كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
حداثة الأفكار البرَّاقة والمعايير المجحفة
في كثير من دول العالم، وفي الدول الفقيرة والنامية أو ما يسمَّى بالعالم الثالث على وجه الخصوص، تلقّت الشعوبُ الحالمة بواقع أفضل أفكارَ التنوير بقدرٍ كبيرٍ من الشغف والانبهار، وربما الدهشة، بل أسهمت في الترويج لها بحماسة فاقت حماسة المنظرين لها والمؤسسين لأفكارها، فقد تصورت تلك الشعوب أن هذه المصطلحات البرَّاقة في مظهرها تحمل في جوهرها أسباب الخلاص من واقعهم السلبي المَعِيش، وتُبشِّرهم بواقعهم المتخيَّل والمأمول، ولكن البحث العميق في فلسفة وأبعاد التنوير أثبت مع مرور الوقت أن النظريات البرَّاقة تختلف جذريًّا عن التطبيقات؛ فالنظريات بَدَت مُشِعَّةً وبرَّاقةً ومُبشِّرةً، بينما التطبيقات الفعلية على أرض الواقع بَدَت فادحةً ومجحفةً ومُخيِّبةً للآمال، وشَتّان بين النظريات التي فتحت أمام الشعوب المغلوبة على أمرها أبواب الأمل في الحرية والعدالة والمستقبل الواعد، والتطبيقات التي أسهمت في اندلاع الحروب، وتأجيج الصراعات، وتعطيل مسارات التنمية، وتوسيع الفجوة بين الواقع والمأمول.
لقد رسَّخت تلك النظريات البرَّاقة للتنوير بالمفهوم الغربي لكثيرٍ من التصنيفات العنصرية بين الغرب والشرق، بين الأنا والآخر، بين القوي والضعيف، بين العالم الأول المصدِّر للنظريات والأفكار والمروِّج للتنوير وما بعده، والعالم الثالث المستهلك لتلك النظريات التي يرى في ظاهرها صورة مشرقة لأحلام التقدم والتحرر والازدهار، وعلى الرغم من النتائج المنطقية التي كشفت عنها الرؤى النقدية العميقة لأبعاد ومتطلبات التنوير، فلا تزال الفجوة شاسعة بين النظريات بكل ما تحمل من وعود زائفة، والتطبيقات بكل ما ينتج عنها من مخرجات مخيِّبة للآمال، وقد يتجلَّى ذلك في منظومة التصنيفات العنصرية التي تقسِّم شعوب العالم على أساس أعراقها وألوانها، فالعِرق الأبيض -من وجهة نظر الفكر الغربي- هو الذي يملك وحده كل مقومات التحضُّر، وهو القادر وحده على قيادة العالم وإعادة بناء الحضارات، ومن بعده تأتي الأعراق الأخرى ذات الدرجات الدُّنيا من ذوي البشرة الصفراء، ثم السوداء، وصولًا إلى الهنود الحُمر الذين وضعتهم الرؤى الفلسفية الغربية في قاع التصنيف البشري، وكأنها صورة من صور التسويغ للممارسات أو الأفكار العنصرية، ويتضح ذلك بشكل لافت وصارخ عند النظر في تطبيق القيم المتعلقة بالعدالة والمساواة وحقوق الإنسان، ففي الوقت الذي يُصدِّر فيه الغرب للشرق معايير محددة لتلك القيم، ويستخدمها للضغط على الشعوب والحكومات بهدف تطبيقها والانصياع لمعطياتها، نجده يستخدم القيم نفسها في مجتمعاته بمعايير مختلفة، وربما متناقضة تمامًا مع ما يطالب به المجتمعات الأخرى.
ولأن الرهان على «سؤال التنوير ومخرجاته» سيظل مثار جدل كبير لسنوات طويلة قادمة، أردنا في مجلة «الفيصل» أن نخصص ملف هذا العدد لمناقشة «قضية التنوير» من زاوية المساءلة الموضوعية لأفكاره وأبعاده من خلال آراء نخبة من المختصين والمثقفين العرب.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
الحداثة وما بعد الحداثة موضوع بالغ كثير من الكتاب والمفكرين في تناوله بشكل ملفت في السنوات الأخيرة، حتى تحامل كثير من الكتاب العرب على بعض القيم والثوابت والتقاليد والعادات العربية، فجعلوها من التقليد والتخلف، في زمن انقلبت موازينه…