المقالات الأخيرة

رسالة في الجوهري من وجودنا المباشر.. ضوء لإنارة مدينتنا العربية

رسالة في الجوهري من وجودنا المباشر.. ضوء لإنارة مدينتنا العربية

بعد نحو اثني عشر كتابًا بالعربية، وكتبٍ ودراسات أخرى بالفرنسية، تنتسب في مجملها إلى فضاءات البحث الأكاديمي، يحط المفكر فهمي جدعان رحاله على ضفة البحث الحر، مختارًا عنوان «رسالة» لكتابه الأخير (ونرجو ألا يكون أخيرًا) «معنى الأشياء» الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات...

الهوامش الفلسفية في التراث الشرعي

الهوامش الفلسفية في التراث الشرعي

إن الناظر في التراث الإسلامي يلحظ تسرب بعض المسائل والقضايا الفلسفية إلى العلوم الشرعية وتحديدًا أصول الفقه، وعلوم الحديث. وورود مباحث ومسائل في الأدبيات الشرعية، مما ليس داخلًا في حدود الفن الذي وردت فيه بمعناه الضيق، ليس غريبًا(1)، إلا أن ثمة خصوصيةً في طبيعة...

سيف الرحبي.. هذا الرأسمال الثقافي العربي الكبير

سيف الرحبي.. هذا الرأسمال الثقافي العربي الكبير

أُومِنُ بأن لا شيء يدوم، كل زمن له جيله، بما في ذلك الأزمان الثقافية والمؤسساتية، ومع ذلك، ولأنني أعتبر «نزوى» بيتي الثقافي فقد شعرت بنوع من الحزن الغريب، يتعالى على المنطق، وأنا أقرأ خبر مغادرة الصديق سيف الرحبي هذا النزل الأدبي والفكري العريق، شعور يشبه من يرى بيتًا...

صمتُ الجثة الغريبة بين الغرباء

صمتُ الجثة الغريبة بين الغرباء

(جملٌ يُطلُّ بعنقه الطويل، إلى مئذنةٍ على حافة الصحراء، بسَمْتٍ مهيبٍ كأنما يُصغي إلى النداء الربانيِّ الذي يمنحه العزاءَ والطمأنينةَ بعد رحلته الشاقة في بحر الرمال الغاضب). هذه إحدى اللوحات التي تركها لي كهديةٍ الفنان العراقي الراحل (حَمّادي) الذي صارَ يوقعُ لاحقًا...

السودان: نحو عقد اجتماعي جديد

السودان: نحو عقد اجتماعي جديد

إن التاريخ الاجتماعي السوداني لم يكتب بعد بالطريقة التي تسمح لأي باحث أن ينظر بأدواته نظرة موضوعية غير متحيزة. إن الذي نقع عليه في غالبه تحيزات وانصراف أكثر للمنهج الوصفي الذي من عيوبه أنه يركز على الإجابة على أسئلة «ماذا؟» بدلًا من، ما «سبب؟» موضوع البحث. فالغرض...

رسائل فلوبير تضيء عزلته وهواجسه

الكتابة، يا لها من مهنة! يا لها من غرابة مقدسة!

بواسطة | يوليو 1, 2024 | رسائل

في منزل صغير طُليت جدرانه الخارجية بالأبيض، في قرية كرواسّيه الهانئة على الضفة الغربية لنهر السين، منطقة النورماندي شمال فرنسا، أمضى غوستاڤ فلوبير (1821– 1880م)، أحد أعلام الأدب الفرنسي والعالمي الكبار، خمسًا وثلاثين سنة من حياته منعزلًا ومنجزًا مؤلّفاته الأساسيّة وعلى رأسها «مدام بوڤاري» (1857م) الرواية التحفة والمرجع، فضلًا عن «التربية العاطفية» و«سالامبو» و«بوڤار وپيكوشيه» و«رحلة إلى الشرق»، مؤلَّفه الأخير هذا يتضمن مشاهدات رحلته بين مصر وسوريا ولبنان وفلسطين، ولطالما كان الشرق هاجس فلوبير شابًّا.

لكن مراسلاته الغزيرة، سواء الأدبية أو العاطفية أو العائلية، تشكل في حدّ ذاتها إرثًا أدبيًّا ضخمًا نُشر في أجزاء عدة ولم يُترجم إلى لغتنا العربية. ولهذا السبب اخترتُ من هذه المراسلات بضع رسائل تضيء إضاءة خاصة على أفكار فلوبير المتعلّقة بالكتابة والعزلة والحياة والموت، التي عبّر عنها لأشخاص عديدين، ومن بينهم أدباء كبار أمثال: ڤيكتور هوغو، وجورج صاند، وغي دو موباسان، وإيڤان تورغنيف، أو لنساء أُغرم بهنّ وبالأخصّ لويز كوليه، الشاعرة الأقرب إلى قلبه وروحه التي استمرّت علاقته بها نحو سبع سنوات كانت في معظمها عشقًا أفلاطونيًّا، وتعبيرًا عاطفيًّا وفكريًّا من خلال الرسائل المتبادلة؛ إذ أسرّ لمحبوبته الجميلة بمكنونات قلبه وبقلقه من الموت والشيخوخة والمرض، وبنظرته المتشائمة إلى الوجود.

إنها بضعة نماذج من مجموع رسائل فلوبير، التي تُعدّ في ذاتها عملًا أدبيًّا، وتكشف جوانب من شخصية فلوبير، وأفكاره في الأدب والحياة، وعزلته، وقلقه، وصداقاته الأدبية، وكثيرًا ممّا يلقي الضوء على سيرة حياته التي لم تكن طويلة (58 عامًا) وتركت لنا مع ذلك تحفًا أدبية عظيمة أشهرها على الإطلاق «مدام بوڤاري» التي أفنى سنواتٍ طوالًا لإنجازها لتكون درّة تاج في الأدب الفرنسي والعالمي.

إلى لويز كوليه

(كرواسيه، 16 ديسمبر 1852م)، ليلة الخميس، الساعة الأولى بعد منتصف الليل.

ماذا يحدث لصحتك، عزيزتي المسكينة؟

ما كل هذا القيء وآلام المعدة وسوى ذلك؟ إني متأكد من أنكِ على مقربة شديدة من ارتكاب حماقة ما. كم أود معرفة أنك تعافيتِ تمام العافية. لا أخفيكِ أن قدوم الإنجليز كان مفرحًا جدًّا لي. وحقّ إله العشق لن أعيش أبدًا قلقًا مماثلًا. لا أدري كيف لم يمرضني ذلك، على ما يقال. اقتتُّ من دمي، متمنيًا لو كان دمكِ. غير أن البهجة التي ساورتني بعدئذٍ كانت، على ما أظن، مريحة.

لويز كوليه

عملتُ منذ يوم السبت باندفاع تام وفيضٍ غنائي. قد تكون خلطة رهيبة. مؤسفٌ أنها تسليني الآن، حتى لو اضطررت إلى محو كل شيء لاحقًا، كما حدث لي مرارًا. إني أصف في هذه اللحظات زيارة مربية. الذهاب يتم عبر درب ضيقة والعودة عبر درب أخرى. أسير، كما ترين، فوق العظام المحطمة في كتاب ما بعد الموت، لكنني أعتقد أن هذا التوازي لن يسحقني. رائحة الريف والسماء والأسرة أفضل بقليل من وجه صديقنا. الباريسيون جميعًا ينظرون إلى الطبيعة على نحو رثائي ونظيف، من دون أبقار ونبات قرّاص. إنهم كالسجناء يحبونه بطريقة طفولية وحمقاء. يكتسبون ذلك في سن باكرة تحت أشجار تويلوري. أتذكّر، في هذا الصدد، نسيبة لأبي، أتت لزيارتنا مرة (الوحيدة التي رأيتها) في ديڤيل، وكانت تشمّ الرائحة، منتشيةً، مولعةً. «أوه! يا نسيبي، قالت، أفرحني بوضع القليل من السماد في محرمتي، أحبّ هذه الرائحة». لكن نحن الذين لطالما أزعجنا الريف، ورأيناه باستمرار، اختبرنا بطريقة أكثر اتزانًا جميع روائحه وكآباته!

إنه لأمر حسن ما تقولينه لي عن قصة روجيه دوبوڤوار، وعن الشال الملوّح من العربة، إلخ. أوه! كم هناك من موضوعات!

هل تلحظين أنني أُمسي كاتبًا أخلاقيًّا! أعساها علامة شيخوخة؟ ولكنّني أتحوّل بالتأكيد إلى الكوميديا الرفيعة. تراودنا أحيانًا رغبة في الصراخ في وجه البشر، سأفعل هذا يومًا، بعد عشر سنين من الآن، في رواية طويلة وسيعة الإطار، وفي انتظار ذلك تعاودني فكرة قديمة، إنها فكرة قاموسي للأفكار المسبقة. أتعرفين ماذا يعني ذلك؟ تثيرني المقدمة كثيرًا في شكل خاص، والطريقة التي أتخيّلها بها (ستكون كتابًا كاملًا)، ولا قانون يستطيع النيل مني على رغم أني سأهاجم الكلّ. سيكون ذلك تمجيدًا تاريخيًّا لكل ما نقر به. سأثبتُ أن الغالبية كانت دومًا محقة، والأقلية دومًا على خطأ. سأقدّم الكبار أضحيةً لسائر الأغبياء، والشهداء لسائر الجلّادين، بأسلوب مدفوع إلى أقصاه، مثل السهام النارية.

والأمر ذاته للأدب، سأثبت، وهذا سهلٌ، أن الهزيل، الذي في متناول الجميع، هو الشرعي الوحيد، وأنه يجب بالتالي فضح أي نوع أصيل بكونه خطيرًا وغبيًّا وما إلى ذلك. هذا المديح للسفالة البشرية بمختلف وجوهها، الساخرة والنابحة من أولها إلى آخرها، المليئة بالاقتباسات والأدلّة (التي من شأنها أن تثبت العكس) والنصوص المرعبة (سيكون الأمر سهلًا)، والهدف، أقول، هو الانتهاء مرة واحدة ونهائية من كل الانحرافات من أيّ نوع كانت. وأدخل من هنا إلى فكرة المساواة بشكلها الديمقراطي الحديث، بحسب تعبير فورييه القائل: إن العظماء سيصبحون عديمي الفائدة، وأود القول: إنه لهذه الغاية أُعِدُّ الكتاب الذي نقع فيه، بالترتيب الأبجدي، على سائر الموضوعات المحتملة، على كل ما يجدر بالمرء التفوّه به في المجتمع كي يكون لائقًا وودودًا.

أخال أن الكتاب بمجمله سيكون رائعًا مثل طلقة. سيكون ضروريًّا، على امتداد صفحات الكتاب، ألّا تكون هناك كلمة من بنات أفكاري، وبمجرد قراءته لن يجرؤ أحد على التحدث عنه، خشية التفوّه بشكل عفوي بجُملٍ يتضمنها. فضلًا عن ذلك، قد تلائم بعض المقالات لتفصيل رائع لكلمات مثل رجل، امرأة، صديق، سياسة، أخلاق، قاضٍ. نستطيع في بضعة أسطر تشكيل نماذج وإظهار لا ما ينبغي أن يُقال فحسب، بل ما ينبغي أن يظهر.

فلوبير

قرأتُ في الأيام الأخيرة حكايات بيرّو الخرافية، إنها ساحرة، ساحرة. ما رأيك في هذه الجملة: «كانت الغرفة صغيرة جدًّا إلى حدّ أنّ ذيل الفستان ما كان ليتمدّد». تأثير هائل، أليس كذلك؟ والجملة تلك: «جاء ملوك من كلّ البلدان، بعضهم محمول على كرسي، وآخرون بعربات ذات عجلتين، والقادمون من بعيد على ظهور الأفيال، أو النمور، أو النسور». فلنقل، طالما أن الفرنسيين باقون، فإن بوالو سيكون شاعرًا أكبر من هذا الرجل. ينبغي وضع قناع للشعر في فرنسا، فنحن نكره الشعر، وبين سائر كتّابه، ليس هنالك ربما إلا رونسار الذي كان بكل بساطة شاعرًا، مثلما كان الشعراء في العصور القديمة ومثلما هم في بلدان أخرى.

لعل جميع الأشكال التعبيرية كتبت، وأعيدت كتابتها. كان ذلك من حصة الأوائل. ما تبقى لنا، هو الخارجيّ من الإنسان، الأكثر تعقيدًا، إنما الأكثر تفلتًا من شروط الشكل. أعتقد أيضًا أن الرواية حديثة الولادة، تنتظر هوميروس خاصتها. كان بالزاك رجلًا عظيمًا لو أحسن الكتابة! ولكن لم يَفتْه سوى ذلك. ما كان فنانٌ لينجز بهذا القَدْر، وما كان لينعم بهذا الحجم.

آه! ما يعوز المجتمع الحديث، ليس المسيح، ولا واشنطن، ولا سقراط، ولا حتى ڤولتير، بل أريستوفان، ولكنه سيُرجم من الجمهور، ثم ما الفائدة من أن يقلقنا كل ذلك، وأن نفكر باستمرار، وأن نثرثر؟ فلنرسم، فلنرسم من غير نظريات، دونما قلق من تركيبة الألوان، ولا من البعد في لوحاتنا، ولا من الوقت الذي تستغرقه أعمالنا.

الريح شديدة الآن، النهر والأشجار تزأر. كنت أكتب الليلة مشهدًا صيفيًّا مع ذباباته الصغيرة، والعشب تحت الشمس، إلخ. كلّما كنتُ في بيئة معاكسة كلّما رأيتُ الآخر أفضل. تلك الريح القوية سحرتني طيلة المساء. إنها تهدهد وتدوّخ كل شيء في الوقت نفسه. كانت أعصابي متوتّرة إلى حد أن أمي، وقد جاءت إلى غرفتي عند الساعة العاشرة لوداعي، جعلتني أطلق صرخة رعب رهيبة أخافتها هي نفسها. خفق قلبي طويلًا واستلزم الأمر مني ربع ساعة لأتعافى. تلك هي انشغالاتي حين أعمل. شعرت، بفعل تلك المفاجأة، بإحساس ضربة سكين حادة اخترقت روحي. يا لنا من آلة بائسة! كلّ ذلك لأنّ الرجل المسكين كان يقلب عبارة!

اعملي بجدّ، ابقَيْ أسبوعًا إضافيًّا هناك، لا تستعجلي، عاودي مراجعة كل شيء، عرّي نفسك، تعلّمي كيف تنتقدين نفسك، أيتها الغالية المتوحّشة. وداعًا، تأخر الوقت، ألف قبلة، اعتني بنفسك.

إليكِ حبيبتي الغالية

إلى لويز كوليه

(كرواسيه في 24 إبريل 1852م)

تحدّثينني عن إحباطاتك! لو ترين إحباطاتي! لا أدري كيف لا تنفصل يداي عن جسدي أحيانًا من التعب، وكيف لا يُهرس رأسي. أعيش حياة قاسية، خالية من أي فرح ظاهر، ولا أملك ما يعينني سوى نوع من الغضب المستمر، الذي ينضح أحيانًا بالعجز، بيد أنه مستمرّ. أحب عملي حبًّا مسعورًا ومنحرفًا، مثل زاهد يخدش قميصُ الشَّعْرِ بَطْنَه.

أحيانًا، عندما أرى نفسي مفرغًا، عندما تعصيني العبارة، عندما أكتشف بعد خربشة صفحات طويلة أنني لم أكتب جملة مفيدة، أنهارُ فوق أريكتي وألبث في حالة من الذهول وفي مستنقع داخلي من السأم. أكره ذاتي، أتهم نفسي بجنون الكبرياء الذي يجعلني ألهث خلف الوهم. كل ذلك يتغيّر بعد ربع ساعة، ينبض قلبي فرحًا. الأربعاء الماضي، اضطررتُ إلى النهوض لجلب محرمة الجيب. الدموع كانت تسيل على وجنتيّ. كنت قد خفّفتُ عن نفسي في أثناء الكتابة، مستمتعًا بعذوبة، من التأثّر بفكرتي، ومن الجملة التي تحملها، ومن الرضى الذاتي عن العثور عليها.

مرة جديدة في عزلتي. من فرط شعوري بحالة سيئة، أتمكن من الإحساس بأنني بحالة حسنة. من الآن ولمدة طويلة لا أطلب شيئًا آخر. إلامَ أحتاج في نهاية الأمر؟ أليس إلى الحرية والترويح عن النفس. لجأتُ إراديًّا إلى أمور كثيرة تُشعرني بالثراء وسط الحرمان المطلق. يا لها من مهنة! يا لها من غرابة مقدسة! فلنبارك على رغم كل شيء هذا الألم المقدس، من دونه لا يحلو العيش.

لقد انفصلتُ تمامًا عن العالم الخارجي وأعيش في عزلة قاسية. إني أقدّر أولئك الذين يعيشون على انفراد، منطوين على ذواتهم. فلنغلق أبوابنا ولنصعد إلى أعالي البرج العاجي. يجب أن نغلق جميع نوافذنا ونضيء الثريات. الطبيعة جميلة، والأشجار خضراء زاهية، لكنني لا أتمتع بها إلّا من خلال نافذتي. لقد أقمتُ حولي حصنًا منيعًا. لم تصدقي حين قلتُ لكِ: إني عجوز مسن. إني أخاف دومًا من الكتابة. هل تشعرين مثلي بتلك الرهبة العظيمة قبل شروعك في عمل فني؟

وداعًا عزيزتي لويز، أفكّر بك، فكّري بي

رسالة إلى فيكتور هوغو

(كرواسيه، 15 يوليو 1853م)

كيف أشكرك، سيّدي، على حضورك الرائع؟ وما عساي أقول؟ سوى ما قاله تاليران للوي- فيليب الذي أتى لزيارته في أثناء احتضاره: «إنّه الشرف الأكبر الذي حظيت به في منزلي». إنما هنا تنتهي المقارنة، للعديد من الأسباب. إذًا، لن أخفي عليك، سيدي، أنك وبقوة دغدغت في قلبي ضعف تفاخري على ما كان كتب هذا القدير راسين. شاعر صادق، ويا لكمّ الوحوش التي كان ليعثر عليها كي يصفها، وهي مغايرة وأسوأ مئة مرة من تنّينه- الثور!

فيكتور هوغو

المنفى، على الأقلّ، يحميك من الرؤية. آه! لو تعلم في أيّ أرجاس نغرق! تتأتّى الفضائح من الفساد السياسي، ولا يسعنا القيام بخطوة واحدة من دون أن ندوس شيئًا قذرًا. الجوّ مثقل بالروائح الكريهة. هواء رجاءً! هواء! أفتح النافذة وأستدير نحوك. أسمع خفقات أجنحة ملهمتك القوية، وأستنشق مثل رائحة الغابة ما ينبعث من أعماق أسلوبك.

في كل الأحوال، سيدي، كنتَ في حياتي هوسًا رائعًا، حبًّا طويلًا، لا يخفت. قرأتك في ليالي الأرق المشؤومة، وعلى شاطئ البحر، فوق الرمال الناعمة، تحت شمس الصيف الدافئة. حملتك معي إلى فلسطين، وأنتَ من كان يعزّيني أيضًا حين كنتُ أموت سأمًا في الحي اللاتيني. دخل شِعرُكَ في بنيتي مثل حليب مربيتي، فأبياتك تلازم ذاكرتي إلى الأبد. أشد بتفاخر على اليد التي كتبت «أحدب نوتردام» و«نابليون الصغير»، هذه اليد التي نحتت عمالقة ونسجت للخونة ضروبًا مرة.

مرّة جديدة، ألف شكر لك سيدي، من أعماق قلبي.

رسالة إلى جورج صاند

(جوابًا على رسالة اطمئنان وجهتها الكاتبة إلى فلوبير الذي دأب دومًا على مخاطبتها بـ«معلمتي الغالية»، ولا تحمل هذه الرسالة الجوابية تاريخًا)

كلا، معلمتي الغالية! لستُ مريضًا، ولكنني كنتُ منشغلًا بنقل إقامتي من باريس ومعاودة الاستقرار في كرواسّيه. ثم إن والدتي كانت متوعكة جدًّا. هي بخير الآن. كتبت هذا الأسبوع قرابة ست صفحات، وهذا أمر حسن لي، هذا العمل مؤلم جدًّا لي على أي حال. الصعب، هو معرفة ما ينبغي عدم قوله. سأروح عن نفسي قليلًا بالإفصاح عن رأيين قاطعين أو ثلاثة حول فن الكتابة. ستكون فرصة للتعبير عما أفكر فيه، أمر عذب لطالما حرمت نفسي منه. إنك تقولين لي أشياء جميلة جدًّا وطيبة جدًّا أيضًا لكي أستعيد حميّتي. لا أملكها البتة، لكنني أتصرف كأنني أملكها، ما يعني ربما النتيجة عينها.

لم أعد أشعر برغبة الكتابة؛ إذ كنتُ أكتبُ خاصة لشخص لم يبقَ موجودًا، هذه هي الحقيقة! ومع ذلك أستمر في الكتابة. بيد أن التذوق لم يعد ملازمًا لها، فارقني الانجذاب. قلة صغيرة من الناس تحب ما أحبه، يقلقها ما يقلقني! هل تعلمين في هذه الباريس، الكبيرة جدًّا، بيتًا وحيدًا يتكلّمون فيه عن الأدب؟ ولو تُطُرِّقَ إليه عَرَضًا، فدومًا من زواياه الثانوية والبرّانية، حول مسألة النجاح، الأخلاق، الجدوى، الآراء حوله، إلخ. يخيّل إليّ أنني أغدو متخلّفًا، كائنًا غير متصل بالإبداع المحيط به.

لا أطمح إلى أكثر من الارتماء في حضن عاطفة جديدة. ولكن كيف؟ أصدقائي القدامى جميعهم تقريبًا تزوّج، وهم يفكرون في تجارتهم الصغيرة طوال السنة، وفي الصيد خلال العطلة، وفي لعبة الورق بعد العشاء. لا أعرف واحدًا منهم قادرًا على تمضية مدة بعد الظهر برفقتي لقراءة شاعر. لديهم أعمالهم، أنا لا أعمال لديّ. لاحظي أنني في الوضعية الاجتماعية نفسها التي كنت فيها في عمر الثامنة عشرة. ابنة أختي، التي أحبها كأنها ابنتي، لا تسكن معي، وأمي المسكينة أصبحت عجوزًا بحيث إن أي محاورة معها خارج موضوع صحتها أمر مستحيل. كل ذلك يجعل الحياة قليلة المرح.

أما النساء، فلا تمدّني «منطقتي الصغيرة» بهنّ، ثم إنني لم أستطع قطُّ جمع ڤينوس مع أبولون. فإمّا أحدهما أو الآخر؛ لكوني رجلًا متطرفًا، شخصًا يهب نفسه بأكملها لما يمارس.

أستعيد دومًا عبارة غوته: «إلى ما وراء القبور تقدّم»، وآمل أن أتعوّد على فراغي، كلما ازددتُ معرفةً بكِ، ازداد إعجابي، كم أنتِ قوية!

ما خلا القليل من سبينوزا وبلوتارك، لم أقرأ شيئًا منذ عودتي إلى كرواسيه، فأنا منهمك في عملي الحالي. إنه عمل سيمتد بي إلى نهاية يوليو.

أُقَبِّلُكِ.

إلى غي دو موباسان

(كرواسيه 19 فبراير 1880م)

عزيزي الرجل الطيب.

الأمر صحيح إذًا؟ ظننتُ في البدء أنه مزاح! ولكن كلا! أوافق. إنهم مليحون في إتامب! هل سنخضع لجميع المحاكم على الأراضي الفرنسية، حتى المستعمرة منها؟ كيف يجوز أن شطرًا من بيت شعري نُشر في الماضي في إحدى الصحف الباريسية التي لم تبقَ موجودة، يُلاحق بسبب إعادة نشره في جريدة محلية لعلك لم تمنحها إذنًا بذلك وكنتَ تجهل وجودها بلا ريب؟ علامَ نحن مرغمون اليوم؟ ماذا ينبغي أن نكتب؟ كيف ننشر؟ في أي بلادة ذهن نعيش!

«والإساءة إلى الأخلاق الدينية» لدى مثولي أمام قضاة الغرفة الثامنة في المحاكمة التي منحتني شهرة هائلة وأعزو إليها ثلاثة أرباع نجاحي.

موباسان

الخلاصة لا أفهم شيئًا من ذلك! هل أنتَ ضحية ثأر شخصي؟ ثمة خلف ذلك شيء لا يمكن تفسيره. هل يُدفع لهم مقابل تشويه سمعة الجمهورية من خلال إمطارها بالازدراء والسخرية؟ إني أُومِنُ بذلك.

أن تُلاحَق بسبب مقال سياسي، فليكن، مع أنني أتحدى سائر المدعين العامين أن يثبتوا لي الفائدة العملية من ذلك. ولكن من أجل أبيات شعرية، من أجل الأدب. لا! هذا قاسٍ جدًّا!

سوف يجيبونك بأن في شعرك ميولًا فاحشة! يجب الاتفاق بشكل نهائي على مسألة الأخلاق في الدولة. ما هو جميل هو أخلاقي، هذا كل ما الأمر لا أكثر.

الشعر، مثل الشمس، يضع ذهبًا فوق الروث. مؤسف للذين لا يرونه. لقد تناولتَ العادي، على أفضل نحو، وتستحق الإطراء لا الغرامة والسجن.

يقول لابرويير: «إن روح الكاتب تكمن في حسن التحديد وحسن التوصيف». لقد أحسنتَ التحديد وأحسنتَ التوصيف. ما المطلوب أكثر من ذلك؟

تفضح نظام الدولة، حتى إلغائها جميع الكلاسيكيات اليونانية والرومانية، بلا استثناء، منذ أريستوفان حتى الطيّب أوراس والرقيق ڤيرجيل. ثم، ومن بين الأجانب، شكسبير، غوته، بايرون، ثرڤانتس، ورابليه عندنا «الذي تتدفق من عنده الآداب الفرنسية»، يليه شاتوبريان الذي تدور تحفته حول حشرة، ثم موليير. انظر غضب بوسويه عليه، والكبير كورناي، الذي يدور «تيودور» خاصته حول البغاء، والأب لافونتين، وڤولتير، وجان جاك روسو، إلخ، وحكايات بيرّو الخرافية! بعد ذلك، يجب إلغاء كتب التاريخ التي تلوّث المخيّلة.

إني أختنق سخطًا.

مَنْ سيُفاجأ؟ الصديق باردو! هو الذي كان شديد الحماسة عند قراءته مسرحيتك، بحيث شاء التعرّف إليك وإلحاقك بوزارته بعد حين. العدالة تعامل محميّيها جيدًا.

ولديك ڤولتير ليس الرجل بل الصحيفة التي مازحتني قبل بضعة أيام بلطف حول معتقدي الهوسيّ بالكراهية الأدبية! صحيفة ڤولتير هي المخطئة! فأنا، أكثر من أي وقت مضى، أُومِنُ بالكره اللاوعي في الأسلوب. حين نكتب بطريقة جيدة، يكون هناك ضدنا عدوّان: الجمهور؛ لأن الأسلوب يرغمه على التفكير، وعلى العمل، والدولة؛ إذ تشعر بامتلاكك قوة، بينما لا تحب السلطةُ سلطةً أخرى. قد يتبدل نظام الدولة، الملكية أو الإمبراطورية أو الجمهورية، غير مهم! المعايير الجمالية الرسمية لا تتبدل! فبفضل مناصبهم، يحتكر وكلاؤها -إداريين وقضاةً- الذوق (راجع الاعتبارات المتعلقة بتبرئتي). هم يعرفون كيف يجب أن نكتب، خطابهم معصوم من الخطأ، ويملكون الوسائل اللازمة لإقناعك.

لن تحاكم، ولن تُدان. ثمة سوء فهم، خطأ. لا أدري ماذا. وزير العدل سيتدخل! لم نعد في أيام السيّد ڤيليل. ومع ذلك، من يدري؟ للأرض حدود. لكن غباء الإنسان لا حدود له.

أقبلك، رجلك العجوز: غ فلوبير

إلى إيڤان تورغينيف

(كرواسيه 22 ديسمبر 1878م)

عجوزي الغالي.

إيفان تورجنيف

لا بدّ أن صمتي يفاجئك؟ عذري ويا للأسف شرعيّ. مررتُ في متاعب مادية، في قلق عنيف، إلى حدّ أنني أعجب لبقاء رأسي بين كتفيّ! ضاع أملي كليًّا في استعادة ثروتي! لن أتأكد من مصيري إلا في نهاية يناير. سأعلمك بذلك قرب المدفأة. لا تخبر أحدًا بذلك.

لم أكن يومًا في حاجة إلى أحد، كم أنا في حاجة إليك. صحبة عزيزي تورغنيف مفيدة لقلبي وروحي وأعصابي. إني أنتظرك، مطلع يناير. ليس قبل ذلك، أولًا لأنه رأس السنة، ثانيًا لن تكون مرتاحًا هنا بسبب أحوال الطقس الرهيبة، ثالثًا ابنة أختي وزوجها سيحضران مغادرتهما إلى باريس.

لن أكون موجودًا في باريس قبل مطلع فبراير؛ لذا أنتظرك بعد خمسة عشر يومًا أو ثلاثة أسابيع. سأقرأ لك ثلاثة فصول من «بوڤار وپيكوشيه»، تبقى لي ثلاثة فصول! لكن قبل معاودتي الكتابة، أحتاج كثيرًا إلى ثلاثة أو أربعة أشهر من القراءات.

إلى لقاء قريب، أليس كذلك؟

عجوزكَ غ فلوبير


المصدر:

Correspondance Flaubert, Folio, 1998.

Gustave Flaubert – Guy de Maupassant, Correspondance, Flammarion, 1993.

Gustave Flaubert – George Sand, correspondance, La part commune, 2011.

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *