزيز الفهم.

أعتقد أن السينما تمتلك القدرة على استكشاف المناطق المظلمة وغير المألوفة في النفس البشرية، بطرق تجذب الجمهور وتجعله يفكر في قضايا قد لا يكون على دراية بها. من خلال الشخصيات المعقدة والمواقف الصعبة التي يجري تصويرها في الأفلام، يمكننا أن نعرض جوانب من الحياة الإنسانية التي قد تكون مخفية أو مغمورة في الظل. هذا يساعد في زيادة التعاطف والفهم بين الناس، ويعزز من الوعي بالقضايا الاجتماعية والنفسية.

على سبيل المثال، في فِلم «مندوب الليل»، حرصنا على تقديم شخصية فهد القضعاني بواقعية وصراحة، بما فيها من تناقضات وصراعات داخلية. كانت حواراتي مع محمد الدوخي خلال التحضير للشخصية تهدف إلى إبراز هذه الجوانب المظلمة من خلال علاقته بأبيه ومحيطه الاجتماعي. اقترح الدوخي أن يكون فهد بارًّا بوالده؛ لأننا لا نريد أن نرى الشر مطلقًا ولا الخير مطلقًا، بل نريد أن نعرض الشخصية بكل تناقضاتها الإنسانية.

من خلال السينما، نستطيع أن نثير تساؤلات حول قضايا الوجود والمجتمع ونحفز التفكير النقدي والتأمل العميق. الأفلام تساهم في تشكيل الوعي الجمعي من خلال طرح قصص تعكس تجارب الناس ومشاعرهم بطرق تجعلهم يرون الأمور من منظور مختلف. هذا يساعد في بناء مجتمع أكثر تفهمًا وتسامحًا، ويعزز من التواصل الثقافي بين الأفراد.

بوصفي مخرجًا، أسعى دائمًا إلى تقديم أعمال تثير التساؤلات أكثر من تقديم الإجابات؛ لأن الفن في جوهره يسعى إلى استكشاف المجهول وحَفْز النقاش والتفكير. أعتقد أن هذا هو الدور الحقيقي للسينما والأفلام في تشكيل الوعي الجمعي والثقافي داخل المجتمع.

  يسعى الفن بطبيعته إلى إثارة التساؤلات أكثر من تقديم الإجابات، فما الأسئلة الكبرى التي تأمل أن تثيرها من خلال أفلامك؟ وكيف ترى دور السينما في حَفْز التفكير النقدي والتأمل العميق في قضايا الوجود والمجتمع؟

  في هذه المرحلة، كوني أعيش شعور الأبوة من جديد مع بنتي عزة وأخيها عزيز، أجد أن كثيرًا من التساؤلات في ذهني تدور حول الأسرة ومستقبل أبنائنا. من خلال أفلامي، أسعى إلى إثارة تساؤلات حول القيم الاجتماعية، الهوية، والتحديات التي يواجهها الأفراد في مجتمعنا الحديث. أتساءل عن تأثير التغيرات الاجتماعية والثقافية في الأسرة والعلاقات الإنسانية، وكيف يمكننا الحفاظ على التوازن بين التقاليد والحداثة.

  أحد الأسئلة الكبرى التي أطمح إلى إثارتها هو كيف يمكن للفرد أن يواجه تحديات الحياة المعاصرة دون أن يفقد هويته وقيمه. كيف يمكننا التعامل مع الضغوط النفسية والاجتماعية التي تفرضها الحياة الحديثة؟ وما الدور الذي تؤديه العلاقات الإنسانية في تحقيق التوازن والسعادة في حياتنا؟

  السينما تشجع على التفكير النقدي من خلال طرح قضايا معقدة دون تقديم حلول جاهزة، وهو ما يدفع المشاهدين إلى تحليل الأحداث والشخصيات ومحاولة فهم الدوافع والنتائج. هذه العملية تعزز من قدرتهم على التفكير النقدي وتطوير وجهات نظرهم الخاصة. بصفتي مخرجًا، أهدف إلى تقديم أفلام تحفز الجمهور على التفكير والتساؤل والتأمل؛ لأنني أُومِن بأن الفن الحقيقي هو الذي يثير النقاش ويحفز العقل والروح.

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *