كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
سيمون فايل.. وروحانية الفعل السياسي
ظهرت في السنوات الأخيرة الحاجة إلى الاهتمام وإعادة الاعتبار لشخصية وفكر الفيلسوفة والمناضلة الفرنسية سيمون فايل Simone Weil [1909-1943م]. وهذا الاهتمام نابع من جملة اعتبارات لا تخُصّها هي فقط، بقدر ما تخص الوضعية التي آلت إليها السياسة والدين في آخر مراحل عصرنا الراهن. فقد كانت الوحيدة تقريبًا التي أخلصت لنشاطها وعقلها وما كانت تدعو إليه وتهتم به، ونقصد مساعدة وإسعاف المعوزين والضعفاء وذوي الحاجة، ليس بالنضال السياسي والاجتماعي وحسب، بل بالإمكان الفكري والديني والروحاني؛ لأن أوضاعًا مثل هذه تتطلب مجايلة ومزاوجة اللاهوتي والسياسي معًا.
حياة طويلة في عمر قصير
نوعية الحياة التي عاشتها سيمون فايل، لم تكن كسائر حياة كبار العلماء والمفكرين، بل عاشت وعايشت كل ما كان يحيط بها وتتعامل معه وتنصهر.. على قدر ما تَتَحمل بنيتُها الهشة الواهنة. فقد كانت تنتظر الموت في كل لحظة ولم تَحْيَ حياة التفاؤل والسعادة والأمل في الانفراج.. وكل حركاتها ومساعيها واهتماماتها تجري تحت الضغط. كتبت مقالاتها ورسائلها إلى أصدقائها من العلماء والمفكرين ورجال الدين والفلاسفة تحت هذا الهاجس الذي يستعجل الأمور ويدرك في كل لحظة أن له ما يفعل لاحقًا ويجب أن ينتقل إلى مكان آخر ويفعل ويفكر في شيء مهم. وهذا ما جعل حياة سيمون فايل طويلة حتى لو كان عمرها قصيرًا جدًّا، أي أنها ماتت عن عمر أناف على الثلاثين سنة فقط، لكنه كثف شوطًا رائعًا ومهمًّا من حياتها وحياة الأمة الفرنسية.. لا بل العالم كله في ثلاثينيات القرن العشرين حين كانت السياسة في أقصى درجة العنفوان وكان العنف على أنواعه هو السائد بين قادة العالم بخاصة الذين انتصروا وانهزموا في الحرب الكبرى التي دارت رحاها ما بين 1914-1918م، ولم تكن المرحلة التاريخية التي أعقبته إلا تمهيدًا وتوترًا نحو حرب عالمية أخرى أكثر ضراوة وتدميرًا ليس للإنسان فحسب؛ بل للطبيعة والفضاء والبحار.. وهذا وجه جديد من الحروب لم يكن معروفًا في السابق.
تلك هي المرحلة التاريخية التي عاشتها السيدة سيمون فايل وجعلت من حياتها طويلة حتى لو في زمن معاصر قصير جدًّا. فقد اختزلت في عمرها كل ما كثفه الزمن السياسي العالمي الخائب والمظلم من كوارث ومآسٍ، وخشيت وخافت من القادم الذي لا يحمل أي مستقبل إنساني، وآثرت منذ صغرها ألا تلتقيه، وحاولت الانتحار قبل أن يدلهم كل شيء ويدخل العالم كله في حالة دمار وخراب للفاعل والمفعول وللظالم والمظلوم. والواقع أن الوضع المفجع يزيد ألمًا عند من يكون حاد البصيرة وثاقب النظر ومتوتر الوجدان ويشعر دائمًا بضعفه وقلة حيلته. وهذا ما تقوله في مقالتها «انتظار الله»: «في مرحلة المراهقة وعندما كان عمري 14 سنة، سقطت في حالة من حالات اليأس، وفكّرت صراحة في وضع حد لحياتي بسبب رداءة حواسي ومَلَكَاتي الطبيعية»؛ فلم تكن تقوى على التقاط الجو المثخن بالكوارث والمحن وأزمات متفاقمة لا آخر لها.
لم يسعف الوقت كثيرًا المفكرة سيمون فايل لكي تنجز وتكتب وتعرب عن كل ما لديها، فقد عاشت في مرحلة متوترة جدًّا، ونعني بها سنوات الثلاثينيات من القرن العشرين، وبخاصة صعود المد التوليتاري الشمولي والحكم الكليَاني مع النازية والفاشية والأنظمة الأوتوقراطية والاستبدادية في أرجاء العالم كافة؛ لأن الاستعمار وما بعد الحرب العالمية آخذ في فرض تداعياته نحو حرب عالمية أخرى أكثر ضراوة وفتكًا بالبشرية وتدميرًا للبيئة. ولعل هذا الوضع المكثف هو الذي يحتاج منا اليوم ويدفع إلى الاهتمام بفكر سيمون فايل؛ لأنها اختصرت المرحلة التي عاشتها، أي أنها قدمت فكرًا مع حياتها في صيغة يصعب فصم عراها، لا بل تفصح أكثر عن المستقبل وما هو قادم، على ما جاء مثلًا في كلام أحد أصدقائها من الفلاسفة الفرنسيين: «إن عمَلَكِ على قدر كبير من الأهمية وله الأولوية، فهو جزء من أعمال نادرة ستفتح في المستقبل القريب وستهيأ لثورة حقيقية». هذا ما جاء في كلمة صديق سيمون فايل عام 1934م: «أفكار حول أسباب الحرية والقمع الاجتماعي». إنه «الواقع المأزوم» الذي يحمل طيات المستقل القادم.
أرادت سيمون فايل منذ البداية أن تتواصل مع الوقائع والأحداث وتتجاوب من كثب ومعايشة الحالات والأوضاع التي نجمت عن الحرب العالمية الأولى وتداعياتها، وبخاصة الأزمة الاقتصادية العالمية لعام 1929م وما خلفته على حياة الشعوب والأمم والدول الأوربية وبالتحديد منها الدول والأنظمة التي مُنِيت بهزيمة نكراء في هذه الحرب. ونذكر على وجه خاص ألمانيا، التي ظهرت فيها النازية بزعامة أدولف هتلر. فقد عانت ألمانيا الأمَرَّين بفعل ما فرضه المنتصرون في معاهدة فارساي عام 1919م. وتطلب الحال أن تكتب سيمون دائمًا وعلى جناح السرعة التي تكثف اللحظة وتنتظر القادم، راجع كتابها «انتظار الله»، باعتبارها متدينة على طريقتها. فوضع فرنسا على النحو الذي تطلعت إليه بداية من الثلاثينيات ينوء بحمله كاهلها الواهن، بل يجب أن تتابعه بكل ما أوتيت من قوة وقدرة وما ملكت من عقل وإيمان وأصدقاء من الفلاسفة ورجال الدين. فلم تعد الحياة هي أن تعيش المأساة والكوارث بل أن ترنو إلى ما يمكن أن يساعد على الانفراج والسلام الآمن، إلى حد طلب الشهادة على المبدأ والرؤية والرؤيا معًا؛ فقد ماتت وانتهت بعيدة من فرنسا عام 1943م.
الحقيقة التي صارت لا تماري فيها السيدة سيمون فايل أنها ليست حقيقة دينية مطلقة ولا حصرية، لا بل هناك مصادر وجهات ومرافق جديدة تصنع الحقائق، مثل المصانع التي يشتغل فيها العمال، هذه الطبقة المهمة في حياة الدولة والمجتمع الحديث والمعاصر. فالمصنع مع غيره من المؤسسات وورشات الشُّغل تُشَكِّل عوالم قائمة بذاتها بالقدر الذي تصنع حقيقتها القائمة بذاتها، ليس بمعزل تام عن الدين، بل كحقيقة أخرى تضاف إلى حقيقة الدين وتلك هي الحداثة في أجلى وأنصع تعريفاتها، أي الوقوف الدائم على مجالات وفضاءات وتخصصات جديدة وكيف تصنع عوالمها وكياناتها وتستقل بخصائصها ومميزاتها خاصة صلاحياتها، حتى لا تتداخل بشكل فج واعتباطي مع دوائر أخرى.
تقول سيمون فايل: «يجب ألا تحل الكنيسة محل المصنع. فالمصنع عالم آخر، يجب التعامل معه والبحث معه عن حقيقة جديدة. فالحقيقة الجديدة، لم تعد دينية حصريًّا ولم تعد خلاصًا يأتي فقط من داخل الكنيسة». وعليه، عندما ينطفئ الأمل في الضمير ويتورط الفكر في توقعات مظلمة فكل شيء يؤول إلى العتمة والديجور كما كتبت سيمون فايل: «إننا نعيش حقبة بلا مستقبل، وما ننتظره ليس أملًا.. وإنما معاناة».
ما من مقدّس إلا الإنسان العادي
الإنسان وفق رؤية وتحليل سيمون فايل هو سعي إلى الوصول إلى ما هو غير مقدس وغير عظيم، أو بتعبيرها: هو الوقوف عند غير ما هو شخصي، وتجاوز مستمر لما هو شخصي. فالإنسان حالة دائمة من العلاقة الجدلية بين ما هو شخصي وغير شخصي. تقول سيمون فايل: «يوجد في جوف كل إنسان شيء من المقدس. ولكن هذه ليست شخصيته وليست شخصيته الإنسانية. وببساطة، الإنسان هو ما هو عليه»، هذا ما ورد في مقالتها «دراسة لبيان الالتزامات تجاه البشر»، وكل إضافة إلى ما هو عليه يخرجه عن إنسانيته ليتحول إلى كائن آخر. وهكذا، فالإنسان الذي يجب البحث والتنويه به هو هذا الكائن قبل أن يحيط نفسه بهالة غير مستحقة من القدسية والتعظيم. ولعلنا لا نضيف جديدًا إذا قلنا: إن الأنبياء والرسل كافة عاشوا عاديين بين أقوامهم وإن صفة التقديس جاءتهم من جانب الأتباع الذين جاؤوا بعدهم وعظموهم لا تعريفًا بهم وبأعمالهم بقدر ما أنهم استغلوا نبوتهم ورسالتهم لأغراضهم الخاصة، على ما فعلت الدوائر الكهنوتية والأنظمة الطرقية.
يبقى الخير والقدرة على فعله هو المعيار الأخير الذي يخلع على الإنسان حقيقته وجوهر ما يقوم به ويتقوّم عليه. وبتعبير سيمون فايل: «الخير هو المصدر الوحيد لما هو مقدس في الإنسان. لا يوجد مقدس إلا الخير وما في حُكمه وله صلة به». واضح تمامًا أن صلة الإنسان بالخير صلة جوهرية تحدده في ماهيته ووجوده الأصلي، ويبقى الخير هو المبرر الحقيقي للوجود الإنساني والعيش المشترك. وهذا يقف على طرف مناقض تماما مع الأنظمة الشمولية والحكم الكُلِّياني والقيادات غير الراشدة المتعسفة والمتسلطة؛ لأنها تحرم الإنسان بوصفه إنسانًا وتحوّله إلى فرد تافه لا قيمة له أمام الفرد الأعظم وهو الحاكم، على ما بدأ يظهر في سياق ما بين الحربين العالميتين. وعليه، فإن اهتمام سيمون فايل بظاهرة الدكتاتورية الزاحفة والمستفحلة تندرج في صلب اهتمامها بالإنسان في صلته بالخير الذي يجب ألا يفقد التعاطي معه وإلا فَقَد بشريته وأهم ما يشرفه ويحفظه كإنسان. فالدكتاتورية مفسدة أيما إفساد، ومهلكة أيما هلاك للإنسان الذي يروم أن يداوم فعل على الخير كواجب نحو غيره، على ما توصي وتؤكد سيمون فايل.
المنشورات ذات الصلة
محنة التقدم بين شرط الإلحاد وبين لاهوت التحرير
هذه المقالة ليست، قصدًا، دفاعًا عن الدين، مثلما أنها ليست، قصدًا، دفاعًا عن آمِر النهضة أو التقدم، أو مرافعةً مضادة...
في مديح البريكولاج
استنبات لا يتعلق الأمر، هذه المرة، بما عودتنا عليه أفلام الكارثة، تلك التي تنحو منحًى عنيفًا في رسم نهاية العالم بالدم...
نحن ضحايا أفكارنا
ما نتهم به الغرب نمارسه أضعافًا مضاعفة. والشاهد يقدمه اقتتال الإخوة والأشقاء، العرب والمسلمين، في الدين والعروبة،...
0 تعليق