كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
العمارة.. ذاكرة الإنسان والمكان والزمان
ارتبطت فنون العمارة بطبيعة الحياة الإنسانية في مختلف الحضارات والثقافات، وهي كأي منتج بشري آخر تتأثر بالبيئة التي نشأت فيها، وبالظرف التاريخي الذي تشكلت فيه، وبالأبعاد الفكرية والثقافية والاجتماعية التي حددت أطرها الفنية والجمالية والهندسية من جهة، ومهامها الوظيفية من جهة أخرى. ومنذ أن عرف الإنسان فنون العمارة في الحضارات القديمة وصولًا إلى العصر الحديث والمعاصر، كانت العمارة -على الرغم من بنيتها الهندسية- مرتبطةً ارتباطًا وثيقًا بالفنون، وبخاصة فنون النحت والرسم، التي تَضافَرَ وتَداخَلَ فيها كثيرٌ من العوامل الإبداعية والجمالية التي لم تنشغل فقط بالقواعد الهندسية، بل تجاوزت ذلك إلى الاهتمام بالمكونات البيئية والمكانية والشكلية وتوظيفها بحسب الحاجات والأغراض الإنسانية التي أُنشِئَت من أجلها.
وربما لتلك الشمولية التي امتزجت فيها المدلولات ذات العلاقة بالإنسان والمكان والزمان كان يعدُّها الفيلسوف الألماني الشهير فريدريش هيغل فنًّا قائمًا بذاته، وركيزة أساسية في تاريخ الفنون؛ لكونها مزجت بين ما هو مادي وحسي ومعنوي، ولأنها أيضًا استطاعت أن تعبّر عن مخزون الحضارات الإنسانية من خلال تشكيلات بصرية تمثّل في مجملها منجزات فنية أكثر منها هندسية.
وعلى الرغم من المعاني الإيجابية الكامنة في هذه النظرة الفلسفية العميقة لفن العمارة، وبالنظر إلى ما تركته لنا الحضارات القديمة، وكذلك الحضارة الإسلامية من إرث يؤكد العلاقة المتجذرة بين العمارة بوصفها عملًا هندسيًّا والفن بوصفه عملًا إبداعيًّا، فنجد أن المعطيات الحديثة أحدثت تأثيرًا واضحًا في الصورة الذهنية الراسخة عن هذه العلاقة، حيث انحازت العمارة المعاصرة للمفاهيم الاقتصادية بطرق وأساليب مختلفة، وخضعت بنسبة كبيرة لمفاهيم تجارية أبعد ما تكون من القيم الجمالية والفنية التي كانت جزءًا أساسًا من تكوينها الهندسي والحضاري على مر العصور.
ومع ذلك استطاعت عوامل الحياة الحديثة بما فيها من استخدامات عصرية وعملية للتكنولوجيا والتقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي أن تُحدث ما يشبه الثورة في فنون العمارة. وقد أفادت الهندسة المعمارية من تلك العوامل إفادةً كبيرةً، ويظهر ذلك في كثير من التصاميم الحديثة المدهشة التي وُظفت فيها التكنولوجيا لخدمة فنون العمارة. ولكن النسبة الكُبْرى من المشتغلين بهذا المجال انشغلوا بمتطلبات العمارة الوظيفية وأغراضها التي لم تُقِمْ وزنًا للقيم الجمالية، ولم تستفد كما ينبغي من التقدم التكنولوجي.
ولأن العمارة بتاريخها الممتد في الذاكرة الإنسانية تحتاج من وقتٍ لآخر إلى وقفة للتأمل والنقد ومتابعة التحولات، فقد خصصنا ملف هذا العدد من مجلة «الفيصل» للحديث عن فنون العمارة من زوايا مختلفة، ومن خلال رُؤى عدد من المثقفين والمختصين؛ لتسليط الضوء على مراحل تطورها منذ الحضارات القديمة حتى الوقت الحاضر.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق