كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
أنطولوجيا الأفكار
في استدلال ديكارت الشهير «أنا أفكر، إذن أنا موجود» يدور ديكارت باستدلاله دورة كاملة وينتهي إلى حيث بدأ؛ ذلك لأن الوجود يستلزم التفكير كما هو مقرر في سياق الاستدلال، ولكن التفكير بدوره يستلزم سلفًا مقدمة مضمرة هي ذاتها نتيجة الاستدلال، أعني مقدمة «الوجود». غير أنه بمقدورنا استنطاق هذا الاستدلال لبيان أن الأنا أو النفس تعي وجودها حين تفكر فقط، ولا سبيل إلى ذلك بغير ذلك، فالوعي الذاتي هو الوجود المشخص، أي أن الوعي هو الذي يُخرِج الأنا من الوجود المحض والمجرد إلى الوجود الفعلي المشخص، وهو بطبيعة الحال وجود غير مادي.
وبينما نلحظ أن ديكارت لم يجد في ذلك الاستدلال مأزقًا، نجده يتأنى ويتروى في تحديد نمط العلاقة بين النفس اللامادية بطبيعتها والجسد المادي، ويعدّها مأزقًا ومعضلة؛ لأنه يحدد تلك العلاقة بالتأثير المتبادل بين النفس والجسد، أي بتأثير المادي في اللامادي، وتأثير اللامادي في المادي، ولا سيما أنه لم يكن مقتنعًا بالنظرية النيوتنية بخصوص تأثير الأجسام عن بُعدٍ بعضها في بعض، أي بغير اتصال وملامسة فيزيائية فيما بينها، فقانون الجاذبية الذي وضعه نيوتن لم يكن مقنعًا من جهة ديكارت، وكذلك من جهة نيوتن؛ لأنه كيف يتأتى للشمس مثلًا أن تؤثر في الأرض بغير اتصال فيزيائي بينهما؟ بيد أن القوة التفسيرية لهذا القانون كانت مذهلة، وكان عالميًّا ينطبق على كل الأجسام في جميع أنحاء الكون، ولو كان ديكارت مقتنعًا بقانون الجاذبية عن بُعد لكان سهل عليه تفسير نظريته المعقدة في التفاعل المتبادل بين النفس والدماغ.
العقل الهيومي
ذكر طبيب الأمراض العصبية الشهير أوليفر ساكس في كتابه «الرجل الذي حسب زوجته قبعة» أن أحد مرضاه كان مصابًا بحالة خاصة تعرف بـ«متلازمة كورساكوف»، وهي تنتج غالبًا عن الإفراط في تناول الكحول الذي يؤدي بدوره إلى نقص فيتامين (B1) في الجسم، ويقود هذا النقص إلى تأذي بروزات مخية صغيرة في منطقة تحت المهاد تدعى الأجسام الحليمية ومناطق أخرى مسؤولة عن الذاكرة. وتمتاز هذه الحالة التي عرضها ساكس بوجود فجوة وضياع في الذاكرة حجمها ثلاثين عامًا لم يستطع المريض خلالها تكوين أي ذاكرة جديدة وترسيخها في ترسانته العقلية، أي أن المريض لا يتذكر على وجه الإجمال شيئًا من الثلاثين عامًا المنصرمة؛ لأن الزمن توقف لديه عند بدايتها، وليس بوسعه حتى أن يتذكر الأحداث الجارية بعد مرور دقيقة أو نحو ذلك على انقضائها. ولكنه يتذكر بالمقابل كل شيء تقريبًا عما جرى له قبل ثلاثين عامًا (أي قبل أن يتوقف الزمن) وكأنه حدث أمس، لا بل إنه -بالنسبة إليه- قد حدث أمس من غير أن يخامره شك في ذلك. أما تلك الفجوة الزمنية الطويلة فلا وجود لها عنده، فقد دُمرت وتلاشت على وجه التقريب وسرقت من عمره ثلاثين عامًا؛ لأن أمس الذي كان قبل ثلاثين عامًا تبعه هذا اليوم مباشرة من غير انقطاع.
يتجلى فقد الذاكرة للأحداث القريبة (أي فقد الذاكرة العاملة أو المباشرة) في مواقف من قبيل: عدم قدرة المريض على ربط أجزاء المحادثة الجارية ببعضها؛ لأنه ينسى التفاصيل والأحداث بعد هنيهة فيقع في حيرة وارتباك؛ فإذا -على سبيل المثال- استسمحت المريض بالخروج لدقيقتين وخرجت ثم عدت بعدهما سيقف لك المريض عند دخولك ويمد يده مصافحًا؛ لأنه يعتقد اعتقادًا راسخًا بأنه يراك لأول مرة، ومن ثم عليك أن تعرّف بنفسك وعملك مجددًا، وإذا سألته ما أكلت قبل قليل لأجابك لم آكل بعد ولكني لا أشعر بالجوع الآن، وعلى هذا المنوال تتكرر الأحداث. كتب ساكس واصفًا مريضه:
«إنه معزول في لحظة واحدة من الحاضر، مع خندق أو فجوة من النسيان تحيط به من جميع الجهات … هو رجل بلا ماضٍ (أو مستقبل) عالق بلحظة لا معنى لها تتغير باستمرار».
ويجوز لنا أن نتخيل حياة هذا الرجل كأنها صور متقطعة منفصلة للأحداث لا يستطيع تسريعها لتعطيه انطباعًا باستمرارية الأحداث كما يحدث في تصوير الفيديو العادي، وتشبه الأحداث عند هذا المريض ما يحدث عند تبطيء اللقطة الفِلْمية إلى مرحلة الصور المنفصلة، فتغدو خلوًا من المعنى ومن الزمن ما خلا الحاضر الذي لا وجود حقيقيًّا له من غير الماضي والمستقبل. وبهذا المعنى الممسوخ ينظر الفيلسوف الإنجليزي دافيد هيوم إلى الذات ويذكر في كتابه «مقالة في الطبيعة البشرية»: «إنني إذا ما أوغلت داخلًا إلى ما أسميه «ذاتي» وجدتني دائمًا أعثر على هذا الإدراك الجزئي أو ذاك من قبيل السخونة أو البرودة، والنور أو الظل، والحب أو الكراهة، والألم أو اللذة، لكني لا أستطيع أبدًا أن أمسك بـ«ذاتي» في أي وقت بغير إدراك ما، ولا يمكنني ملاحظة أي شيء ما خلا ذلك الإدراك».
ينطبق توصيف هيوم للذات أو الأنا أكثر ما ينطبق على المصابين بمتلازمة كورساكوف وليس على الأشخاص الأصحاء؛ لأنه ينكر على الإنسان حيازته ذاتًا فعلية تجمع شتات المدركات البسيطة السطحية وتضفي عليها المعنى والعمق والاستمرارية؛ لكون كل ما ندركه بمقتضى منظوره ليس إلا مدركات مبعثرة، وإن كان ثمة ذات فهي هذه الحزمة من المدركات البسيطة. ولا يمكننا الاعتداد بهذا المذهب كثيرًا؛ لأن الإنسان سيكون بحسب نظريته شبيهًا بالمريض المذكور آنفًا فحسب، وهو اختزال مفرط في التبسيط ولا ينطبق على الإنسان كما نراه، فالنظرية توضع لتفسير الوقائع والموجودات والتنبؤ بالأحداث، فإن ضعفت قوتها التفسيرية، لما هو موجود على أقل تقدير، أو كانت ضعيفة بالأصل فلا فائدة مرجوة منها، وهذا هو الحال في النظرة الهيومية.
الدواء الوهمي
كان الأطباء يلجؤون في بعض الحالات المرضية إلى إعطاء المريض دواء وهميًّا (placebo) مكونًا من سكاكر أو ما إلى ذلك سواء عن طريق الفم أو حقنه في وريد المريض أو في بعض عضلاته. واللافت في الأمر أن النتيجة كانت ذات منفعة جلية عند بعض المرضى كما لو أنهم يتناولون دواء حقيقيًّا فعالًا، فالآلام التي يختبرونها تخف أو تتلاشى بفضل هذا الدواء الوهمي، حتى إن بعض حالات الشلل الهيستريائي يمكن أن تشفى أيضًا بمجرد حقن المريض بمادة مكونة من الماء والملح فقط. ولكن هذا الأمر مشروط بشرط حاسم وهو عدم دراية المريض بطبيعة الدواء واقتناعه بأنه سيساعده على التقليل من آلامه أو شدة إصابته.
تؤدي هذه الأدوية الوهمية في أغلب الأحيان إلى إفراز مسكنات طبيعية ينتجها الدماغ وهي شبيهة بالمورفينات وتدعى الإنكيفالينات. وفي الحقيقة ليست هذه الأدوية الوهمية بذاتها هي التي تقود إلى إفراز مسكنات الإنكيفالين لكونها أدوية خالية لا فعالية لها، بل اعتقاد المريض أن هذا الدواء سيخفف من ألمه هو الذي أدى به إلى هذه النتيجة المبهرة. والملحوظ أن إعطاء المريض مادة تثبط إفراز الإنكيفالينات، مثل دواء النالوكسون، قبل تناوله للعلاج الوهمي أدى إلى انعدام فعالية الدواء الوهمي، ولحظ كذلك أن عدم اقتناع المريض بجدوى الدواء المعطى أدى إلى نتيجة مخيبة ولم يشعر المريض بأي تحسن يذكر. وبكلمات أخرى، إن فكرة التعافي والاستفادة من الدواء هي التي قادت إلى إفراز الإنكيفالينات وحدوث التسكين بعد ذلك، وإن الدواء الوهمي كان الحامل المادي لهذه الفكرة ولم يكن الفاعل الحقيقي المؤثر في العمليات الدماغية التي نتج منها تسكين الألم.
وعليه، نستطيع القول: إنه إذا كانت الحالة الدماغية البيولوجية هي التي أنتجت الحالة العقلية (الشعور بزوال الألم)، فإن الحالة العقلية (الاعتقاد الراسخ بالتسكين والراحة)، في حالة تناول الدواء الوهمي، هي التي أنتجت الحالة الدماغية البيولوجية للتقليل من الألم والمعاناة، ولو كان الوعي وهمًا أو ضلالًا مفيدًا يبتدعه الدماغ خلال أداء وظائفه لما كان له مفعول مؤثر في الدماغ ذاته؛ لأن ما لا وجود له لا تأثير له، وهذا ما يرجح أن للوعي أنطولوجيا كيفية فاعلة، وإن كانت تختلف غاية الاختلاف عن الأنطولوجيا الموضوعية للعمليات الدماغية.
التنويم المغنطيسي
يقوم التنويم المغنطيسي على فكرة الإيحاء، حيث يقوم الطبيب، أو المحلل النفسي، بإيصال الشخص القابل للإيحاء إلى درجة كبيرة من الاسترخاء فيسترخي الوعي، لكنه لا ينام، ويحتفظ الشخص بقدرته على التركيز والانتباه وتظل إدراكاته سليمة وقوته العضلية طبيعية فيستطيع النهوض والمشي والقيام بتصرفات قد تكون أحيانًا عسيرة أو مجهدة للشخص العادي، ثم يقوم الطبيب بزرع فكرة طفيلية وقهرية في عقله اللاشعوري أو بنبش عقله الباطن لاستكشاف العقد النفسية غير المنطوقة في الأحوال الاعتيادية. على سبيل المثال: يمكن للمحلل النفسي أن يوحي للشخص المنوَّم أن الماء الذي سيرتشفه لاحقًا سيكون حارًّا وبطعم الفلفل ويغرس هذه الفكرة في عقله، ثم يوقظه بعد ذلك. وعندما يعتري هذا الشخص شعور العطش ويشرب الماء سيبصقه من فوره باشمئزاز ولن يكون بمقدور أي إنسان أن يصرف عقله عن بصق الماء إلا بعد تنويمه مجددًا ونزع هذه الفكرة من عقله.
يذكر المحلل النفسي الشهير بيير داكو أنه أجريت بعض العمليات الجراحية من غير تخدير باللجوء فقط إلى التنويم المغنطيسي، وذلك بفضل الفكرة المتسلطة عن عدم الشعور بالألم التي تكبح أجزاء الدماغ التي لا تتفق هي ومغزى الفكرة الموحى بها. وجرى كذلك علاج الإكزيما الجلدية والشفاء منها عن طريق التنويم المغنطيسي، وكذلك أحدث الإيحاء للشخص المنوَّم بتعرض ذراعه للحرق إلى ظهور انتفاخات وطفح على جلده عند إيقاظه. والطريف في هذا الأمر أن الشخص لا يتذكر الفكرة الموحية، فهو لن يتحدث عن الإيحاء أو عن الحروق، بل عن مرض جلدي تعرض له أو أي شيء آخر يفسر الطفح ما عدا الحرق، أي أنه يتحدث عن العرض الناجم عن الفكرة التي جرى إيحاؤها وليس عن الفكرة بذاتها.
وثمة تجربة أجرى خلالها عالم في التحليل النفسي تنويم شخصين، ثم طلب منهما غمس أيديهم في وعاءين يحويان ماءً حارًّا، وأخبرهما أن الماء ليس حارًّا وأنهما سيشعران بحرارة الماء العادي، وأُجرِيَ لهذين المتطوعين تصوير للدماغ بالبث البوزيتروني لمعرفة المناطق النشيطة فيه، وأفضى التصوير إلى أن المنطقة الدماغية المسؤولة عن معالجة المعلومات الحسية الجسدية التي تميز مكان الألم وطبيعته ونوعه ظلت مضطرمة ونشيطة سواء أوحى المحلل للمتطوعين أن الماء حار ومؤلم أو أن الماء بارد ولا يثير الألم، أما المنطقة التي كانت منخفضة النشاط على نحو بارز فهي المنطقة الحزامية الأمامية، وهي المنطقة المعنية بالمعاناة والعذاب اللذين يرافقان الألم، وهذا يعني أن الفكرة المغروسة في عقليهما لم تتمكن من التأثير في وقف الرسائل الحسية الواصلة إلى الدماغ، ولكنها استطاعت بوضوح أن تعطل صفتي السخونة والألم من الماء المحسوس وما يرافقهما من قلق وتوتر ومعاناة.
والخلاصة مما تقدم ذكره، أنه ينبغي لنا أن نفكر في الوعي وفي العقل بوجه عام بأسلوب جديد يقوم على حيازة الوعي أنطولوجيا فاعلة تختلف تمامًا عن الطريقة التي نفكر بها في الأنطولوجيا الموضوعية للأشياء الفيزيائية. وقد يكون من السليم أيضًا ألا نقصر الوجود على الأشياء المادية ونكتفي ببحث العلاقات السببية التي تربط بعضها ببعض، بل الأوجب أن نتجرأ ونبحث عن مفهوم جديد للسببية يلبي تفسير الأنطولوجيا الفاعلة للوعي والذات على وجه العموم، وذلك عن طريق توسيع إطار العلم ليشمل الأرضية الملائمة والبحث الجاد والرصين في الوعي، من دون خوف الباحثين على سمعتهم العلمية والأكاديمية، وجعل الفلسفة دافعًا حقيقيًّا، بل ملهمًا، للباحثين لما لها من أثر فعال في التحرر من الأطر والقوالب الجاهزة لدراسة العقل والدماغ.
المنشورات ذات الصلة
الفن وحقوق الإنسان والتهديدات من أعلى
يمكن للفن، بمساعدة الصور أو الفيديوهات المقنعة، أن يعرض للناس المخاطر القادمة من أعلى، مثل: المراقبة المفرطة والهجمات...
الانتصار على المسافة والزمن.. كيف اندلعت الحرب ضد أعمدة الهاتف؟
«ما فائدة هذا الاختراع؟»، تساءلت جريدة (نيويورك وورلد) بعد وقت قصير من قيام «ألكسندر غراهام بِل» بعرض هاتفه لأول مرة...
أخلاقيات عصر التقنية والخيال الأمني
إذا صحت مقولة: إن المجتمع يعيد إنتاج ذاته في كل عصر، مع تغير الأدوات وثبات الجوهر، فإن المجتمع البشري الآن يشترك مع...
0 تعليق