المقالات الأخيرة

رسالة في الجوهري من وجودنا المباشر.. ضوء لإنارة مدينتنا العربية

رسالة في الجوهري من وجودنا المباشر.. ضوء لإنارة مدينتنا العربية

بعد نحو اثني عشر كتابًا بالعربية، وكتبٍ ودراسات أخرى بالفرنسية، تنتسب في مجملها إلى فضاءات البحث الأكاديمي، يحط المفكر فهمي جدعان رحاله على ضفة البحث الحر، مختارًا عنوان «رسالة» لكتابه الأخير (ونرجو ألا يكون أخيرًا) «معنى الأشياء» الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات...

الهوامش الفلسفية في التراث الشرعي

الهوامش الفلسفية في التراث الشرعي

إن الناظر في التراث الإسلامي يلحظ تسرب بعض المسائل والقضايا الفلسفية إلى العلوم الشرعية وتحديدًا أصول الفقه، وعلوم الحديث. وورود مباحث ومسائل في الأدبيات الشرعية، مما ليس داخلًا في حدود الفن الذي وردت فيه بمعناه الضيق، ليس غريبًا(1)، إلا أن ثمة خصوصيةً في طبيعة...

سيف الرحبي.. هذا الرأسمال الثقافي العربي الكبير

سيف الرحبي.. هذا الرأسمال الثقافي العربي الكبير

أُومِنُ بأن لا شيء يدوم، كل زمن له جيله، بما في ذلك الأزمان الثقافية والمؤسساتية، ومع ذلك، ولأنني أعتبر «نزوى» بيتي الثقافي فقد شعرت بنوع من الحزن الغريب، يتعالى على المنطق، وأنا أقرأ خبر مغادرة الصديق سيف الرحبي هذا النزل الأدبي والفكري العريق، شعور يشبه من يرى بيتًا...

صمتُ الجثة الغريبة بين الغرباء

صمتُ الجثة الغريبة بين الغرباء

(جملٌ يُطلُّ بعنقه الطويل، إلى مئذنةٍ على حافة الصحراء، بسَمْتٍ مهيبٍ كأنما يُصغي إلى النداء الربانيِّ الذي يمنحه العزاءَ والطمأنينةَ بعد رحلته الشاقة في بحر الرمال الغاضب). هذه إحدى اللوحات التي تركها لي كهديةٍ الفنان العراقي الراحل (حَمّادي) الذي صارَ يوقعُ لاحقًا...

السودان: نحو عقد اجتماعي جديد

السودان: نحو عقد اجتماعي جديد

إن التاريخ الاجتماعي السوداني لم يكتب بعد بالطريقة التي تسمح لأي باحث أن ينظر بأدواته نظرة موضوعية غير متحيزة. إن الذي نقع عليه في غالبه تحيزات وانصراف أكثر للمنهج الوصفي الذي من عيوبه أنه يركز على الإجابة على أسئلة «ماذا؟» بدلًا من، ما «سبب؟» موضوع البحث. فالغرض...

هنري ماتيس: أفضل الرسامين من يُنسَوْنَ لأنهم لم يتشكلوا على ما أردنا أن يكونوا

بواسطة | يوليو 1, 2024 | تشكيل

في الخامس من أغسطس، عام 1946م، بعد عامين من تحرير باريس من قبضة الألمان، زار جندي أميركي يدعى جيروم سيكلر هنري ماتيس. كان سيكلر شغوفًا بالفن الحديث، وقد اهتم بعقد حوارات مع بعض الفنانين الفرنسيين البارزين في ذلك الوقت: كان ماتيس من بين هؤلاء.

قبل بضعة أشهر فقط، كان ماتيس يعيش في فانس، على طول لاكوت دازور. كان يعاني في هذه المدة سرطان الاثني عشر لمدة خمس سنوات وكان الألم يسيطر عليه ويجعله يتقلب ويتأوه طوال الليل. كانت الممرضة تدلك ساقيه وتهيئ له شراب الأعشاب، وتقرأ له تحت ضوء خافت. وعلى الرغم من هذا الكابوس الجسدي، ازداد خيال ماتيس تفتحًا.

عندما زار بيكاسو وفرانسواز جيلو هنري ماتيس بفانس، وجداه جالسًا على السرير، مسلحًا بمقص كبير، ممسكًا بورقة ملونة بيدٍ بينما تتساقط قُصاصات كثيرة -ما أصبح يعرف باسم «القواطع»- على أغطية السرير من حوله. ذهل بيكاسو في صمت. وتذكرت جيلو في وقت لاحق فقالت: «جلسنا هناك مثل الحجارة».

وفي ليالٍ بيضاء، عادت إلى ماتيس ذكريات تاهيتي حيث عاش ورسم عام 1930م «بحنان ووضوح». وفي الصيف عاد إلى شقة العائلة في شارع مونبارناس، بباريس، حيث كانت الجدران مغطاة بنسيج بني رملي لم يُغَيَّرْ منذ عام 1926م. في تلك الغرف خاصةً، حاور سيكلر ماتيس. لقد حُفِظَ نصُّ الحوارِ بدقة في صندوق من الورق المقوى منذ ما يقرب من سبعين عامًا. أُجريَ الحوار الذي بلغ عدد كلماته نحو 3000 كلمة باللغة الفرنسية وتُرجم لاحقًا إلى اللغة الإنجليزية.

في الجزء الأول من الحوار، بدأ سيكلر بالسؤال عن استخدام ماتيس للموضوع بصفته مصدر إلهام. كان سيكلر قد أجرى سلسلة من الحوارات مع رسامين فرنسيين آخرين في ذلك الوقت، وكان يعلم أن ماتيس كان يختلف عن هؤلاء في قضية الموضوع… في الجزء الثاني من الحوار، تأخذ الأمور منعطفًا سياسيًّا. وفي الجزء الثالث، كان التركيز على أسئلة عن المنظور والإيقاع والخط ونظرية الألوان. وإجابات ماتيس هنا دقيقة ومضيئة.

في مقابلة إذاعية، سئل ماتيس: «لماذا ترسم يا سيد ماتيس؟»، فأجاب «لترجمة مشاعري، مشاعر وردود أفعال حساسيتي من خلال اللون والرسم…». وفي حوار مع الإذاعة الفرنسية عام 1946م، سئل ماتيس سؤالًا مفتوحًا: «كيف تعبر عن نفسك؟» فأجاب: «فيما يتعلق بالرسم الخاص بي، أتبع مشاعري الداخلية قدر الإمكان». ويبدو أن ماتيس تنبأ بصعود التعبيريين التجريديين: «الأولاد السيئون» الذين يحتاجون إلى الاعتماد اعتمادًا كبيرًا على «الغريزة» لإنتاج عمل في ثقافة تفتقر إلى تقاليد الرسم العميقة (على الأقل بالنسبة لماتيس، مقارنة بفرنسا).

الموضوع هو أنا

  ما أهمية الموضوع في الرسم؟

  أنت تطرح سؤالًا قد يكون من الضروري تأليف كتاب للإجابة عنه. السؤال معقد جدًّا. يرى بعض الناس اليوم، أن الموضوع ليس ضروريًّا. لدي دائمًا موضوع. الموضوع هو أنا وهو ما أراه. ومن دون موضوع، لماذا علينا أن نشتغل، أَلِتَغطِيَة اللوحة فقط؟

  لقد تحدثتُ إلى عدد من الرسامين الفرنسيين الجيدين ويصر كثير منهم على أن الموضوع ليس مهمًّا.

  من الضروري دائمًا الانطلاق من موضوع ما، حتى وإن تركه الفنان بعد ذلك. إنها المرأة الجميلة التي ترضيك، المناظر الطبيعية التي لها شكل معين يتوافق مع حساسيتك. أشتغل دائمًا على موضوع، إنه دائمًا موضوع يضعني في جو معين لا أستطيع الحديث عما يقوله الآخرون. الشيء الرئيس هو أن أشتغل على موضوع يلهمني.

  يبدو أن اختيارك الخاص للموضوع أو نقطة الانطلاق يدور دائمًا حول الزهور والنساء، وكأنه ثيمة ذات تنويعات.

  قبل أن أبدأ عملي أتمشى في حديقتي. قبل العمل في ورشتي الخاصة، أنظر إلى الزهور، شجرة، شكل من أشكال الغصون. أنا مهووس بالزهور، بمزيج من الخطوط. وعندما أعود، أتغذى من ذلك وأصنع شيئًا آخر، شيئًا مختلفًا تمامًا. هذا النقد الذي أبديه وأنا في ورشتي ليس مهمًّا. ما يهم هو النتيجة. عندما أتعرض لانتقادات شديدة من قبل رسامٍ ما، أقول له: «ضع عملك بجانب عملي وسنرى». إن سيزان هو الذي بدأ النقد ضدي. أتذكر أميركيًّا أراد الذهاب إلى جنوب فرنسا فطلب مني بعض المعلومات، «هل هناك منازل مثل المناظر الطبيعية في لوحات سيزان؟». كانت لدي ورشة للطلاب. كرر أحد الطلاب الذين تحدثوا إلى جيرترود شتاين كلماتي. أجابته: «نحن أميركيون». لا، ليس الشيء نفسه. لقد احتفظ بالكلمات وليس بالفكرة.

  قرأت اقتباسًا تقول فيه: إنك ترسم لوحاتك وأنت جالس على كرسي.

  قلت ذلك قبل أربعين عامًا، عام 1906م، ووجدت نفسي مقيدًا به طول حياتي. لقد كرره الناس مراتٍ عديدة لدرجة أنه أصبح شعارًا. أعتقد أن الفن لا يكون بشعًا. هناك ما يكفي من التعاسة ليتجه الانسان نحو الفرح. على المرء أن يحتفظ بالبشاعة والتعاسة لنفسه. يمكنه دائمًا العثور على شيء لطيف. التعاسة لا تدوم وهذا يمنحنا تجربة. لسنا بحاجة إلى إصابة الناس بإكراهاتنا. علينا أن نصنع شيئًا هادئًا. نقدم فنًّا حافزًا يقود روح المشاهد إلى مجال يضعه خارج إكراهاته.

الفن والجمهور

  ومع ذلك، فإن فنانين مثل غويا ودوميي لم يفلتوا قط من وقائع الحياة الأكثر قسوة. واليوم لدينا الغارنيكا. انظر إلى الآداب. لدينا شكسبير، ميلتون، بلزاك، إنهم رائعون لأنهم على وجه التحديد كانوا قادرين على إبراز كل جوانب الحياة.

  للفن التشكيلي ميزة على الأدب من ناحية أنه أكثر اتساعًا. الأدب شيء دقيق. أما المعنى التشكيلي فشيء فوق ذلك وأكثر اتساعًا. أما الإنسان البسيط، والعامل، فلا بد أن يكون هناك شيء في اللوحة يرضيه ويجد فيه إحساسه الذي سيمكنه من تقديرها. سيقدر الغني لوحة بثمنها، لكن الإنسان العادي سيحب اللوحة لأنه يشعر أنها جيدة حتى وإن لم يعرف السبب. سيقول المصرفي عن اللوحة: «إنها جيدة مثل اللوحات الأخرى لأنها بالسعر نفسه، 200.000 فرنك».

  هناك نقاش كبير يقودُه على الخصوص نقادُ الفنّ المعادون، مفاده أن الفن الحديث يعادل الاحتيال، وأن الفنان يحاول أن يمرر شيئًا ما للجمهور. وعلى الرغم من أن هذا الجمهور يقبل الفن الحديث عندما يُدمج في الهندسة المعمارية والإعلانات والملصقات، فإنه لا يزال يرفض قبول الرسم الحديث. فما الذي يمكن فعله في رأيك لسد هذه الفجوة؟

  من يهتم بالسؤال؟ إنهم الرسامون والنقاد. بدأ الأمر بهذه الطريقة، وانتقده الجميع، لكن الأمر لم يزعجني قط. قلت لنفسي: «عندما أعبّر بوضوح عما أرسمه، سيفهم الجميع». واصلت عملي وقُبِلتُ. لا يفهم بعضُنا بعضًا قط، نسلم بذلك جدلًا. يتعين على الرسامين فقط العمل بإخلاص مع الطبيعة أو من دونها وبعد ذلك سيأتي الجمهور. لا يتعين على طباخ أن يطلب دائمًا الموافقة وأن يطلب من الآخرين تذوق الأطباق التي يُعِدها. إذا كان عليك أن تزعج نفسك مع الجمهور، والرسم، وفنه، وما يمكن قوله، فإنك لن تصل أبدًا، فالأمر معقد جدًّا.

هناك فن، مشروع رسم اللوحات، وما تشعر به. من الضروري إبداع شيء ما بلغة واضحة. وستُقبَل اللوحة يومًا ما، لا يمكنك فعل أي شيء لتعزيز ذلك. لقد رأيت دائمًا أولئك الذين يحبون الرسم، كانوا هم الذين لم يكن لهم ابن. علمت ذات مرة أن رجلًا كان يتابع لوحاتي مدة عشرين عامًا ولم يكن أحد يعلم ذلك. لم يتحدث الناس قط عن الرسم كما هو الحال الآن. آمل أن يكون الرسام اليوم جيدًا، لكني لست متأكدًا. لا يوجد إلا عدد قليل من الفنانين المهمين في كل عصر. ليس من الضروري أن يكون هناك فيلق من الرسامين. يعتقد الرسامون أنهم موجودون لأن الناس يتحدثون عنهم. الأمر أبسط وأصعب من ذلك. هناك العديد من الرسامين الجيدين في كل عصر، ولكن هؤلاء قلة بالنسبة لجميع الرسامين الذين ليسوا كذلك.

الفنان وضرورة المعاناة

  إذا كان الفنان يؤدي مثل هذا الدور المهم في المجتمع، ألا تعتقد أنه يجب تقديم دعم حكومي للرسام مثلما يقدم لأي موظف حكومي آخر؟ ولن يقلق عن مصدر رزقه. يمكنه أن يعيش حياة أسرية طبيعية مثل أي شخص آخر. ولن يكون تحت رحمة وكيل. يجب أن يكون حرًّا حقًّا في الرسم.

  أنا ضد اليسر. إذا تركنا للإنسان إمكانية الحصول على تقاعد خاص بالرسم، من الحكومة، لجميع الأشخاص الذين يرغبون في الرسم، فإن جميع الهواة سوف يتناولون الفرشاة. وهذا مستحيل، لا بد أن يكون هناك قلق. وبإعطائنا للذين يريدون الرسم، فمن الضروري وضع حاجز قوي جدًّا يمنع غزو الرسام الرديء. في كل مرة يصل فيها الطالب الذي يكرس حياته للرسم إلى المدرسة لأول مرة، عليه أن يتلقى وابلًا من ضربات العصا، وبعد ذلك يعود إلى منزله وسيرى عند ذاك إن كان يريد البدء من جديد. فإذا كان هناك اختبار من هذا القبيل، فسيكون هناك عدد كبير ممن لن يعودوا.

من الضروري أن تكون الحياة صعبة حتى تتشكل حياة الإنسان. وهذا يمنحه قوة. الفن شيء استثنائي. يعتقد كثير من الناس أنهم فنانون لأنهم يشاهدون غروب الشمس الجميل أو الزهور. واليوم مع التطور الحضاري الذي وصلنا إليه، أصبح الجميع محبًّا للفن، لكن هذا لا يعني أن الجميع أصبح قادرًا على تناول الفرشاة ليرسم. لن يتمكن المرء من القيام بأكثر من هذا إذا كان الجميع يرسم. أتحدث إليكم بصدق. أتمنى أن تختار لجنة من الفنانين المعترف بهم الشباب الموهوبين في الرسم وأن تمنحهم الدولة إعانة. لكن الأعمال التي ينتجها هؤلاء يجب أن تكون في ملكية الدولة التي ستضع هذه اللوحات الفنية في متاحفها، بحيث يمكن أن يراها القادم إلى فرنسا لرؤية الرسم الفرنسي والأميركي،… إلخ.

ولا شك أن أفضل الفنانين لن يكونوا أولئك الذين لم تعترف بهم لجنة الفنانين. الأفضل هم الذين سيصلون بأنفسهم. ستعترف بك لجنة الفنانين. ستجلس على كرسيك وتقول في نفسك: «أنا فنان معروف». وهذا يمنحك الفخر والتظاهر. على المرء أن يحافظ على الرغبة في العمل. عليه أن يعاني من أجل ما يحبه. إنها الحقيقة في نظري، وقد لا يكون الأمر كذلك حسب رأيك.

أقول لك ما أُومِنُ به. هؤلاء الشباب الذين سيُعتَرف بهم بصفتهم فنانين، لن يكونوا من بين أولئك الذين سيصبحون أفضل الفنانين. الأفضل هم أولئك الذين سيُنسَوْن لأنهم لم يتشكلوا على ما أردنا أن يكونوا. أولئك الذين سيعملون بروحهم وبالرغبة في التعبير عن أنفسهم. هؤلاء هم الذين سيصبحون أفضل الرسامين.

  يبدو لي أنه كلما زاد عدد الرسامين كان ذلك أفضل. فهذا يجعل الناس يفهمون الفن أكثر. وهذا يخدم بهذه الطريقة هدفًا تعليميًّا. هذا أولًا، وثانيًا، كلما زاد عدد الرسامين، زاد احتمال وجود المزيد من الرسامين الممتازين. يمكنك بالتأكيد الحصول على تفاح جيد من بستان لأشجار التفاح أكثر من حصوله من شجرة واحدة. إذا حصلنا على عشرة فنانين جيدين فقط من أصل 10.000، فذلك أفضل من وجود رسام جيد واحد في الألف. في الولايات المتحدة، في أثناء مدة الكساد، أنشأت الحكومة برنامجًا فيدراليًّا للفنون منح فرص عمل للعديد من الفنانين، إضافة إلى افتتاح العديد من المدارس الفنية للمبتدئين. وقد عرف هذا الرسم الأميركي قفزة رائعة. كانت بداية العديد من الرسامين الجيدين في تلك الحقبة. وفي الرسم على الجدران على سبيل المثال، كان العديد من الجدران مزينًا بجداريات. وعلى الرغم من أن كثيرًا منها كان رديئًا، فإنه أكسب بلدي بداية تقليد في الرسم على الجدران. لماذا على الفنان أن يتضور جوعًا؟ لماذا علَيَّ أن أكون مثل عمال النظافة في المجتمع؟

  أنتَ لستَ محققًا حقيقيًّا. أنت ترغب في فرض أفكارك علي. كل الفنانين الذين عانوا الجوعَ والبردَ رسموا لوحةً جيدة؛ بيكاسو، ماغريت، روولت، وأنا، جميعنا بدأنا هكذا. الوقائع لها دلالة ما. يبدع الفنان الحقيقي من أجل أن يرى بوضوح ما بداخل نفسه، لفهم نفسه. لا يمكن أن نفهم لوحة ونحن لا نفهم صاحبها. الأسئلة التي تطرحها علي ليست معقدة كثيرًا. هي بسيطة جدًّا وواضحة. من الواضح أنه من أجل أن يكون لنا فنانون جيدون، فمن الضروري ألا يأكلوا جيدًا.

  ولكن بمجرد أن تتوقف عن الشعور بالبرد والجوع، فهذا لا يمنعك من الاستمرار في تطوير فنك. بالحديث عن المعاناة والفن، أخبرني العديد من الرسامين أن الحرب على سبيل المثال لم تؤثر بشكل من الأشكال في لوحاتهم.

  من المستحيل ألا يشعر الفنان بآثار الحرب. هذا يجعله يأخذ الأمور بشكل أعمق، لما عليه القيام به، لا يمكن أن يغير عمله.

  يبدو أن الحرب لم يكن لها أي تأثير في الفن في فرنسا! وأنا لا أفهم ذلك.

  علينا أن نذهب إلى منازل جميع الرسامين. علينا أن نذهب مرة واحدة في الأسبوع، مرة واحدة في الشهر إلى جميع الورشات، وعلينا كسر جميع اللوحات بالزجاجات، علينا كسر الزجاجة. لكن الزجاجة مثال سيئ. فالموضوع نفسه، يمكن أن نعبر عنه بطرق مختلفة، لكن الزجاجة رسمها سيزان وهذا ليس جيدًا. الأشخاص الذين يرسمون الزجاجات هم الأشخاص الذين يقولون لأنفسهم: «الزجاجات جيدة لأن سيزان رسمها».

  عندما يشتغل الرسام داخل ورشته الخاصة، فإنه لا يفهم ما يحدث في الخارج.

  الرسام ليس سيدًا في ورشته الخاصة أكثر مما هو سيد خارجها. يحتاج إلى تمثيل الأشياء في إطار يتماشى مع مشاعره. الفنان يخرج، يرى شيئًا يغنيه، فيعود إلى منزله. فهم الموضوع يجعله يستفيد مما رآه. رسمت لوحة فتاة صغيرة أمام النافذة. تركتها من أجل الذهاب إلى جزر المحيط الهادي، لآخذ القارب، للذهاب إلى نيويورك، مدينة رائعة، المباني الكبيرة جدًّا جعلت السماء الزرقاء تبدو عالية جدًّا. عبرت أميركا. زرت شيكاغو، لوس أنجليس. لم أكن أرغب في رؤية شلالات نياغرا؛ لأني رأيتها في كثير من الصور. زرت سان فرانسيسكو. غادرت إلى تاهيتي. رأيت نباتًا مختلفًا تمامًا، كل شيء جميل ومثير. زرت جزر المرجان حيث الهواء النقي والأسماك المختلفة. عدت عبر قناة بنما، وتوقفت في المارتنيك وغوادلوب، ثم عدت إلى مرسيليا. عدت إلى الورشة الخاصة بي ونظرت إلى لوحتي مرة أخرى فانتهيت منها. وبعد مرور وقت قصير وضعت زخرفة عبرت فيها عما شعرت به خلال رحلتي، وأنا مدين لهذه الرحلة بما قمت به. ليس الموضوع هو المهم. الموضوع يضعك على الطريق، لكنه لا يهم.

الشكل، اللون والإيقاع

  أحب لوحاتك، لكني أريدك أن ترسم شيئًا آخر، ليس المرأة فحسب.

  الله الذي خلقك لم يهبك القدرة على أن ترسم كل شيء. الفنان يغير الفكرة. يمكن للمرء أن يعبر عن الموضوع نفسه بالوسائل نفسها دائمًا. لقد رسم رفائيل الفكرة نفسها دائمًا، ولكن ليس دائمًا بالتعبير نفسه. إنها الذريعة، وإذا لم أقم بالتعبير نفسه فذلك لأن الطبيعة متنوعة، إن الفكر يمنحك تعبيرات مختلفة. على المرء أن يعمل لمدة طويلة لكي يقدم هذه الأشياء. لماذا تجعلني أبدع أشياء مختلفة. أتواصل مع الطبيعة من خلال أشياء معينة. لماذا نبحث في مكان آخر؟

  هل تستخدم اللون بطريقة علمية؟ ما نظريتك عن اللون، وبخاصةٍ فيما يتعلق بمفهومك للمنظور؟

  لا، أنا لا أستخدم الألوان بطريقة علمية، وليس لي نظرية في اللون. ليست لدي أي نظرية، حتى في الرسم. هذا لا يأتي إلا مما أعرف عما أتطلع إليه. أنا أعمل وأنتظر ما سيأتي. عندما بدأت الرسم، قمت بنسخ لوحات متحف اللوفر وانتهيت إلى توضيح كل ما فكرت فيه، وكيف أن هذا اللون شيء جميل جدًّا. لماذا نخلط الألوان. لماذا لا نستعمل الألوان كما هي بشكل طبيعي. لقد بحثت عن توليفاتي بتوليفات من الألوان التي لا تدمر نفسها. يتم المنظور في رأسي وليس على الورق. هذا يتعلق بك وبالأفكار التي لديك. أبسط الأشياء هي الأصعب. هل يمكننا أن نفهم عدم استعمالنا المنظور مثلما يستعمله الإيطاليون؟ البدائيون أيضًا لم يكن لهم منظور. على المرء أن يرى الألوان وكأنها أصوات. التوافق الموسيقي له تعبير معين. لديك تناغم ألوان له أصوات معينة. كل الموسيقا مكونة من سبع نوتات. وبهذا نقيم التناسق. كذلك الأمر في الرسم.

  لا تنس أن لدينا إيقاعًا في الموسيقا. بنوتة بسيطة واحدة، على سبيل المثال، يمكن أن يكون لديك عدد كبير من المشاعر المختلفة حسب الإيقاعات.

  في التأليف (الرسم) أيضًا يوجد إيقاع. تكتسب توليفاتي أيضًا من خلال إيقاعها، ما يمنحها حياة أعمق. إن الإيقاع هو السبب في أن توليفاتي لم يعد لها المظهر نفسه؛ انظر إلى ذلك الرسم على الحائط، المرأة تضع ذقنها على يدها، وتلك الذراع ليست كذلك في الواقع، إنها نحيفة جدًّا، لكني قمت بتغييرها لأقدم إيقاعًا أفضل. وانظر إلى هذا الرسم. العنق ليس له صفات الملابس نفسها. إن التغيير في الإيقاع يعطي التغيير في الجودة.

  ما العلاقة بين الشكل واللون في رأيك؟

  الأمر معقد. هذا مرتبط ببعضه الآخر (ماتيس يشبك يديه) هكذا. يُدَار الأمر تلقائيًّا. إنه مثل رجل وامرأة.

  حسب ما رأيته في الرسم الفرنسي، فهو اندفاعة لبيكاسو، اندفاعة لماتيس، قليل من الفن البدائي وانتهى الأمر.

  نعم، إنه كوكتيل.

  في أي اتجاه تعتقد أن الرسامين الفرنسيين سيتجهون؟

  لا أعرف كل شيء. لا يمكنني أن أتنبأ.

الحاجة إلى نموذج

  الولايات المتحدة بلد جديد يحظى بقوة كبيرة.

  يتمتع الفنانون في أميركا بقدر كبير من القوة، لكن هل لديهم صوت؟ يمكن أن يكون لديك عدد كبير من الموسيقيين، وعدد كبير من المطربين، ولكن لا تملك أي موهبة. في أميركا رسامون يقدمون أعمالًا متقنة مثل موسيقا الجاز. لا بد أن تكون لدينا غريزة. أعتقد أنه لا يوجد في أميركا كثير من الشباب السيئ، بعض المصرفيين الذين لا يرغبون في أن يكونوا مصرفيين، الذين لا يرغبون في أن يكونوا رجال أعمال. نخلق الفنانين مع الحالمين. يمكن أن تملك قوة، وإذا كنت لا تملك موهبة فلن تصل أبدًا.

  ما رأيك في الفن التجريدي؟

  هناك تجريد وهناك شبه التجريد. لا أعرف شيئًا. لا أفهم. حتى لا نستعمل لغة العامة، لا بد أن يكون لدينا ما نقوله. إذا لم تحصل على ما لديك للتعبير عنه، فإنك ستصبح مجرمًا. إذا أحس فنان تجريدي بالخطوط، فإنه سيعطينا خطوطًا إيقاعية. إذا كان ملونًا فسيعطينا ألوانًا جميلة، وهذا لا يعني أنه سيكون مفهومًا. فهل هذا آتٍ من شيء بشري يمكنه أن يتواصل؟

  يجب أن يكون لك شيء للرجل في اللوحة.

  أردتَ أن تتحدث معي عن وجهة نظر ماركسية في الرسم. آمل أن تتغير لأن تفكيرك سيتطور. إنها الثورة المستمرة. أنا أيضًا أعيش ثورة مستمرة. أنا أيضًا أعمل لمدة خمسة وخمسين عامًا أحاول إصلاح نفسي قدر الإمكان، من دون التمسك بالشيء نفسه فيما أقوم به.

  جميع الرسامين عصبيون ويعبرون عن عُصابهم في لوحاتهم.

  هل تعتقد أني عصبي؟ هل يظهر هذا في لوحاتي؟

  هل يمكنك أن تشرح لنا سبب تفضيلك لرسم النساء وعدم رسمك للرجال تقريبًا؟

  أنا أرسم النساء. لو لم يكن هناك نساء لرسمت الزهور. لقد اخترت النساء؛ لأن لهن إيقاعات ونِسَبًا، وأشكالًا ترضيني. سأرسم رَجُلًا، رجل أعمال أميركيًّا على سبيل المثال، بكل سرور؛ لأن ما يهم هو أن يكون لديك نموذج سيصبح مثيرًا للاهتمام. لا أستطيع أن أرسم امرأة جميلة غبية. في الطرح الأول إذا كانت جميلة، سأعيرها أشياء. في الجلسة الثانية سأجد نفسي أمام لا شيء. أحتاج إلى نموذج يتمتع بالذكاء والحساسية. هناك رجال وسيمون جدًّا، أقوياء، ذوو عضلات مفتولة، فقط أجد في المرأة الشيء الكثير لأرسم اللوحات أكثر مما أجده في الرجل. أود أن أرسم المصارعين وهذا يثير اهتمامي، أو أرسم لاعبي هوكي الجليد. كنت أود أن أرسم المتزلجين في سويسرا، لكن الطبيب منعني من الذهاب إلى هناك.


مصدر الحوار: مجلة The design Observer

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *