كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
«إننا نُزوِّر العالم كي نفهمه»… قراءة في مفهوم غسان كنفاني للمقاومة
أحاول في هذه القراءة تتبع بعض الأفكار الرئيسة في أدب وحياة غسان كنفاني التي توضح مفهومه للمقاومة، متنقلًا بين أعماله الإبداعية والنقدية وسيرته الذاتية، باعتبارها كتلة واحدة. تتخلل القراءة بعض الأفكار والمفاهيم المتصلة بالمقاومة: العنصرية، القضية، العلاقة بين الوطن والمرأة، الصدفة، الحقيقة النسبية، قداسة الحب، الواقع والخيال، وغيرها من الأفكار التي كانت جزءًا من رحلة حياته المختصرة.
من الحماسة إلى الحزن العميق
يكتب غسان كنفاني واصفًا أدب المقاومة الذي نشأ بأثر من نكبة فلسطين: «تحول أدب المقاومة بعد الخمسينيات من الحماسة إلى الحزن العميق. بعد الشعر الحماسي الذي شهدته أوائل الخمسينيات، حطم شعراء المنفى -على الأخص- العمود التقليدي من حيث الشكل، وغادروا الحماس الذي وجدوا فيه، لمرحلة من المراحل، تكذيبًا شخصيًّا للكارثة، إلى نوع فريد من الحزن العميق»(1).
استُبدِلَت بالحزن العميق، الذي يعبر عن وعي إنساني فردي، الحماسةُ التي تعبر عن وعي قومي. هذا «الحزن العميق» لا يُوصَل إليه إلا بتمكنه من ذات إنسانية مجردة منحتها النكبة صفاء وتواضعًا في النظرة، جعلتها تنظر في عين النكبة بدلًا من تكذيبها وعدم تصديقها، كما كانت تفعل الذات الجماعية الحماسية، التي كانت تتعالى وتكذب الكارثة، فيصبح الحزن العميق أداة من أدوات هذه الذات للحوار مع الكارثة.
هذا الوعي الفردي يغلف كل كتابات غسان كنفاني الإبداعية والنقدية والسيرية، ولن يتخلى عن هذه النبرة بكل تردداتها، وبها ينضم إلى قبيلة فريدة من الكتاب الفلسطينيين الذين امتلكوا هذه النبرة الذاتية الحزينة والمتسائلة، منهم الشاعر محمود درويش والروائي حسين البرغوثي على سبيل المثال. ربما أهم ما صاغ هذه الفردانية وأحدث بها طفرة في طريقة النظر للعالم وللقضية، هو المنفى، كما حدث مع غسان كنفاني، أو السجن، كما حدث مع محمود درويش وتلاه المنفى، فالمسافة مع الوطن المحتل، داخليًّا وخارجيًّا، كانت السبب في هذا الانقلاب النفسي والرؤيوي.
من النكبة إلى القضية
يكتب غسان: «كانت مرحلة عدم التصديق قد انتهت نهاية مريرة حيث صار الواقع أكبر حجمًا من أن يغطى بالتجاهل».(2) «ووجد الشعراء العرب أنفسهم، على وجه الخصوص، يواجهون ما بات يصطلح على تسميته الآن بـ «القضية».(3)
يلتقط غسان هذا التحول في صورة الواقع أدبيًّا عبر قراءته لتجربة محمود درويش، واكتمال ظهور مصطلح «القضية»، بعد أن سيطر قبلها مصطلح «النكبة». تشير «القضية» رمزيًّا إلى قاعة محاكمة، وقضاة ودفاع واتهام، وهو ما سيظهر في رواياته بعد ذلك، فمفهوم القضية، كمفهوم كليّ، له أوجه عدة متشابكة، بتعدد عناصره، وبنسبية الحقيقة التي تعتبر جزءًا مؤسسًا فيها.
يكتب عن محمود درويش، الذي تعامل مع هذه «القضية»، ليس كحالة معرفية فقط، بل كحالة وجدانية متفردة: «شدني في شعر درويش، الذي قاله في أواسط الستينات، ذلك المزج العميق، الهادئ المتدفق بين المرأة والوطن، ليجعل منهما قضية الحب الواحدة التي لا تنفصم»(4). القضية بهذا المعنى مكان للمزج، بين ذات وقضية كلية، كالوطن، أو المرأة: «وقفة الدرويش حين لا يجد فرقًا بين حبه لوطنه وحبه لامرأة»(5). فقد قارب درويش بين المرأة/ الغزل وبين الوطن، وهنا اكتمل مفهوم القضية الذي لا يمكن أن ينهض بمفرده إلا بتشابك ومزج بين الذات والموضوع، اللذين بدورهما لا يمتزجان إلا في وجود فقد ما.
المزج بين الذات والموضوع
«في النصف الأول من 1966 أودع الشاعر محمود درويش السجن في الأرض المحتلة، ويبدو أنه في إقامته الطويلة هناك بلور الصورة النهائية لذلك المزج المنطقي العميق بين الشخص، والأرض، العلاقة الفردية، والعلاقة مع الوطن، الشخصي والشعب»(6).
بالنسبة لغسان فإن درويش هو مثال الالتقاء والمزج بين الذاتي والموضوعي، عبر تجربة السجن، أو النفي، التجربة التي تحمل هذا الجانب الوجودي المتوتر، فيتم تعبيد الأرض النفسية ليحدث المزج بين هذه الكليات دون أن تمحي ذاتية/ فردانية الشاعر؛ فالذاتية تعرض نفسها هنا في شكل قضية كلية، كالحب. الحب هو الهوية الشاملة المقدسة التي تتجاوز أي هويات أخرى وتجمع داخلها الوطن والمرأة والأرض والمقاومة. ربما اتخذ غسان كنفاني من درويش «آخر» شبيهًا، أو مرآة، يرى فيها صورته وتصوره عن مفهوم المقاومة.
الآخر الصهيوني
لا يركز غسان في كتاباته النقدية التي تخص أدب المقاومة على خطاب الذات المقاوِمة، وتجلياتها، بل على الآخر/ النقيض، الذي كان السبب الرئيسي لنشوء مصطلح «القضية». في كتاباته النقدية نلحظ اعتناء بدراسة ونقد الكتابات اليهودية الروائية التي تتسم بالعنصرية وتخلط بين الدين والعرق؛ لذا حاول في أعماله وقراءاته النقدية أن يقدم بطلًا نقيضًا للبطل اليهودي المتعالي والمعصوم في هذه الروايات الذي يسرد قضية فلسطين من وجهة نظر المستعمِر.
يوصِّف غسان هذا الأدب الصهيوني بأنه «المزيج المصطنع للدين والعرق بصورة ينطبع فيها العمل الأدبي بطابعين أساسيين هما الشعور بالتفوق، والاستعلاء، والإصرار على احتقار كل ما هو غير يهودي»(7).
في بعض أعمال غسان كنفاني الروائية، نجده يتجنب حضور البطل الفرد كما في رواية «رجال في الشمس»، و«ما تبقى لكم». هناك تعدد للرواة، ربما عن قصد ليجنب العمل، أعراض الكلية، ومحاولة فرض صوت واحد مهيمن. فالبطولة الفردية، في الأدب العربي، خاصة في حالة الهزيمة، غالبًا ما تؤدي إلى إسباغ صفات إضافية على هذا البطل المهزوم، تعويضًا له، تجعله كأنه المنتصر. على سبيل المثال قصيدة نزار قباني في رثاء عبدالناصر التي يقول فيها: «قتلناك يا آخر الأنبياء».
يشرح غسان خيارات/ مأزق الآخر الصهيوني بقوله: «لقد كان أمام اليهودي المضطهد موقفان متعاكسان في الحقيقة؛ أولهما أن يتعذب في سبيل المساواة والاندماج، وثانيهما أن يرتد إلى الشعور بالتميز، والتمسك بأسطورة التفوق، واختيار الثاني ليس في الواقع إلا الإمساك بالمسطرة العرقية من طرفها الآخر»(8).
ربما العنصرية التي اتسم بها الأدب الصهيوني كانت المدخل لأن يقمع غسان كنفاني أي إحساس بالتميز، حتى بالظلم، مع أحقيته فيه، حتى لا يقع في المجال النفسي لدونية المظلوم، التي تعني تفوقًا أيضًا، وبذلك يتطابق موقفه مع موقف عدوه. كان المأزق أن يحتفظ بمعنى وصحة قضيته دون أن يتعالى على هذا الآخر.
ربما كان الأدب الصهيوني يشكل الآخر المفروض على الشعب الفلسطيني، وكان وضعه في المكان الصحيح، داخل هذه الذات الفلسطينية، جزءًا من هذه الشخصية الأدبية، التي تجدها، على سبيل المثال، عند كل من غسان كنفاني، ومحمود درويش وحسين البرغوثي. عند هؤلاء الثلاثة هناك نوع من التجاوز الصوفي لألم وجرح القضية، باتجاه الوعي المعرفي والوجداني الذي يتضمنه هذا الجرح، وتحرير مصطلح «القضية» من الحيز السياسي الضيق، إلى الحيز الوجودي الواسع. يكتب غالي شكري في كتابة «أدب المقاومة» أن من خصائص هذا الأدب أن المقاومة الحقيقية الجديدة هي التي تكشف «عنصرية العدو».
عبر سنوات من التحول ودخول القضية الفلسطينية في أشكال عديدة من السرد، تمثل رحلة الذات المقاوِمة في محاولة تجنبها الوقوع في المباشرة أو الاستعلاء القومي، أو دونية المحتَل، أو تأكيد صفات عرضية استثنائية فيها، نصل إلى ذات سيرية خالصة تقاوم بإثبات إنسانيتها وتساميها فوق العنصرية، وحقها في الحياة، كما سنجد من الجيل الجديد، عند حسين البرغوثي في سيرته «سأكون بين اللوز».
رسائل إلى غادة السمان
ننتقل لمكان وجداني، داخل مفهوم المقاومة، المزج بين المرأة والوطن، ورصد تأثير الحب، في مفهوم القضية من خلال رسائل غسان كنفاني لغادة السمان، التي أوصاها بنشرها(9). يكتب غسان: «لقد حاولت منذ البدء أن أستبدل الوطن بالعمل، ثم بالعائلة ثم بالكلمة ثم بالعنف ثم بالمرأة، وكنت دائمًا يعوزني الانتساب الحقيقي، ذلك الانتساب الذي يهتف بنا حين نصحو في الصباح: لك شيء في هذا العالم فقم»(10).
قضية الانتساب مهمة للغاية لأحد معاني المقاومة عند غسان: ألا تنتسب أو تصدق، أو تتماهى كليا، مع أي شيء. وبالرغم من تضاد هذه الممارسة مع فكرة المقاومة، التي تحتاج لتماه/ إيمان كلي، ولكن غسان يضع مفهوم النسبية كمقياس جديد في علاقاته الجوهرية.
استبدال الوطن المفقود يمر عبر هذه السلسلة التي تمتزج في النهاية: العمل والعائلة والكتابة والثورة والمرأة، وجميعها لا يوضع في الحد الأقصى إلا بمفهوم الحب، الذي يصل لحد التفاني. فنجد علاقة غسان بزوجته، وحبه لغادة السمان، في الوقت نفسه وعلاقته بالكتابة وعمله بالصحافة، كلها علاقات الحد الأقصى، ولكنها ليست كل شيء، فأي علاقة تبدأ، يسبقها شيء جوهري مفقود، ربما هذا الفقد هو الذي يجعل هناك درجة نسبية من الإيمان، أو التفاني.
في رسائله لغادة السمان هناك وتيرة واحدة مكررة وهي الرجاء، لا تعرف ماذا يطلب منها، سوى الذوبان المزدوج بينهما، فخلف كل هذه الرجاءات، لا تصل لمعنى أعمق، سوى أن تلمس هذا الحاجز القائم بينهما الذي يمنع الاندماج الكلي، ربما يقوم هذا الحاجز بدور الوطن المفقود، أو أحد أعراضه، المخلوط بكل المعاني الأخرى. حرقته وولعه بغادة، لا تصل لمشاعر امتزاج جنسي، أو تؤصل لمفهوم العلاقة بالآخر، بل هناك نوع من التسامي في نظرته لها، كأنها بالفعل تحولت إلى معنى ما، يتجاوز كونها امرأة؛ لذا تدور الرسائل في دوائر شعرية ومفهومية ثم تعود للنقطة نفسها. ربما هذا يشير لشدة التداخل بين غادة والوطن، فخلط المادي بالمجرد يمر عبر توليفات متناقضة كالعادة، هي ليست بديلًا عن الوطن، ولكنها تنمو داخل غيابه، داخل هذا الجزء المبتور/ المفقود الذي يشكله الوطن في وعي غسان.
هذا الجزء له مستويان: نسبي وكلي، بداية ونهاية؛ لذا عندما ينكأ جرح افتقاده لغادة، يعيد غسان التداخل والالتباس بقوة بين المستويين، ويعيد إحياء صورة للوطن داخله؛ لأنه يعيد حضور غادة داخله في صورة الوطن المجروح. بالرغم من أنها كانت تعيش في لندن أثناء كتابته الرسائل لها، ولكنه أحالها إلى كائن مفقود يصعب الوصول إليه في الحقيقة، والإمساك به، كمعنى، مثل الوطن المفقود تمامًا. فنقطة التماس بين غادة والوطن هي الفقد.
يكتب في الرسائل مازجًا بينها وبين التاريخ وبينها وبين الوطن: «بوسعك أن تدخلي إلى التاريخ ورأسك إلى الأمام كالرمح، أنت جديرة بذلك وليس من هو منك جدارة»(11)، «لقد قتلت فيَّ الرجل لتعبدي وهما ليس أنا، ووجدتِ في اندفاعي فرصتك لتري كيف تستطيعين تعذيبي»(12)، «أنت في جلدي وأحسك مثلما أحس فلسطين: ضياعها كارثة بلا أي بديل، وحبي شيء في صلب لحمي ودمي، وغيابها دموع تستحيل معها لعبة الاحتيال»(13).
في خطاب وحيد إلى أخته فائزة يصرح لها بمكنون علاقته بغادة: «ليس من السهل بالنسبة لي أن أبني معها علاقة (…) حتى ولو أتيحت لي الفرصة لذلك…»(14). هذه الاستحالة بسبب حبه لزوجته وأبنائه، وسيعيد كنفاني نسخ هذا الإحساس ليجد له خلاصًا وفلسفة داخل رواية «الشيء الآخر: من قتل ليلى الحايك؟»(15)؛ لنرى هذا الاختيار الصعب بين الزوجة والحبيبة يتكرر بصورة أخرى، ليفسر هذا المستحيل الذي لا يتحقق إلا بالموت.
مثلث الرواية السابقة يتمثل في: الزوج صالح، الزوجة ديما، الحبيبة ليلى، ولكي يبقى على علاقته بالزوجة والحبيبة معًا، لا بد أن يتخلى عن إحداهما، أحيانًا بتمني الموت، كما في الرواية، أي باستبعاد الحبيبة لبقاء الوطن، أيًّا كانت: ديما بطلة الرواية، أو غادة التي تقف في الظل. في الحالين هناك استبعاد لأحد الطرفين كي تنجو العلاقة، ولكن بالغياب، وليس بالحضور، بالفقد وليس بالاكتناز.
من قتل ليلى الحايك؟
في الرواية السابقة هناك تداخل بين الواقعي والمتخيل، بين حياة غسان وحياة صالح بطل روايته. تنشأ علاقة بين صالح/ الراوي وبين ليلى الحايك الصديقة الحميمة لزوجته ديما، بالرغم من إخلاصه المعلن لزوجته، سواء في الرواية أو في الحياة. فالرواية عبارة عن اعتراف لزوجته عن هذا الحب الآخر، ولم ينشرها أثناء حياته القصيرة، بالرغم من اكتمالها، وتنوع موضوعها الروائي والشكل البوليسي الذي صيغت فيه.
يكتب صالح/ غسان: «كنت أريدها أن تموت ليس لأني أكرهها، ولكن لأني أحب زوجتي، ولأنني لم أكن أريد أن أترك أيا منهما. كنت أتصورها جثة؛ لأن ذلك وحده فقط، في تصوري، كان جديرا بوضع نهاية صحيحة لكل شيء، وحده كان الأمر الذي يجعلني جديرا بالاحتفاظ بزوجتي وبحب ليلى في وقت واحد»(16).
هذه المساحة المحرمة اجتماعيًّا، لا تتماسّ داخله بأي إحساس بالخيانة أو الذنب، أو حتى الدنجوانية. هناك إخلاص في الناحيتين، وليس شره الامتلاك الكامن في هذه الذات الجريحة. والحل الذي تحدث عنه في الرواية/ الواقع هي أن تموت الحبيبة ليلى؛ كي يصفي هذا التناقض بالموت ويعيش الاثنان معًا داخله كما حدث في الرواية وفي الواقع، ولكن المصادفة أن غسان هو الذي مات، وليست حبيبته، وبموته احتفظ أيضًا بحب الاثنين عبر غيابه هو.
الذنب المُستثنى
هذه العلاقة المقدسة التي يشيدها غسان لمفهوم الحب، والتي يستثني منها الذنب، حتى لو شعر به، وبمسؤوليته عما حدث، فالحب هنا أقوى من أي روابط اجتماعية، يبيح ما لا يبيحه المجتمع، النضال في الحب جذريًّا كما النضال في الثورة. يتحول الثوري إلى مشروع داخل دائرة الحب/ الحياة كما عند بعض أبطال دوستويفسكي. يقفون ضد النص الذي يحكم الإنسان؛ لأن الإنسان أقوى من النص، وأسبق وجودًا من الأخلاق. ولكن لا يُستبعَد الذنب ولا تتم هذه الإباحة إلا في حضور الموت، وهي الضريبة مقابل نسيان الذنب.
لا يوجد اسم للمدينة التي تحدث فيها الجريمة، ربما هناك تعمد في حجب الاسم؛ لأن هناك قضية وجودية تتجاوز المكان والزمان.
بالفعل تموت ليلى، كأمنية تتحقق له، ويكون أول المتهمين؛ بسبب مجموعة من الملابسات البوليسية التي حدثت قبلها، ولكننا نعرف كقراء، أنه بريء. كأن التهمة توجه هنا إلى النية التي تمناها، وكأن السجن الذي ينتظر فيه المحاكمة، ليس إلا فضاءً رمزيًّا لمحاكمة هذه النية، وأيضًا محاكمة مفاهيم أساسية في الحياة.
يحدث التغير داخل السجن
داخل السجن، في انتظار المحاكمة، تتغير البديهيات بالنسبة لصالح. قريب من سجن محمود درويش الذي كتب عنه غسان كنفاني بوصفه الفترة التي غيرت من وعي درويش ومزجت داخله بين الذاتي والموضوعي. وأيضًا قريب هذا السجن من ريجيس دوبريه صاحب «مذكرات برجوازي صغير»، الذي أنضجه السجن ومزج داخله بين الذاتي والموضوعي.
داخل مونولوج طويل يتساءل صالح، بل يسخر، من مفهوم العدالة، ولا يهمه أن يدافع عن نفسه بل يلتزم الصمت، لشيء استقر في نفسه بنسبية الحقيقة، وعدم قدرة الإنسان على الوصول إليها، إلا بتزويرها، أو بالخيال.
غسان الثوري صاحب القضية يشيد عالمًا جديدًا بأخلاق جديدة داخل هذا العالم الواقعي، يتوافق مع جذريته الوجودية التي لا تعترف بالتقاليد الاجتماعية المستقرة: «الموقف جعل هناك قيمًا جديدة تنمو»(17).
جدارة هذه الأخلاق أنها تخرج تحت معاناة ما؛ سجن، احتلال، ألم، يقوم بدفع ثمنها. يضيف في مكان آخر: «هناك قوة لا يستطيع القانون الاعتقاد بوجودها إلا إذا جاءت لتثبت بطلان شيء حدث وليس حين تكون هذه ذاتها شيئًا يحدث»(18). والعالم الذي يقدم نفسه كحقيقة بالنسبة لنا ليس حقيقيًّا، بل إننا نغير من قوانينه وحقائقه كي نرضى به ونفهمه؛ لأنه فوق تصورنا دائمًا: «إننا نزوِّر العالم كي نفهمه»(19). إننا نضيف للعالم من خيالنا، عكس حقيقته؛ كي يكون مقبولًا لنا، وسهل الفهم، كونه أكبر من فهمنا وعجزنا أمامه. وأمام هذا العجز لا تكون هناك حقيقة واحدة، بل نسخًا عديدة من الحقيقة؛ لأن سوء الفهم قائم باستمرار بسبب هذا التعارض بين الخبرة الإنسانية المحدودة، والعالم غير المحدود؛ لذا هناك حقيقة غائبة دائمًا ولها أكثر من حكاية تفسر سر موت ليلى الحايك، فالقصة الحقيقية التي عايشها البطل أصبحت في نظر القضاء هي القصة الخيالية، غير الواقعية، والعكس صحيح.
البطل يحكي الرواية، وخلال حكيه هناك اعترافات أخرى جانبية من طفولته ومراهقته (مثل اغتصابه الخادمة في مراهقته). هذه الاعترافات لا يقدمها أمام المحكمة، التي ظل أمامها صامتًا معرضًا نفسه للخطر، بل أمام القارئ. لمسة تحيل لكافكا في رواية المحاكمة، وعبثيتها. إنها محكمة وجودية تناقش فيها قضية العدالة والحقيقة النسبية وأوجهها المتعددة، وهو المكان الذي يستوعب مفهومه للقضية التي يعيشها.
صالح عبر اعترافاته ينقي ضميره الثوري عبر هذه المحنة، بوصفه إنسانًا، جرته «الصدفة» ليكون متهمًا أو سجينًا، أو ليكون مُحتلًّا. هناك محاكمة يقيمها البطل للصدفة وطرق حدوثها في الحياة، ومشروعيتها، والأهم أنه يؤدي دوره كاملًا أمام هذه الصدفة/ القدر. فالصدفة هي المتهم في الرواية وهي التي يجب أن تحاكم وكلنا نقع تحت قوتها الكامنة. ربما هو الموقف الذي يتخذه في رؤيته للآخر أيضًا، فبجانب أن هناك نسبية للحقيقة، فهناك تلاعب بها، وربما يضع العدو ضمن أحد أطراف هذه الصدفة المصنوعة التي واجهت شعبه.
تعدد الرواة
في رواية «ما تبقى لكم»(20)، يستخدم غسان أسلوب تعدد الرواة(21) عبر استخدام تيار الوعي: حامد الأخ ومريم الأخت وزكريا زوج الأخت. أصواتهم جميعًا تشبه الصوت الداخلي الاعترافي في رواية «من قتل ليلى الحايك»، ولكن من دون اعترافات، أو تعدد منظور الحقيقة. هناك تداخل بين الأصوات الثلاثة كأنهم يقتسمون الحقيقة، أيضًا يقتسمون ويتداخلون في بناء النص من دون أي فوارق زمنية أو مكانية، ومن دون أي تنبيه لمن هو المتحدث، سوى استخدام تغيير في درجة الخط. تتجاور الأزمنة والأمكنة، كأن الثلاثة يتكلمون في زمان ومكان واحد داخل صوت الراوي.
بجانب استلهام غسان للروائي الأميركي وليم فوكنر في روايته «الصخب والعنف»، كما صرح بإعجابه في أحد أحاديثه، نلاحظ أيضًا تقنية المونتاج السينمائي، صور تتجاور وتتداخل، لتوحيد الزمان والمكان، كما يحدث مثلًا في سينما المخرج الفرنسي جان لوك جودار، تنقسم شاشة السينما إلى شاشات عدة، كلّ منها يعرض حدثًا. هذا التداخل بين أكثر من حدث يفتت مركزية أي حدث، ويجعل الحقيقة، أو الحكاية، متشعبة بلا بداية أو نهاية؛ لأنها تكسر زمن السرد الأساسي للحكي.
(1) أدب المقاومة في فلسطين المحتلة 1948- 1966م. غسان كنفاني- دار منشورات الرمال- قبرص- طبعة سنة 2014- 2015م.
(8) في الأدب الصهيوني، غسان كنفاني، منشورات الرمال، طبعة سنة 2015م، ص 37.
(9) رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان، قدمت لها غادة السمان، دار الطليعة للطباعة والنشر، الطبعة الثانية، بيروت، 1993م.
(15) الشيء الآخر «من قتل ليلى الحايك؟»، غسان كنفاني، منشورات الرمال، قبرص، 2014م.
(20) ما تبقى لكم، رواية، غسان كنفاني، منشورات الرمال، قبرص، الطبعة الثانية، 2014م.
(21) دراسة فنية في رواية «ما تبقى لكم»، الدكتورة أسماء بوبكري، مخبر الدراسات الإفريقية للعلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية، منشورة على الشبكة العنكبوتية.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق