كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
ظبية خميس… الفلسفة والحكمة والتجارب الصعبة بين الحياة والإبداع
«إذا لم تكُنْ هناكَ حياةٌ فلتكنْ إذن الكتابةُ».
بهذه العبارة- العتبة، ذات الدلالات العميقة، تفتتح الشاعرة العربية الإماراتية ديوانها الجديد «روح في غيمة» منشورات (دار فضاءات- عمّان- الأردن، 226 صفحة). عبارة تضع الكتابة في موازاة الحياة، إن لم تكن هي الحياة نفسها، الكتابة الحياة. وهو ما نلمسه في تسعة وخمسين نصًّا هي ما يحتوي عليه هذا الديوان. ديوان يتّسم بتعدّد مناخاته، وتنوّع فضاءاته، حيث تتشكل ضمن ثنائيات تعبر عن رؤية شديدة الوضوح إلى الحياة والعالم، رؤية تنبع في الأساس من ثقافة وتجارب خاصة، تنتج عوالمها في شعر متميّز بخصوصيّة واضحة المعالم.. وهنا وقفة أمام أبرز ملامح الديوان.
قبل الولوج إلى النص
لا يحتاج القارئ- الناقد إلى استعراض التفاصيل؛ كي يخلص إلى نتائج جوهرية في هذا الشعر المتدفق من روح معلقة بالغيم والمطر، كما في «العتبة» رقم صفر لهذا الديوان. العتبة الأولى التي تحيل على تزاوج بين الروح والغيم، بما ينطوي عليه هذان العنصران من السمو، وما يشتملان عليه من دلالات الخصب والولادات المتجددة. وهذا كله يتكئ على رصيد روحي ومعنوي ونفساني ببصمة كفاحية عالية المقام، لا تهاب مواجهة القسوة، وهذه بعض الخلاصات التي يأخذنا إليها هذا الديوان، بقدْرٍ من التأمل المتأني، والتجليات الحرة، ومن دون عناء كبير.
وحين تدخل إلى عالم ظبية خميس هذا، فأنت لست أمام الشعر وحده فقط، بل أنت حيال قضايا الإنسان والإنسانية والحرية، بكل ما تعنيه لك هذه الحرية؛ إذ لا بد من تساؤل عن حرية الغيمة في الروح، كما الروح في الغيمة. نحن هنا حيال تجربة شعرية تمتلك فلسفتها الخاصة أمام الحياة، حياة هي أخت الموت، وليست نقيضه تمامًا، وإلى الأبدية التي تخضع للسؤال.
العتبة الثانية في الديوان، تتمثل في الإهداء إلى «لؤلؤةِ الأعماقِ، كما أحبَّتْ أنْ تسميَ نفسها، أختي ميثاءَ الطيبةَ ورحيل الملائكة». تحضر هذه الأخت في عدد من النصوص في صُوَر شتى بين الحياة والرحيل، صُوَر تتميز بقدر من الحميمية، ويغلب عليها شعور الفَقد والألم، كما سنرى. ولكن قبل الدخول في عوالم الديوان نتوقف عند عتبة- افتتاحية أخيرة، وهي استعارة صوت الشاعر الكولومبي خوان مانويل روكا، (المولود في ميديين- كولومبيا عام 1946م)، والمعروف بمواقفه مع قضايا الإنسان والتحرر، ومنها قضية فلسطين. تقتطف الشاعرة من قصيدة له بعنوان «مونولوج الراقصة» هذا المقطع، لعلها تجد فيه روحها:
«ولمّا أعودُ إلى ذاتي/ لمّا تتوقفُ الموسيقا/ وأرى الآخرين الذين هم مرآتي/ أتهيّبُ من معرفةِ أنّني كنت زهرة/ كنت شلالًا، وكنتُ نارًا».
صور للحياة والموت
منذ مطلع القصيدة الأولى في ديوانها هذا، وهي قصيدة «أراه»، تحمل الشاعرة قارئها في رحلة إلى ثنائية حياة/ موت، ثنائيّة تظل تتكرّر في نصوصها، حيث نقرأ: «شيءٌ ما يحدثُ في مكانٍ آخَر/ شيءٌ ما يعيش/ شيءٌ ما يموت/ في الداخل/ ها هي الوحشةُ تطلّ/ تهمسُ بما لدَيْها/ بين بشر تتعانق/ وتتفرّق دروبهم».
والموت هنا يتخذ أشكالًا عدة، ويتجسّد في صُوَر مادية ومعنوية، وتتعدد مفرداته، فهو هنا يكمن في الشعور بالوحشة وبشر يتعانقون لكن الدروب تفرّقهم. وكذلك تختلف صور الحياة مع تعدد أشكالها والمشاعر التي تعبر عنها. ونحن في ذلك كله حيال تعدد مستويات اللغة واستعاراتها ومجازاتها التي تنهل من الواقع، من دون الاستسلام للمباشرة. وبحسب المقدمة القصيرة التي يكتبها زاهر السالمي للديوان فإن «الشاعرة ترصف مفردات حياتها بغنائية تسمع صدى إيقاعها في مخيلتك. مفردات عادية، من المعجم اليومي، لكن تعالُقها ينحت صورة مركبة في تداعيها الحُر، وأحيانًا تَلْمع كعيون صقر». وفي لغة نشمّ منها رائحة صوفيّة ما، صوفيّة روحانيّة وأرضيّة -في آنٍ- وليست سماويّة.. لأنّ الرّوح «في غيمة».
نقرأ في ختام القصيدة نفسها: «ما لا أراه، أراه/ ما لا أسمعه/ يهجسني/ مغلفة بالصمت/ والأصوات بداخلي».
وهذا ما يجعلنا نتوقف عند مفردة «أرى» التي تُحيل إلى «الرؤية»، لا المشاهدة. وما بين الرؤية والمشاهدة، هو المسافة ما بين الروحانيات والتأملات العميقة، وبين الأرضي- الواقعي. وهو ما يميز الكتابة الرؤيوية التي ترتقي باليومي إلى الوجودي، عن الكتابة الوصفية الباردة أو الجافة. فكتابة ظبية، الشعرية والنثرية والسِّير ذاتية، هي من الصنف الأول الذي يجعل الكتابة حياة وموقفًا، ولعل المتابع لمسيرتها سرعان ما يربط كتابتها بمواقفها الجريئة المعروفة في شتّى المواقع التي شغلتها، وهو ما يذكره لها كثيرون منا، ولسنا هنا في صدد الخوض فيه.
نعود إلى نصوص الديوان، الهامسة منها أو الصارخة، فنرى كيف تقرأ هذه النصوصُ العالَمَ والكون والوجود، بأدوات ومفردات قادرة على حمل «رسالة» إنسانية سامية، وبأسلوب يمتح من قاموس الأدب والفن، قاموس لعل أبرز ما يميّزه أنه لا يترفع على قارئه، ولا يخون رسالته الشعرية. أسلوب البساطة الذي لا يتخلى عن العمق، صانعًا فلسفة خاصة، فلسفةً في الحب بوصفه حياة وعلاقات بين البشر. وفلسفة في القبض على الحرية والتحرر من كل أشكال العبودية. وفلسفة في قراءة الزمن، تجتمع كلها في نصّ واحد أحيانًا.
في نصّ بعنوان «همس»، نقرأ ما يشبه اختزالًا للعلاقة مع الزمن وتحولاته وما ينجم عنه، نقرأ:
«طالَ هذا الانتظار/ كما لا أعرفُه/ الانتظار لصدق ما/ محبة ما»
وفي الـ«حبّ» نقرأ بعض تحوّلات الإنسان العميقة، في كلّ أحواله، أمام الزمن:
«ماذا يقولُ الحبُّ/ بعد سنواتٍ طويلة/ بعد أن يكونَ الشباب انقضى، والحيوات تغيّرت..»
وتتكثف صورة العلاقة مع الزمن في «قصائد ذرف القلب»، عبر تصوير محطة نحو الموت وما يحيط به من مؤثرات:
«أنظر إلى شيخوختي/ في المرآة، ثم ألتفت إلى/ ربيع العالمِ الصامت/ من وراءِ النافذة/ في قلبي حيّةً تنبضين/ لا موتَ هناك/ بل خيال حزين…»
قصائد للطبيعة والإنسان والكائنات
ومن بين نصوص الديوان التي يبدو -في التواريخ المثبتة أسفل كل منها- أنها كُتِبت ما بين الشارقة وأبوظبي، في العامين 2019-2020م، نقف على ما يشبه السيرة الشعرية للشاعرة، سيرة شعرية وإبداعية يصعب الوقوف على تفاصيلها، لكنّنا نتعرف، من خلالها، إلى عوالم ظبية التي تبوح وتكشف عنها بلا مواربة، في الزمان وفي المكان، فقد نقف حيال التصوير والمشهدية في علاقة خاصّة: «شاعر وشاعرة/ جمعتهما اللحظة والكلمات/ وقمر ليلة بعيدة/ ها هناك».
وفي قصيدة «روح في غيمة» نقرأ لوحة: «السُّحب بيضاء/ هادئة هذه الظهيرة. كانت مثقلة بالغيوم لأيام..».
ثم نجد أنفسنا أمام صورة «النمرة» التي تُظهرها في إحدى حالاتها مع أختها والآخرين:
«حينَ وداعةِ الحمامَةِ/ في مرمَى عيونِ الضِّباع/ النمرةُ بمخالِبِها وهيبتِها/ ونظرتِها/ وانقضاضِها السريع/ بين الوحوشِ…/ أعود بذاكرتي للطفولة/ لصباها/ لحيرتها وعذاباتها وأحلامها/ طيّبة/ الكل يقول: إنّها طيبة…/ أحبُّك أختي…».
وفي تصويرها الطبيعة، تحضر أمكنة ودول عدّة، في رحلة ذات طابع شفيف، ترى فيه المكان والإنسان والكائنات: «السماء صافية، نعم السماءُ صافية، وبعضُ المطر. عصافيرُ تصدحُ في الصباح/ ومطرٌ يدُقُّ على النافذة».
ومن بين الصُّوَر التي تربط الكتابة بالحياة، كما رأينا في مطلع هذا الديوان، قصيدة عن «العزلة»، نقرأ من خلالها واحدًا من الأسباب المُلِحّة الدافعة للكتابة: «أفكر في عزلتي هذه/ حيثُ لا أحد، ولا مقاهيَ، ولا شوارع، ولا زوّار، لماذا لا أكتب؟ لدي الوقت والكلمات، وفائض التأمل، والحاجة لأنْ أقول شيئًا، كلّ تلك المشاعر والفيضانات/ لماذا لا أكتب؟»
ولا تكتفي الشاعرة/ الإنسانة بأن تعيش الحياة والحب «بالطول والعرض»، وببساطة لا تشوبها تعقيداته، بل هي تدعو الإنسان إلى أن يعيش الحياة بوصفها مغامرة لا بدّ منها: «لا تدَّخرْ شبابَك لشيء/ بذِّرْهُ بكامل رعونتك/ عشهُ فهو يرحل/ في وقت ما/ لا تؤجِّلْ حياتَك للغد/ عشه بطريقتك».
وأكثر من ذلك، فهي تختار «مقامها» العالي الرفيع، وليس مجرد العيش العاديّ في هذه الحياة. لذا، ولأننا حيال رحلة طويلة ومتعدّدة الأبعاد يحملنا فيها الديوان، ولا يمكننا أن نغطّي تفاصيل هذه الرحلة، نختم هذه القراءة بهذه الأبيات القليلة، ولكن المعبّرة بكثافة عن رؤية الشاعرة:
«أنا والسماء/ غالبًا، أنا والسماء. هنا في العلوِّ الذي اعتدتُ عليه…».
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق