كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
بين الجمال والبروباغندا… آراء في وظيفة الفن
دائمًا ما يُطرح سؤال متعلق بالوجهة التي يمكن أن تتخذها الأشكال التعبيرية التي تجد نفسها في سياقات معينة تفرض عليها خدمة أغراض شتى. وتنبع وجاهة السؤال من الإيمان بما تملكه الأشكال التعبيرية من قوة التأثير من جهة، ومن توازي القيم الجمالية التي تنطوي عليها مع قيم أخرى لا تنفصل عنها وإن بدا عكس ذلك. وللإجابة عن هذه المسألة خيضت جدالات شتى، أحدها ما دار في عشرينيات القرن الماضي بين اثنين من المثقفين الأميركيين الأفارقة الذين أخذوا يفكرون بجدية في مسألة الاستخدامات التي ينبغي أن يوظف فيها فن السود وأدبهم. المثقفان اللذان أطلقا الجدل هما دبليو إي بي دوبويز وآلان لوك، وكانت لديهما أفكار مختلفة تتعلق بوظائف الفن والأدب عند السود. فبينما اقترح لوك استخدامًا جماليًّا بحتًا للموهبة السوداء، دعا مواطنه دوبويز إلى مشاركة اجتماعية وسياسية للكتّاب والفنانين السود لتحسين وضع مجتمعهم. ولذلك جرى تداول هذا الجدل على نطاق واسع واجتذب مساهمة عديد من الكتاب والفنانين المعاصرين من مواطني الولايات المتحدة ذوي الأصول الإفريقية، مثل لانغستون هيوز، وجورج سكايلر، وتشارلز دبليو تشيسنت، على سبيل المثال لا الحصر.
توظيف الجماليات خارج العمل الجمالي
تنظر هذه المقالة إلى ذلك الجدل وتحاول تقييمه في مقابل أفكار الناقد والمفكر الألماني ڤالتر بنيامين الذي كتب حول الموضوع نفسه تقريبًا ولكن في سياق آخر. لقد طرح بنيامين في كتاباته المختلفة، وبخاصة مقالته «المؤلف بوصفه منتجًا» التي كتبها عام ١٩٣٤م، موقفًا جدليًّا مستوحى من الماركسية لمعالجة مسألة الجماليات في مقابل البروباغندا. ولكن عند النظر إلى السياقات التي نشأ فيها الجدالان يتبين أن بنيامين تمكن بأسلوبه الجدلي من التوفيق بين وجهتي النظر المتعارضتين لكل من لوك ودوبويز. ومن الجدير بالذكر أن إجراء المقارنة بين خطي التفكير هذين أمر ممكن على الرغم من اختلاف سياقهما، فالاتجاهان الفكريان يركزان على أسئلة مماثلة مع أنهما نتاج أجندات مختلفة تمامًا.
إن الأسئلة النظرية التي طرحها بنيامين من جهة وكل من لوك ودوبويز من جهة أخرى تتعلق بالنوع نفسه من الاهتمام النظري: ما الطرق- إن وجدت- التي يجب أن تستخدم الجماليات لخدمة قضايا خارج العمل الأدبي؟ وفي حين ينخرط لوك ودوبويز في المجال الاجتماعي والسياسي للفئة العرقية التي ينتميان إليها، فإن نظرية بنيامين مدفوعة بالتعبير الماركسي عن الصراع الطبقي، فمقالته مليئة بالمفاهيم الماركسية، مثل علاقات الإنتاج وغيرها. وفي الواقع، فإن إلقاء نظرة على محادثاته ومراسلاته مع مواطنه برتولت بريشت، على سبيل المثال، من شأنه أن يوضح هذه الخاصية. قد يكون التأثير الآخر هو حياة بنيامين الخاصة، فنحن نعلم أنه عاش أسلوب حياة لا يتوافق مع مهنته في الكتابة، وإدراكه لوضعه بصفته كاتبًا يعيش بالكاد على موهبته ربما يكون قد ساهم في تشكيل نظريته حول المؤلف باعتباره منتجًا. ومع ذلك فإن هذا لا يؤثر في جدوى مقارنة حجة بنيامين مع تلك التي طرحها لوك ودوبويز على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي.
دبليو إي بي دوبويز كاتب أميركي من أصل إفريقي كان غزير الإنتاج، إذ شملت مسيرته الكتابية النقد والتاريخ وعلم الاجتماع والنشاط السياسي. وقد عُرف في الأوساط الأدبية والفكرية بعمله محررا لمجلة (Crisis) المخصصة للنهوض بأدب السود وفنونهم. نشر دوبويز عام ١٩٢٦م مقالًا في المجلة نفسها بعنوان «معايير الفن الزنجي»، بعد أن طرح أفكار المقال لأول مرة في مؤتمر شيكاغو لمنظمة (NAACP) وهي المنظمة الوطنية المعنية بتمكين السود. في المقال الذي كان بمثابة بيان فكري أعرب دوبويز عن موقف ثوري لا هوادة فيه مفاده لزوم توظيف الفن في الاستخدامات السياسية لرفع مستوى قومه، بحيث يجب أن يؤدي فن السود دورًا حاسمًا في تغيير النظام الاجتماعي الأميركي، أو على الأقل في تحديه ومساءلته. وهذا ما يجعل الحديث عن فن السود جزءًا أصيلا من النضال من أجل المساواة الاجتماعية التي كان المجتمع الأميركي الإفريقي يسعى إلى تحقيقها. لقد قدمت محنة السود في أميركا لهذا المجتمع فرصة غير مسبوقة لتعريف الجمال، فبسبب التهميش الممنهج «لم يصل إلينا نفور معين من التبجح المبهرج فحسب، ولكن أيضًا رؤية لما يمكن أن يكون عليه العالم لو كان عالمًا جميلًا حقًّا»، كما يجادل دوبويز.
الفن كدعاية وقضية
في ذلك المقال تركيز شديد على روح العصر التي ينبغي التعبير عنها بحريةٍ من خلال الفن، وهي روحٌ جديدة مبنية على إدراك الماضي والعزم على الحصول على مستقبل مختلف. يكتب دوبويز معبرًا عن تلك الروح: «نحن السود… لدينا في داخلنا حركات جديدة، حركات بداية تقدير جديد للفرح، ورغبة جديدة في الإبداع، وإرادة جديدة للوجود». علاوة على ذلك فإن تلك الروح مبنية على الاختلاف في الخبرة الحياتية التي دفعت دوبويز إلى القول: «نحن السود نستطيع أن نرى أميركا بطريقة لا يستطيع الأميركيون البيض رؤيتها بها». ولتوضيح كيفية التعبير عن «الروح السوداء» يفترض الكاتب رؤية إنسانية تكون فيها الحقيقة والعدالة أمرًا أساسيًّا بحيث يمكن تحقيق التقدم التصاعدي للرجل الأميركي الأسود من خلال توظيف الأدب والفن لصالح القضية. كما أنه من واجب الفنان الأسود أن يعبر عن القيم السامية للحقيقة والعدالة التي تنال إعجاب الإنسان العالمي بغض النظر عن عرقه أو لونه أو دينه. ولتحقيق هذا الهدف عليه أن يستخدم الحق، ليس من أجل الحق ولكن لأن الحقيقة خير خادم للخيال على حدّ تعبيره. حينها فقط يتمكن الفنان الأسود من تخليق الجمال وتحقيقه والحفاظ عليه بأكثر الطرق إثمارًا.
يوجّه دوبويز انتقاداته إلى سياسات الاعتراف في الولايات المتحدة، إذ يشير إلى ضآلة فرص النشر أمام الفنانين والكتّاب السود، وإلى أن الصعوبات في التعرّف على مواهب السود واحدة من سمات الوسط الأميركي في بدايات القرن العشرين. في سياق كهذا يعتبر الاستخدام الدعائي للفن والأدب الشرطَ الأساسيَّ للاعتراف بالفنانين والكتاب السود. ويعتقد دوبويز أنه «إلى أن يفرض فن السود الاعتراف بهم، فلن يصنَّفوا بشرًا»، داعيًا إلى «حكم حر وغير مقيد» دون وساطة من صناعة النشر البيضاء وبدلًا من القيود التي تهيمن على مشهد النشر. هكذا يمكن للمرء أن يفهم بيان دوبويز القوي حول الاستخدام الدعائي للتعبير الفني، الذي يؤكد من خلاله على أن «كل الفن دعاية ويجب أن يكون كذلك دائمًا».
بالنسبة لدوبويز يكتسب هذا الاتجاه الدعائي شرعيته من مواجهة البروباغندا البيضاء الموجودة في المجالين الأدبي والفني، فقد تميزت المسرحيات والقصص في زمنه بالتفاوت الصارخ في تصوير الشخصيات البيضاء والسوداء، ولذا تقع على عاتق الفن الأسود مهمة تحدي هذا التباين من خلال الدعاية الإيجابية. يضيف دوبويز أنه بفضل تلك التوقعات وأعراف التوصيف السائدة حتى الفنانين البيض أنفسهم كانوا محصورين ومحدودين، فقد فرضت دور النشر رؤيتها على مواهب الكتاب والفنانين على حد سواء من خلال تضييق نطاق نوع القصص المقبولة في الصناعة. ولكن بالطبع الأمر أكثر صعوبة للفنانين السود الطامحين: «إذا أراد رجل ملون أن ينشر كتابًا، عليه أن يستعين بناشر أبيض وصحيفة بيضاء ليقال: إنه عظيم». يصبح من الواضح أن سياسات الاعتراف والتمثيل تشكل الرغبة في استخدام الفن من أجل النهوض بقضية المجتمع الأميركي الإفريقي في أميركا العشرينيات من القرن الماضي.
الشاعر والنبي، الوعظ والغناء
يتناقض موقف دوبويز المتشدد هذا مع موقف زميله آلان لوك، وهو شخصية مهمة فيما يعرف بعصر نهضة هارلم، حيث كان فيلسوفًا وناقدًا يكتب عن الفن والأدب الأميركي الإفريقي بغزارة ويسهم إسهامًا كبيرًا مع زملائه الآخرين في مشهد هارلم النابض بالحياة. تناولت مقالة قصيرة كتبها لوك عام ١٩٢٨م بعنوان «فنّ أم دعاية» السؤال المُلِحّ المتمثل في جماليات السود. عندما تُقرأ المقالة بوصفها ردًّا على مقال دوبويز المشار إليه أعلاه، الذي نُشر قبل عامين من مقالة لوك، فإنها تشكل جزءًا مما أصبح يُعرف لاحقًا باسم مناظرة لوك ودوبويز. يمثل هذا الجدال معسكرَيْنِ متباينين حول مسألة طبيعة الالتزام في الإنتاج الأدبي والفني للمثقفين السود في أميركا ما قبل الحرب الأهلية. وكانت النقطة الأساسية التي اختلف حولها المثقفان، كما أسلفنا الذكر، هي الوظيفة التي ينبغي أن يكون عليها الأدب والفن الزنجي الجديد، فبينما أكد دوبويز أن مثل هذا الأدب في تصويره لتجربة السود يجب أن يهدف إلى تحسين وضعهم الاجتماعي والسياسي، رفض معاصروه هذا الالتزام بوصفه دعاية لا ينبغي أن يكون عليها الأدب والفن.
على عكس دوبويز، يرى لوك أن اهتمام مثقف الحركة الزنجية الجديدة يجب أن يرتكز على أسس جمالية بحتة، وأنه لا بد من التقليل من الاستخدام الاجتماعي والسياسي الصريح للأدب والفن، أو حتى التخلي عنه إن أمكن، بحجة أن مثل هذا الاستخدام للموهبة يعبّر عن دونية أقلية تعيش في ظل أغلبية متعالية. وفي هذا الصدد، يجب أن ننسب كثيرًا من الفضل إلى الموهبة الفردية التي من الممكن أن تضيع في التعبير الجماعي الأساسي للاستخدام الدعائي للأدب والفن. إن دفاع لوك عن التعبير الفردي لا يعوق اتباع القيم العالمية، مثل الحقيقة، التي ينبغي نشرها في تعزيز مصالح الجنس البشري عامة. لا يستلزم هذا التقدم بالضرورة تبنيًا ساذجًا لموقف «الفن من أجل الفن»، ولكن يستلزم على حد تعبير لوك «إدراكًا عميقًا للغرض الأساسي للفن ووظيفته بوصفه جذرًا أساسيًّا لحياة قوية ومزدهرة».
يفتتح لوك مقالته بمجموعة من الأسئلة من قبيل: هل هذا جيل النبي أم جيل الشاعر؟ وهل تقوم قيادتنا الفكرية والثقافية بالوعظ أم بالغناء؟ إلى غير ذلك. وهو يؤيد جانب الشاعر بالطبع. والسبب يكمن حسب رأيه في الاتجاه العام للاستخدام الدعائي للتعبير الفني لتعزيز بنية السلطة السائدة. يفترض لوك أن الدعاية بصرف النظر عن خطيئتها «تديم موقف الدونية الجماعية حتى في الصراخ ضدها»؛ لأن ما هو مسخر للبروباغندا يظل يتحدث في ظل الأغلبية المهيمنة التي يخطبها أو يتملقها أو يهددها أو يناشدها. صحيح أن لوك يسلط الضوء بإيجاز على الفاعلية الاجتماعية للدعاية، معترفًا بأن الفن لم يكن كافيًا دائمًا، وأن «الدعاية غذت على الأقل شكلًا من أشكال المناقشة الاجتماعية الجادة، وكانت المناقشة الاجتماعية ضرورية، ولا تزال ضرورية». ومع ذلك فإنه يرفض النزعة الحزبية للدعاية مجادلًا بأنها غالبًا ما تكون «أحادية الجانب وغالبًا ما تصدر أحكامًا مسبقة»، ولهذا يجب على الكتاب والفنانين الأميركيين الأفارقة أن يسعوا جاهدين لتنمية «فن الشعب» لا «فن الزُّمر».
المؤلف بوصفه منتجًا
إن فكرة بنيامين عن المؤلف بوصفه مُنتجًا عند مقارنتها بالأفكار التي أثيرت في مناظرة لوك ودوبويز توفّر نموذجًا جدليًّا يجيب عن السؤال المطروح بالجمع بين الجمالي والسياسي. لا ينبغي أن تكون مهمة الكاتب جمالية بحتة ولا سياسية حصريًّا، بل مزيجًا من الأمرين. لكن قبل الخوض في مناقشة تفصيلية حول كيفية جمع بنيامين بين لوك ودوبويز، دعونا نتناول حجّة بنيامين. يتخذ بنيامين خطوتين لتطوير فكرته حول المؤلف بوصفه منتجًا. ولعل الجانب الأهم في مقاله يكمن في اعتماده على موقع المؤلف في سياسة التأليف. وأعني بهذا الطريقة التي ينقل بها بنيامين مكانة المؤلف من مجموعة علاقات الإنتاج. فيما قبل كان المؤلف دائمًا مؤطرًا فيما يتعلق بالعمل. بمعنى آخر، يُحدَّد التزام المؤلف بقضية سياسية من خلال كيفية تعبيره عنها في عمله. ينطوي هذا الموقف على مفارقة في سياسة التأليف. وبينما يُنظر إلى المؤلف على أنه مثقف يُتوقع منه أن يغير علاقات الإنتاج من خلال الولاء للطبقة العاملة، فإن موقفه يشير إلى موقف منفصل إلى حد ما.
أما الخطوة التي يدعو إليها بنيامين فتتصور موقعًا مختلفًا للمؤلف، وتضعه ضمن علاقات الإنتاج لا خارجها. يضع بنيامين المؤلف التقدمي في مواجهة نظيره البرجوازي المحافظ. وإذ يضطر التقدمي إلى اتخاذ قرار بشأن المكان الذي يرغب في ممارسة نشاطه فيه، يفترض بنيامين أن «قراره متخَذ على أساس الصراع الطبقي»؛ فهو يضع نفسه إلى جانب الطبقة العاملة، وفي هذا نهاية استقلاله بحسب تعبير بنيامين. ولكننا في وقت لاحق نتوصل إلى استنتاج مفاده أن كون المؤلف إلى جانب البروليتاريا ليس بالكفاءة نفسها وهو داخلها. يقول بنيامين: «إن مكانة المثقف في الصراع الطبقي لا يمكن تحديدها، أو بالأحرى اختيارها، إلا على أساس موقعه داخل عملية الإنتاج».
العمل الأدبي أو الفني جزء لا يتجزأ من سياق العلاقات الاجتماعية التي تحددها إلى حد كبير علاقات الإنتاج، ومن هنا تبرز الحاجة إلى معالجة جدلية للمسألة تتخلص من التصور النمطي الذي لا يرى العمل إلا وجهًا لوجه مع العلاقات الاجتماعية والإنتاجية في عصره. وبدلًا من ذلك، ينبغي دراسة العمل الأدبي ضمن تلك العلاقات. إن تقدم قضية البروليتاريا في الصراع الطبقي يتم من خلال التحرير الحقيقي لوسائل الإنتاج الذي يتطلب تغيير جهاز الإنتاج في المقام الأول بدلًا من توفيره. يستلزم الموقف الجديد الذي تصوره بنيامين إعادة تعريف مهمة لدور المؤلف والتفكير في موقعه داخل عملية الإنتاج؛ حتى يتمكن من خوض النضال بكل ما يصاحبه من آلام.
تذويب الحدود
الخطوة الثانية التي يتخذها بنيامين لتوضيح مفهومه للمؤلف بوصفه منتجًا هي أنه ينفي التمييز بين الأنواع الأدبية من ناحية، وبين المؤلف والجمهور من ناحية أخرى. يؤكد بنيامين أن الأنواع الأدبية لها دورات حياتها، فهي تظهر وتزدهر وتموت؛ لذلك لا ينبغي لنا أن نتمسك بمفاهيم جامدة فيما يتعلق بالأنواع والأشكال الأدبية، كما لا ينبغي التعامل مع النوع والأشكال تعاملًا وجوديًّا، بل علينا أن نعيد التفكير باستمرار في المفاهيم المتعلقة بها «إمّا أردنا العثور على أشكال مناسبة للطاقة الأدبية في عصرنا». وهذا يتطلب عملية يسميها بنيامين ذوبان الأشكال الأدبية، وهي عملية مرتبطة بقوة باللحظة التاريخية وبعملية الذوبان التي تطمس الحدود بين المؤلف والقارئ؛ إذ يجب أن يهدف عمل الكاتب إلى تحويل القراء إلى متعاونين نشطين في عملية الإنتاج. ويمثّل مسرح بريشت الملحمي نموذجًا مضيئًا لهذه العملية بفضل اعتماده تقنيات جذابة، مثل المونتاج وما إلى ذلك. على عكس المآسي والأوبرا، يستخدم المسرح الملحمي العنصر الأكثر جوهرية وغير القابل للاختزال- المسرح: المنصة أو الخشبة. بعد ذلك يجري استخدام هذا العنصر لإشراك الجمهور في عملية التفكير النقدي في العمل الذي يشاهدونه وفي مجتمعهم الاجتماعي والسياسي.
وكما يقول بنيامين: «بينما يكتسب الأدب في اتساع ما يخسره في العمق، فإن التمييز بين المؤلف والجمهور، الذي تحافظ عليه الصحافة البرجوازية بوسائل مصطنعة، يبدأ في الاختفاء». وبما أن الالتزام ليس كافيًا فلا بد من وجود «موقف المعلم»، الذي يُعلِّم الكاتب بموجبه كتّاب آخرين ويخبر تضامنه معهم لأول مرة بوصفهم منتجين آخرين. ولعل هذا ما يفسر استخدام الصحيفة شكلًا أدبيًّا لصالح حجة بنيامين. فالصحيفة بالنسبة لبنيامين «ساحة الارتباك الأدبي»؛ لأن محتواها يستعصي على أي شكل من أشكال التنظيم غير ذاك الذي يفرضه عليه نفادُ صبر القارئ. علاوة على ذلك فإن الصحيفة هي الموقع الأكثر إستراتيجية للكاتب، ولكن بما أنها لا تزال مملوكة لرأس المال فإنها موقعٌ «في أيدي العدو» بحسب تعبيره. وعلى هذا الأساس فإن الكاتب الناشط يحارب ويتدخل بشكل فعال في مشهد الإنتاج الثقافي، على عكس الكاتب الإعلامي الذي يكتفي بنقل التقارير ويتولى دور المتفرّج.
في الختام، أؤكد أن ما ينقص في جدال لوك ودوبويز يمكن العثور عليه عند بنيامين. فعلى سبيل المثال يعبّر بنيامين منذ البداية عن إحباطه إزاء استقطاب الاتجاه أو الالتزام السياسي من ناحية ونوعية عمل الكاتب من ناحية أخرى، وهو الاستقطاب الذي يمكن أن نجد أصداءه في مناظرة لوك ودوبويز. بدلًا من الإطار غير القابل للتوفيق يقترح بنيامين أن عمل الكاتب يجب أن يُظهر الاتجاه الصحيح وأن يطمح في الوقت نفسه إلى تحقيق جودة عالية. علاوة على ذلك لا يرى بنيامين إمكانية الجمع بين الاتجاه السياسي الصحيح والقيمة الجمالية فحسب، بل يزعم أيضًا أن «ميل العمل الأدبي لا يمكن أن يكون صحيحًا سياسيًّا إلا إذا كان صحيحًا أيضًا بالمعنى الأدبي». وهذا الارتباط مهم جدًّا؛ لأنه يعيد النظر في علاقة المؤلف بالسياق الذي يعمل فيه، ما يجعل الصواب السياسي للعمل الأدبي مشروطًا بطابعه الفني التقدمي. إن هذا المفهوم يخدم غرض توجيه وظيفة الإنتاج الأدبي والثقافي نحو التقدم في الطبيعتين الفنية والسياسية من دون الحاجة إلى التضحية بأي منهما.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق