كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الوصول إلى قرية وكان
توزع الخبر عبر واحد من الجروبات العديدة في هاتفي «زوجة المرحوم سعيد بن عبدالله توفيت اليوم. إنا لله وإنا إليه راجعون». أتذكر جيدًا عبدالله بن سعيد بن عبدالله حين كان يأتي إلى بيتنا ويمكث يومين هو ووالداه وثلة من جيرانه الأقارب. كان صبيًّا وهو يقود سيارة «البيكاب» الحمراء، يضع والديه اللذين يتشابهان في المقصورة الأمامية، وفي الخلف يتزاحم -في صفيحتين متقابلتين- نساء وأطفال جاء بهم من قرية «وكان»، مقابل أجر لزيارة جدتي. يمكثون معنا يومين، وقد جلبوا لنا ثمار تلك القرية التي بسبب ارتفاعها وانخفاض حرارتها شتاءً واعتدالها صيفًا تجود بثمار لا يمكننا أن نتذوقها بسهولة، مثل: العنب والمشمس والبوت. وفي اليوم الثالث يعودون أدراجهم. أتذكر والدة عبدالله بن سعيد وإن كنت نسيت اسمها، تعبق هيئتها بالعطر المحلي وخاصة ماء الورد المركز الذي تذكرني رائحته كذلك بجدتي، ووجهها المزين بطبقة من معجون الورس، وعينيها العائمتين في الكحل، امرأة صلبة صامتة، كنت أتذكرها أكثر من تذكري لوالده سعيد بن عبدالله الذي توفي قبلها دون أن أتفطن.
قرية «وكان» التي يقال بأن الشمس لا تزورها سوى ثلاث ساعات في اليوم، كما تذكر مرة واحدة في العام، في شهر رمضان حين يروج بأنها المكان الأقصر صومًا، وهو ما ينفيه ساكنوها. لم أسمع بوفاة والده، ربما وصلني الخبر بين زحمة أخبار الوفيات في زمن جائحة كورونا، حين كان كل شيء يتم بسرعة ونحن في أماكننا جالسين: الموت والدفن والعزاء. عند وصولنا، تركتُ أمي في بيت عبدالله، وذهبت باحثًا عن المسجد الذي يقام فيه واجب العزاء. أتكاسل وأتردد كثيرًا في حضور مجالس العزاء، وذلك بسبب النفاق الواضح الذي صار يتخللها، حين يتفاوت الناس بين حرارة الترحيب والإهمال، وذلك حسب مكانة كل شخص ومدى قربه من المناصب العليا للدولة. ولكن العزاءات في القرى النائية تتلفع بالبساطة والتلقائية بخلاف تلك التي تقام في المجالس الملحقة بالمساجد الكبرى بالعاصمة. أنا موظف ولم أغير سيارتي منذ خمسة عشر عامًا، وقد اشتريتها من أخي الذي قادها ثلاث سنوات فقط، قبل أن يرتقي إلى مدير عام في وزارة الزراعة، فباع سيارته السوزوكي فيروزا رباعية الدفع فورًا، واقتنى سيارة تاهو تناسب مكانته الجديدة، كنت حين أرافقه في مناسبات العزاء، أجلس بجانبه في صف الصدارة وذلك بسبب منصبه. وفي ذهابي وحيدًا لن يلتفت إليَّ أحد، فأستريح من تكلف المجاملات الذي أمقته بسبب رائحة النفاق التي تفوح من غطاء المجلس.
التقيت بعبدالله وعزيته، فتذكرني رأسًا رغم أننا لم نلتق منذ سنوات، عمرت حتى وصلت إلى سبعة وتسعين عامًا وهو نفس العمر الذي مات فيه أبوه كما قال لي، أخبرته بأني أكثر ما أتذكره فيهما أنهما متشابهان. قال لي بأنه كان يضعهما إلى جانبه حين كان يأتي لزيارة جدتي التي تكون خالة أبيه وأمه معًا! هنا أدركت مصدر التشابه الجميل بينهما. لم يعد الآن عبدالله يقود سيارة البيكاب الحمراء، بل أصبح حاله ميسورًا ولديه سيارتا «نيسان بترول» وبيوت عصرية واسعة في قلب قريته. لقد تغير حاله حين ساهم في إيجاد حلول لوزارة التربية بتوصيل أطفال المدارس من بيوتهم في القرى البعيدة إلى مدارسهم في الأراضي المنبسطة، استطاع بمرور السنين، أن يحتكر خريطة حافلات الاماكن المعقدة، مع إنفاقه جزءًا من أرباحه في ترضيات نهارية وهدايا ليلية.
كانت البداية مع البيكاب الحمراء، التي تحولت الآن إلى تحفة مغطاة. وقد وعدني بزيارتها حين تنتهي فقرات العزاء بعد صلاة العصر. انعطفت حياته نحو الثراء حين اشترى باص «تاتا» الهندي الأصفر الضخم أول مرة. ومع توالي السنوات صار له موكب من هذه الباصات لحمل أطفال المدارس إلى مختلف المناطق القريبة والبعيدة. قال لي كذلك: إن لديه محطة تعبئة ديزل خلف البيت خصصها لملء خزانات حافلات العمل. وبعد العصر أخذني لرؤية البيكاب الحمراء المتقاعدة كما كان يردد. كانت مغطاة برداء أخضر داكن سميك تكريمًا لها. وحين رفع عنها الغطاء بدت لامعة في حمرتها، وفي المقصورة الأمامية ظهر الوجهان الباسمان لوالديه المتشابهين. ولم أرَ عبدالله بجانبهما!
وبعد أن تعشينا، كما جرت العادة للقادمين من أماكن بعيدة، تمددنا مجموعة من الناس لا يعرف بعضهم بعضًا في صحن المجلس. والصباح كانت وجبته الخبز واللحم كحال وجبة العشاء، رجعنا أنا وأمي إلى تخوم العاصمة حيث نسكن بمنطقة «سعال»، وفي الطريق تولت أمي قيادة دفة الحديث، وهي تنقل لي مختلف ما دار في مجلس النساء من تفاصيل وأخبار.
لا أنكر أن حياة عبدالله أدهشتني حتى إني حسدته عليها. وقد تصاعدت بإصرار وتحول فيها من حال إلى حال، ومن سيارة بيكاب حمراء يقلُّ بها الركابَ إلى مالكٍ لأسطول سيارات يوظف معه كل من يرغب من أقاربه، وهو الآن يلعب بالأموال، وأخبرني أنه يسافر كل عام إلى بلد جديد كان آخرها موسكو، ويأخذ معه من يشاء من أقاربه. بينما أنا الموظف الحكومي، مسؤول النقليات بوزارة الزراعة، عليّ أن أنتظر ترقيتي سنوات، ووقتي ليس ملكي، وهناك كذلك البنك الذي يأسر نصف راتبي لخمسة وعشرين سنة بسبب طلب تأجيلات الدفع، فقط لأني فكرت في أن يكون لي بيت. كل هذه الأمور وغيرها لا يمكن أن يشعر بها عبدالله، الذي بعد أن سلم عليّ وانحنى لتقبيل رأس والدتي ودسّ عشرين ريالًا في يدها، انعطف صاعدًا هضبة منخفضة يقع عليها واحد من بيوته الثلاثة، تتقدمه كرشه التي بدت أيضا كهضبة، وهو يلوح بعصاه يمنة ويسرة، يسرة ويمنة.
المنشورات ذات الصلة
برايتون
... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر...
في طريق السفر تخاطبك النجوم
مغامرة صغيرًا كنتُ، صغيرًا جدًّا رميتُ صنارتي إلى البحر اجتمعت الأسماك معًا، رأيتُ البحر! * * * صنعتُ طائرة ورقية بسلك...
بين صحوي وسُكْرها
رغمًا ترددتُ.. لم أسكَرْ ولم أَصْحُ! في كأسكِ البرءُ أم في كأسكِ الجرحُ؟ قصّت جناحي بأفْق الحبّ أسئلةٌ ...
0 تعليق