قد لا تتوافر أرقام دقيقة حول الأعداد الكبيرة التي ترددت على معرض الرياض الدولي للكتاب، ولا ما أنفقته هذه الأعداد من مبالغ مقابل اقتناء كتبهم المفضلة، إلا أن المتابع لفعاليات المعرض، والمهتم بتقصي أخباره، سيلحظ أن المعرض، شأنه في كل سنة، تحول إلى مناسبة ثقافية مفتوحة،...
المقالات الأخيرة
أن تحاور الرواية وأن تحاورك الرواية
لست أدري لمَ أقبلتُ، مبكّرًا، على قراءة ما هو متاح من كتب الهنغاري الماركسي جورج لوكاتش، الذي يصبح في الهنغارية: لوكاش جورجي. أذكر أنني بدأت بكتابه «الرواية التاريخية»، الذي تُرجم في العراق، وتلاه آخر عن «الرواية الروسية» تُرجم في القاهرة. ولم تأتِ ترجمة كتابه الشهير: «نظرية الرواية – 1914» إلا متأخرة، قام بها مترجم مغربي حصيف، رغم صعوبة اللغة، وكنت آنذاك لست بحاجة إليها، بعد قراءته بالفرنسية.
وعلاقتي بالكتاب الأخير أشبه بالحكاية، واضحة البداية لطيفة الانغلاق؛ ذلك أنني استعرت منه العنوان وبعض الأفكار في فترة محددة، وزهدت بها لاحقًا. فقد ارتكن لوكاش «نظريته في الواقعية» إلى مفهوم: الصراع الطبقي في الأدب، جعله مركزيًّا، وقرأ به توماس مان وبلزاك، وأغفل: «الصراع الطبقي في القيم الجمالية»، مفترضًا أن الشكل الروائي ثابت يصيبه تغيير قليل، وأن هناك شكلًا فنيًّا مرجعيًّا لا يصحّ تجاوزه، هو ذاك الذي جاء به تولستوي وبلزاك، وكان نظره هذا «أرسطويًّا» ولم يكن ماركسيًّا. وعندما انتقل في مرحلته الستالينيّة، والأرجح أنه كان ستالينيًّا طيلة حياته، إلى ما دعي «بالواقعية الاشتراكية» لم يغيّر في نظره شيئًا، منتظرًا «تولستوي أحمر» أو «بلزاك اشتراكي المنظور».
وواقع الأمر أن دوراني الطويل حول كتاب «نظرية الرواية» يعود إلى سببين: كتبه لوكاش شابًّا، وبقي الأشهر بين أعماله الفلسفية والنقدية الأدبية. وثانيهما أنني قرأته غير مرة. لا فرق إن كنت قد نفذت إلى ما يريد أن يقول، أو بقيت «أتعيّث»، كلمة مستعارة من الأستاذ الراحل حسين مروّة، وتعني: الوضوح المجزوء، أو المتوهّم، أو ذاك القصور الذهني الذي يقنع صاحبه أنه فهم ما يقرأ دون أن يكون، لزومًا، فهم فعليًّا ما قرأه.
تعرّفت إلى كتاب «نظرية الرواية» للمرة الأولى، في منتصف ستينيات القرن الماضي في عرض سريع له في «مجلة المعرفة»: السورية، قام به السوري فؤاد أيوب، تأكدي من الكنيّة لا يساويه يقيني عن الاسم العَلَم. جذبني إليه طويلًا لغته الأدبية- الفلسفية، وكنت آنذاك طالبًا في كلية الفلسفة في جامعة دمشق، وأنصتُّ إليه لاحقًا وأنا أقرأ «لوسيان غولدمان»، ناقدًا أدبيًّا وفيلسوفًا بدوره، أشهره كتابه: «الإله المحتجب»، درس فيه أعمال الفيلسوف الفرنسي باسكال. اطمأن غولدمان اليهودي الفرنسي الروماني الأصل إلى الكتاب المذكور، طوّر أفكاره، واتخذ منه دليلًا نظريًّا لدراساته الأدبية التطبيقية، وعن أندريه مالرو خاصة.
والأساسي، في الحالين، كلمة: «نظرية» التي تعني نسقًا من المفاهيم و«الكلية»، تسرد وتشرح وتوحّد بين بداية القول ونهايته. إضافة إلى إضاءة إلى التاريخ الاجتماعي- الثقافي الذي يتيح ظهور الرواية وتغيّرات البنية واللغة. وما كان احتفائي بمفهوم النظرية إلا حلمًا «شبابيًّا» عارضًا «هجس ببناء نظرية شاملة» في الرواية العربية، عاش فترةً وطواه الزمن.
دفعني شغفي بكتاب لوكاش الشاب إلى محاولة الكتابة عنه (شبه دراسة) في سبعينيات القرن الماضي في مجلة شؤون فلسطينية. تحدّث عنها بتحفّظ الصديق محمد برّادة حين التقيته، آنذاك، في بيروت. ولعل شعورًا بالعجز الحقيقي عن تملّك «نظرية الرواية» أملى عليّ إعادة كتابتها حين نشرتها في كتاب «قديم» عنوانه: «في دلالة العلاقات الروائية» قبل أن أعود إليها، مرة أخيرة، بوضوح نقدي في مطلع كتابي: «نظرية الرواية والرواية العربية».
تعرّفت إلى عمل لوكاش الشاب بمحاولات متعددة، ودفعني بدوره، إلى التعرف إلى مساهمات ذات صلة به، حال كتاب الفرنسي بيير ماشريه: «نحو نظرية في الإنتاج الأدبي»، استلهم فيه نهج أستاذه لوي آلتوسير، أخذني إلى اجتهادات الإنجليزي تيري إيجلتون، التي اتكأت على دراسات آلتوسير وماشريه معًا، قبل أن يتحرّر منهما، جزئيًّا. بيد أن الإنارة النقدية الأكثر اتساعًا جاءت مع الروسي باختين في دراساته عن آحادية وتعددية الأصوات عند تولستوي ودوستويفسكي.
عبث البحث عن نظرية
سواء كانت المراجع فعلية أو متخيّلة، فالأساسي ماثل في أمرين يُكمل أحدهما الآخر: إمكانية قول متسق عن نظرية في الرواية العربية، كما عبث البحث عن نظرية لا وجود لها، ولا لزوم. قادني إلى الأمرين، ومنذ زمن، قراءات قديمة أكّدتها قراءة بعض الروايات العربية الحديثة الصدور، أولها رواية: زهران القاسمي: «تغريبة القافر» التي حظيت باهتمام كبير، تثير أسئلة حول نظرية الرواية العربية المفترضة، أو المزعومة! فالنظرية تقول مدرسيًّا: إن الرواية ابنة المدينة، وأنها محصلة لعلاقات اجتماعية حداثية، بدءًا بالفرد وليس انتهاءً بتعددية العلاقات الاجتماعية، بعيدًا من المراجع الضيقة كالعشيرة والقبيلة، وأنها أثر للعلوم الاجتماعية الحديثة مثل الفلسفة وعلم النفس والممارسات السياسية.
بيد أن القراءة، أسريعةً كانت أو متأنية لرواية زهران القاسمي، تبدأ بالقرية والجبل والوادي والبئر والبراري والأمكنة المهجورة والعائلة الضيقة… حتى لو أدخلنا عنصر: «المتخيّل الروائي»، فهذا لا يضير القراءة في شيء، فهو متخيّل يبدأ من القائم المحدود، يتوسّع محدودًا دون أن يسيء إلى السرد، ويأخذ بلغة دائرية، لا تحتاج إلى التنوّع والحرية وتنتهي، مهما تكن أبعادها، إلى نص إبداعي كثيف تكمل فيه اللغةُ المتخيّلَ، ينتجان، في النهاية، خطابًا سرديًّا، لا فرق إن تعددت شخصياته، أو أخذت فيه الطبيعة الأقرب إلى التجانس، مكان المجتمع في طبقاته المتعددة، كما يفترض المنظور الروائي (النظري) في شكله المدرسي، ذلك الشكل الذي يحرّره المؤلف ويدعه طليقًا.
والسؤال الأساسي: إن كانت الرواية «امتدادًا» للمدينة، فكيف تكوّنت وهي ترسم واقعًا لا علاقة له بالمدينة؟ جعل نجيب محفوظ من القاهرة، على سبيل المثال، المرجع الأساسي لروايته المتوالدة، مضيئًا بوضوح العلاقة بين الرواية والمدينة، واتخذ القاسمي من القرية متكأً لمتخيّله الروائي، وانتهى إلى عمل إبداعي يعيد النظر في دلالة «الفضاء الروائي»!
اللبناني رشيد الضعيف، الذي راكم نتاجًا روائيًّا نوعيًّا، كتب، بدوره، مؤخرًا رواية: الوجه الآخر للظل، الأقرب إلى حكايات متخيّلة تحيل، طليقة، على ألف ليلة وليلة و«كليلة ودمنة» وكتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني وغيرها. يتلامح في عمله الروائي، المشار إليه، وجوه المتخيّل واللغة؛ العنصرين الروائيين الأساسيين، انتهى إلى «نثر كلاسيكي» بديع يرسم تعددية العوالم الطبيعية والإنسانية. إذا قفزنا فوق ما هو متعارف عليه في الكتابة الروائية، نلاحظ تأملًا فلسفيًّا لامعًا، تأملًا فلسفيًّا للوجود، لا تتضمنه «الرواية التقليدية» إلا نادرًا. كأن ينهي عمله بفصل أخير عنوانه: «دوران الأرض» تتوجّه جملة أخيرة غامضة: الأرض مدارية بما تحتضنه.
كاد رشيد أن يقترح للرواية تعريفًا جديدًا يقول: الرواية فضاء تكاملي طليق «تخلق الوجود وتضيف إليه أكثر مما هو موجود». نقرأ في الفصل ما قبل الأخير «ثورة العناصر» نثرًا تحرّر من «المرجعية الموضوعية»: «وإذ خرجت السماء عن صوابها، ازداد جنون الأرض وباتت مكشوفة على المفاجآت» و«أكثر ما فقد صوابه الشجر، فثار على شرطه، وثار على صمته وثباته في المكان ذاته مدى الدهر، وهجر أرضه…» أو: «ثم هدأ الكون واتضح، وسعت الطرقات إلى مآلاتها…» لا قد يهجُس القارئ هنا بتعددية العوالم، ويحاور «نثرًا أقرب إلى الشعر» وشعرًا يَتَفَلْسف يحتاج إلى أكثر من قراءة.
من المحقق أن رشيد الضعيف في عمله: «الوجه الآخر للظل» تقدّم بعمل روائي عربي لا يمكن مقارنته بغيره، نثره شعر وشعره نثر متقطع السرد وغائم الزمان والمكان، ينكر كل تعريف مسبق للرواية ويؤكد أنها كتابة تستعصي على التعاريف الجاهزة، كما لو كانت الرواية هي الحرية المطلقة القريبة من الشعر الصوفي، وأن للإنسان الحق في العيش، حرًّا، في حياته اليومية، وله حريته في أن يكتب كما يشاء. تغدو الكتابة في هذا المنظور تجسيدًا «مضمرًا» للحرية في إمكانياتها الفعلية المحتملة. كتابة تواجه كل القيود المعيشة والمحتملة، وهو ما يجعل «الوجه الآخر للظل» ظلًّا متعاليًا ينفتح على «حرية منشودة لا يمكن القبض عليها» لكأن «الظل» لدى الضعيف صورة أخرى عن «المثال» عند «أفلاطون» يلامس أطرافه الإنسان ويظل محتجبًا.
تعددية العوالم الممكنة
لا تطرح رواية الضعيف أسئلة حول «نظرية الرواية»، ولا تَعِدُ بنظرية جديدة، أو تشير إليها، بقدر ما تسائل «تعددية العوالم الممكنة»، تتخذ من «الفضاء الروائي» تجسيدًا متخيلًا لها، يبدأ بفضول الذهن وينفتح بلا نهاية، على قلق الروح، هذا القلق الذي تؤنسه الرواية، بلا شروط، ولا تقترح له بداية ولا نهاية. إن حرية «التذهين الروائي»، إن صح القول، تحرير للغة من استعمالها اليومي، ومن قيود الوجود الصغيرة والكبيرة معًا. إنها الحرية- المثال، المتطلعة إلى فضاء لا تفضي إليه السُّبل المعروفة ولا المجهولة أيضًا.
كسرت رواية القاسمي المبدأ النظري القائل بأن الرواية انعكاس لفضاء مديني، وأظهر رشيد الضعيف أن الرواية فضاء لتأمل طليق لا ينصاعُ إلى النظريات، متحرر من بداهة: أن الرواية مزيج من التخيّل والواقع. فالأخير عند رشيد كلما تلامع تلاشى مؤكدًا أن ما يدعى بالواقع لا وجود له داخل الكتابة ولا خارجها. أما الجزائري أمين الزاوي فسلك في روايته الجديدة: «الأصنام» طريقًا آخر، يؤكد الرواية فعلًا نظريًّا حداثيًّا ومتخيلًا تضمنه اللغة، كما لو كان التخييل أثرًا للغة، تقترحه وتنشده وتبنيه.
يندفع القارئ الروائي إلى إبداع أمين الزاوي محرَّضًا بأمرين: جهده المتراكم النوعي السائر من رواية وازنة إلى أخرى أكثر إتقانًا وتجديدًا. لا مجال عند الزاوي للمراوحة والإنتاج الكمّي، فهو مشغول بكيفية الكتابة والوفاء للسؤال الصعب: لا تقوم الدلالة في اجتراح الأفكار إنما تتعين بطريقة كتابتها التي تستولد أفكارًا جديدة. كما لو كانت الكتابة تستنطق الأفكار وتستولدها في آنٍ.
الأمر الثاني، الذي يستكمل الأول، ماثل في ثقافة الروائي أو الثقافة التي تعلن عنها الرواية، موحّدة بين المأثور العربي وقوة المعيش اليومي والكونية الثقافية التي تجسّر المسافة بين بول إيلوار الشاعر الفرنسي، وكاتب ياسين، الأديب الجزائري المهجوس بتثوير الكتابة والمجتمع معًا.
وثيقة نظرية
قد يكون في روايته الجديدة: الأصنام، الصادرة هذا العام، ما يجعل من الرواية وثيقة نظرية- سياسية معًا، تبدأ من السلطة السياسية وتعود إليها، شارحة معنى الاستبداد والديمقراطية، وكاشفة عن مآل الشعوب المستبدّ بها وعن هشاشتها التي تأتي بمستبد لا قيمة له يَعُدّ ذاته كيانًا نجيبًا متعاليًا. ولهذا انطوت رواية «الأصنام»، التي جمعت بين ألق الأسلوب ووحدة المفاهيم النظرية، على ثنائيات تختصر علاقة «الرعية» بالسلطة: التحرر الوطني/ الاستقلال الوطني؛ إذ في عِثَار الثاني وتداعيه ما يعطّل معنى الاستقلال ويلغي دلالة التحرر. وهناك ثنائية العقل الطليق/ والفكر المعتقل؛ إذ الأول يشرح قيمته بممارساته، وإذ الثاني علاقة اجتماعية تتسع فيها الخرافات ويتسيّد عليها «حرّاس الضمائر» الذين يحوّلون الحياة، اعتمادًا على بلاغة متدينة زائفة، إلى جملة عادات مستبدّة تغلق المستقبل.
وهناك أيضًا المواجهة بين التعصّب الصادر عن تراتب اجتماعي محكوم بالمصلحة والتسامح الذي يأخذ به بشرٌ لم يفقدوا عقولهم ولا ضمائرهم. وأخيرًا الفرق بين المرأة كشيء لا قيمة له وككيان له الحق في التصرّف بعقله وجسده ومقدّراته، كأن الفكر المظلم ينتزع من الإنسان إنسانيته مقابل عقل حواري يؤنسن البشر ويحضّهم على التفتّح والانطلاق.
يقال نظريًّا، عادة: يُنتج كل عمل روائي أيديولوجيا خاصة به، واضحة أو مضمرة. شَخْصَنَ أمين الزاوي الأيديولوجيا الروائية، ووزّعها على بشر اعتُقلوا قبل ولادتهم، وتمرّدوا على الموروث بخيار حر يُردي التربية الجاهزة، وتلك المحروسة بمتواليات من العسس والمخبرين، ومراجع دينية تختصر الدين في الربح والخسارة، وفي «ثقافة أدعية» تقاتل الحياة.
اتكاءً على ما سبق فإن القول بنظرية روائية ادعاء أكاديمي لا يستطيع الوقوف، ذلك أن كل عمل روائي جدير بالقراءة يقترح منظورًا خاصًّا به. وتنتمي تلك النظرية غالبًا إلى التطورات الفلسفية أكثر منها إلى النقد الأدبي أي أنها لا تفيد الرواية بشيء.
المنشورات ذات الصلة
صورة الإبل في مرآة الثقافة العربية
لم تحظَ الإبل في أي ثقافة إنسانية بمثل ما حظيت به من اهتمام في الثقافة العربية والإسلامية، فقد عدَّها الإنسان في...
رسالة في الجوهري من وجودنا المباشر.. ضوء لإنارة مدينتنا العربية
بعد نحو اثني عشر كتابًا بالعربية، وكتبٍ ودراسات أخرى بالفرنسية، تنتسب في مجملها إلى فضاءات البحث الأكاديمي، يحط المفكر...
الهوامش الفلسفية في التراث الشرعي
إن الناظر في التراث الإسلامي يلحظ تسرب بعض المسائل والقضايا الفلسفية إلى العلوم الشرعية وتحديدًا أصول الفقه، وعلوم...
0 تعليق