كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
«النماذج العليا» لدى سيف الرحبي… إشكاليات القراءة وآليات التأويل
تفتّح وعي الشاعر العُماني سيف الرحبي على الكتابة الشعرية في حقبة السبعينيات، «البينية» الواقعة بين مطرقة الستينيات المتخمة بسردياتها الكبرى عن التحرير والتنوير والقومية العربية، وسندان الثمانينيات والتسعينيات المتطلّعة إلى بريق الحداثة وغوايتها. لقد تشكّلت جماليات قصيدة الرحبي في فضاء السبعينيات، بكل ما شهدته الحقبة من تحولات أيديولوجية وسياسية عربية طالت مفاهيم الفن والثقافة والسياسة، فانفتح وعي هذا الجيل الشعري على إبداعات الآخر الأدبية والفكرية والفلسفية قراءةً وترجمةً واقتباسًا، وأدرك الرحبي وبعض رفقائه الذين تعايش معهم من الشعراء المصريين من أمثال: حلمي سالم وعبدالمنعم رمضان ورفعت سلام وحسن طلب، وغيرهم، أنهم يعيشون زمنًا مختلفًا تبدّدت فيه المقولات الكبرى والسرديات الجليلة التي راجت في زمن الستينيات؛ وهو الأمر الذي أسهم في إثراء لعبة الكتابة المعاصرة لدى شعراء الجيل بصفة عامة، وفي بنية القصيدة عند سيف الرحبي بصفة خاصة. لقد أدرك الشعراء آنئذ أن أزمة تلقّي الكتابة الشعرية الجديدة تكمن في قيمة المغايرة لا القطيعة المعرفية الجذرية، في التجدّد «الفينيقي» لا التكرار والتناسخ والتقليد الأعمى.
رؤية عدمية بمسحة تصوفية
لم يكن الشاعر لدى سيف الرحبي «نبيًّا» يُوحَى إليه، ولا حكيمًا «يُؤتَى الحكمة وفصل الخطاب»، كما تنطق بذلك قصائده، بل هو شبيه بابن نوح، الباحث عن جبل يعصمه من طوفان التحديث المفزع، اللاهث وراء ناطحات السحاب والأبنية المسلحة وأسطح المباني المحدّقة في فراغ المدينة العربية. وليس من الغريب أن تكون الرؤية التي تنطوي عليها نصوص الرحبي، الشعرية والسردية والتأمّلية، رؤية عدمية مركّبة؛ أي رؤية تلتقي جذورها وأنساغها (ونماذجها العليا، كما يفترض كتاب الهواري غزالي الذي نحن بصدد مراجعته الآن) بمسحة «تصوفية» في جانبها الأول، ورؤيا «نبوئية» في جانبها الثاني، ولمسة «واقعية مادية» في وجهها الثالث، وهلمّ جرًّا.
عندئذ، تتمثَّل قصيدة الرحبي، بتغيّراتها وانحرافاتها وانكساراتها الأسلوبية والصُّورية، حركة أمواج البحر الهائج في تقلّبه بين مدّ وجزر. ففي قصيدته بعض من أنفاس روحانية وإشارات إلهية وغربة وجودية على طريقة التوحيدي وهايدغر وكيركغارد، وبها بعض من تأمّلات وبعض من يوميات ونُتَف من مذكرات وركام من مرويّات الأسلاف وهذيانات الأوّلين، وبها مديح للرؤيا الاستبصارية واستهجان للغنائية العمياء، وبها تأريخ للذات وتجاهل للتاريخ الرسمي والمدوّن، وبها انحراف عن عمود اللغة الشعرية العليا، بمفهوم جون كوين؛ أقصد إلى ابتعاده من اللغة ذات البنية مسبقة التخطيط التي تحبك الأنساق الصغرى والكبرى بدقّة مصنوعة أو صنعة دقيقة. بها نزوعات شتّى نحو سردية مغايرة تسعى إلى اكتفاء كل نص بذاته، وفي ذاته، اكتفائه بكينونته المستقلة. إنّها قصيدة تشتغل على مبدأ التشظّي والانفلات قبل بلوغ مرحلة التوحّد والاندماج.
مغامرة نقدية
في هذا السياق المنفتح على قصائد سيف الرحبي، يمكن لنا قراءة كتاب الباحث والناقد الجزائري الهواري غزالي بعنوانه الطويل «مدخل إلى الأدب الرمزي الخيميائي في استخلاص النماذج العليا عند سيف الرحبي»- الصادر عن دار «الآن ناشرون وموزعون»، الأردن، 2024م، الذي يناقش فيه موضوعًا دقيقًا هو محاولة تأطير فكرة النماذج العليا، أو «النمط البدائي/ الأصلي Archetype» بمصطلح نورثروب فراي، وهو موضوع يتصل بطبيعة النقد الأسطوري الذي يتّكئ على مقولات صاغها علماء وفلاسفة ومفكّرون ونقّاد بحثوا في «المتخيّل» وفي حدود صلته بعالم الأحلام والثيمات الأسطورية وقضايا الإبداع.
ويُعَدّ كارل يونغ أبرز من مهّد الطريق لنشأة هذا الحقل المعرفي بدراساته وأبحاثه حول الأحلام والأساطير والمتخيّل الجمعي. وهو مبحث نقدي وحضاري أسهم فيه أيضًا الفرنسي غيلبير دوران وغيره ممّن عمّقوا هذا الاتجاه في المسار العلمي الذي حفرت فيه المدرسة الفرنسية في الأدب المقارن.
بناءً على هذا التصور النظري، يحفر الباحث الهواري غزالي في أنساغ المرجعيات الشعرية للشاعر العُماني المعاصر سيف الرحبي والشاعر الأندلسي والكيميائي والأديب علي بن موسى بن أرفع رأس الجيّاني (ت: 1197م) صاحب كتاب «شذور الذهب في صناعة الكيمياء» الذي حققه المؤلف أيضًا. لكنّ قدرًا كبيرًا من مغامرة هذه التجربة النقدية -وكل تجربة نقدية هي تجربة في القراءة والتأويل- هو مقاربتها بين شاعرين بينهما بون زمني شاسع، بحيث تفترض المعالجة النقدية انطلاقهما من مرجعيات ثقافية متشابهة تتصل بسيمياء الخلق وكيمياء التكوين، فضلًا عن التقاء الشاعرين (في وعي الناقد) بأفكار عالِم النفس التحليلي السويسري كارل يونغ، خصوصًا في اشتغاله على «اللاوعي الجمعي» الذي يصله المؤلف بأصول علم الكيمياء القديم. كم هي مغامرة نقدية لافتة، تمتلك غوايتها، لكنها أيضًا مقامرة ذات خطورة منهجية سوف نكشف عنها لاحقًا.
يتكوَّن الكتاب صغير الحجم الذي لا تتجاوز صفحاته المئة صفحة، من مقدمة موجزة وثمانية مداخل قصيرة جدًّا، هي: جوهر إشكالية الكتاب: عودة إلى متحف الأورانجري بباريس، بين سيف الرحبي وابن أرفع رأس وكارل يونغ، في نظرية كارل يونغ، الأكواريوم: تحولات الفكرة من الماء عائدة إلى الشجرة، عندما يعيد الشاعر الحوت إلى سيرته الأولى، الشاعر مصطحبًا التنّين إلى بيته في الماء، لا شيء بعد الخطيئة الأولى يمكن أن يمازج ماء الفضة سوى الغراب، التوازن وكيمياء التراكيب بالعدل.
قراءة تناصية
يستهلّ المؤلف كتابه بالحديث عن رحلة جمعته بسيف الرحبي في باريس، حيث أُتيح له الاقتراب منه كثيرًا حدّ ملاحظة ما كان يمارسه الشاعر من طقوس يومية تكاد تكشف للباحث والناقد عن رؤيته للعالم والأدب والفن، تلك الرؤية التي يمتزج فيها حب المدن الصاخبة بسيمياء الحداثة برومانتيكية العزلة الوجودية والنزوع الدائم إلى الطبيعة البكر. من جهة مقابلة، يربط الباحث بين شعر سيف الرحبي وشعر أرفع رأس من خلال زيارة قام بها إلى متحف الأورانجري في باريس، حيث كانت تترى هناك مشاهداته التأمّلية لعدد من اللوحات الفنية التي تحمل أسماء طائفة من الفنّانين الطبيعيين (أو الانطباعيين) الفرنسيين من أمثال كلود مونيه وغيره. وهي زاوية لافتة للنظر في شعر سيف الرحبي. بيد أن المؤلف يضع إلى جوارها مقاطع متتالية من شعر أرفع رأس بشكلانيّته العمودية، ليخلص من هذه المجاورة أو المحاورة أو المقارنة إلى وجود ثلاث حركات مفصلية تجمع بين رؤيتي الشاعرين: «الحقيقة الوجودية»، «أعماق النفس الإنسانية»، «السماء». وهي قراءة نقدية ذات نزوع حضاري أو أسطوري «أركتايبي» تعتمد كثيرًا في إستراتيجياتها على تفعيل آليات التناص الذي يجعل من النصوص المتقاطعة -على الرغم من تباعدها التاريخي والجغرافي والثقافي- متنًا نصيًّا عريضًا لا فارق فيه بين نسيج لغوي يمثّله شعر الشاعرين وآخر بصري أو فني تمثّله لوحات الفنانين الانطباعيين الفرنسيين.
بيد أن هذه القراءة التناصية (الثقافية)، التي تحفر في تأسيس مرجعياتها الثقافية والحضارية والميثولوجية، تعتمد على مبدأ سيكولوجي محوري يمتاح من أفكار كارل يونغ، بُغية إقامة علاقة مباشرة بين علم الكيمياء القديم (كما عرفه العرب) والمتن الشعري العربي واللاوعي الجمعي. لكنّ شعورًا متناقضًا سوف ينتاب القارئ في كون سيف الرحبي الذي يحمل غلاف الكتاب الأمامي اسمه والغلاف الخلفي صورته جالسًا على أريكة متأمّلًا في فضاء أخضر مفتوح على الأفق المترامي الأطراف، لا يحضر إلا بوصفه هامشًا، محض هامش، لمتن نصّي آخر هو شعر أرفع رأس الذي يبدو أن الباحث قد أفاض في تحليله وتشريحه أولًا قبل الوقوف على مدونة سيف الرحبي الشعرية بفارق زمني. وهذا أمر لافت للنظر، ولا أجد له تفسيرًا منهجيًّا سوى قوة حضور اسم سيف الرحبي بوصفه شاعرًا ومثقفًا عربيًّا معاصرًا.
صور وتمثيلات شعرية
في هذا الكتاب حضور لمقاطع تحليلية تأملية بديعة، لكنها تبقى مجرد مقاطع متناثرة لا تؤلف سياقًا كليًّا يمكّن القارئ من متابعة شعر سيف الرحبي في مرآة الناقد (الأركتايبي) التي ينعكس عليها تحليله لمفهوم «النماذج العليا». يسعى الكتاب إلى تأسيس فكرة الدراسة الكيميائية للشعر العربي من خلال حديثه عن مقال قديم كتبه أحمد أمين في مجلة «الرسالة» (القاهرة) عام 1935م بعنوان «كيمياء الأفكار والعواطف». وهي فكرة على الرغم من طرافتها فلا تعدو أن تكون -في رأيي النقدي- مجرد شكل من أشكال المجاز اللغوي. فليس ثمة مذهب كيميائي في النقد -في حدود معرفتي- إلا على سبيل التمثيل المجازي لا على سبيل الوجود النظري والتأطير المنهجي والممارسة الإجرائية.
في هذا الكتاب، سوف يكتسب مفهوم «النماذج العليا» أو «الأركتايب» قيمته من حيث كونه رواسب أو أحفوريات نفسية جمعية لتجارب ابتدائية شعورية تشكّل صورًا وموتيفات لا تُحصَى، شارك فيها الأسلاف في عصور بدائية مغرقة في القدم، بحيث إنها ترسّبت في أنسجة الدماغ البشري، وأصبحت نماذج أساسية قديمة تُحيل إلى تجربة إنسانية مركزية تتصل بجذور كل نص شعري أو أدبي.
من هنا، يتقصّى الباحث في كتابه عددًا من الصور والتمثيلات الشعرية المتواترة في مدونة سيف الرحبي، في محاولة لضم خيوط وأنساغ شعرية متشابهة لدى الرحبي وابن أرفع رأس معًا؛ من قبيل: «الأكواريوم» (صورة الماء في تجلياته المختلفة)، النسر، الغراب، الحوت، التنّين، الشجرة الأم، وغيرها من صور وتمثيلات يتتبعها الباحث بمهارة في مقابل رصده الذكي للغياب التام لتمثيلات النار، أمام الحضور الغزير لرمزية الماء بتجليات شتّى. ثمة جذور نسقية تكمن في سعي الباحث إلى تحليل الأبنية وتتبّع الأنساق المضمرة في شعر الرحبي وأرفع رأس معًا، وهذا ما يتجلّى في انتقالهـ(ما) الدائم من الظلام إلى مصدر النور، ومن الغموض إلى منبع الحقيقة، ومن مملكة الحيوان كالغراب وغيره إلى جوهر الإنسان الكامل أو العقل.
يخلص كتاب الهواري غزالي إلى إدراك فلسفة التوازن وكيمياء التراكيب بالعدل، إذا استخدمنا لغة الكتاب النقدية. وهي فلسفة تمتاح من نهر التصوف العربي الكبير الذي يستبطنه شعر أرفع رأس وسيف الرحبي معًا استبطانًا دالًّا يطفو على السطح بين آنٍ وآخر حاملًا معه مرجعيّته الثقافية والحضارية لدى كل منهما.
هذا كتاب مُهِمّ، على الرغم مما أبديناه عليه من ملحوظات تتصل بالمنهج، أو طريقة التناول، أو المعالجة النقدية، أو جعل أحد الشاعرين يحتلّ صدارة المتن النقدي ويتراجع الآخر إلى موقع الهامش. بيد أنه – رغم ذلك كله- كتاب جدير بالقراءة والتأمّل وفحص المقولات التي يطرحها الباحث هنا وهناك.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم: القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق