كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الحياة الأدبية للأشياء
يجيز مثل هذا العنوان الانطلاق من السؤال التالي: كيف تكف الأشياءُ عن أن تكون مجرد موجودات؟ ونستقي الإجابة عنه من ميريام مراش-قورو، الكاتبة وأستاذة الأدب الفرنسي (عصر النهضة) بجامعة بَواتْياي، والمشرفة في المجلد الثالث والثلاثين (2021م) لمجلة «أعمال الأدب» على موضوع بعنوان «شاعرية الشيء»، مخصص لتفحص كيفية وصف الأشياء والأدوات بأنواعها وذكرها واستثمارها في النصوص الأدبية، منذ القرون الوسطى إلى الحقبة المعاصرة، ويضم أربعًا وعشرين مساهمة على امتداد 368 صفحة. تخبرنا ميريام في مقدمة هذا العمل الجماعي أن «الموجودات» لا تصبح «أشياء» إلا عندما «تدخل في علاقة مع شخص يعترف بفائدتها ويمنحها وجودًا وأهمية […] ومعنى» (ص 8). وفيما لا توجد الموجودات إلا لذاتها، فإن الأشياء توجد دومًا بالنسبة إلى شخص: «حينها، يمتلك الشيء معنى خارجًا عنه، في حين يقتصر معنى الموجود(ات) على ما هو/هي فيه» (ص 9).
وفي الحقيقة تحتل ميريام، بإشرافها على موضوع «شاعرية الشيء»، موقعًا وسطًا بين المشتغلين عليه، بإصدار أعمال مهمة عن وظيفة «الأشياء» في الأدب، مثل لوك فراس وآريك واسلار: «الأشياء المستبطنة في الأدب الأوربي» (2018م)، أو عن المعاني الرمزية للأشياء القديمة، بجعلها مرئية نابضة في النصوص الأدبية، مثل فرانسسكو أورلندو: «الأشياء القديمة في الخيال الأدبي» (2013م)؛ وبين المحتفين بتصورها (ميريام) لمحتوى المجلد، ومنهم إِيوليان توما في مقاله: «الحياة الأدبية للأشياء» (في العدد الثالث من المجلد 24 لمجلة فابولا، 2023م).
«الأشياء» من وجهة نظر الكُتاب والنقاد مبثوثة في النصوص الأدبية، غير أن تمثيلها لا يستنفذ حضورها الملغِز؛ فتهب الكتابة الواصفة لإخراج «الشيء» بوسائل شتى، مثل استعراض تاريخه وامتداحه (نذكر على سبيل المثال مقتنيات التاجر الوصولي في المقامة المضيرية لبديع الزمان الهمذاني). وتتنوع حيل النص لتمثيل واقع مادي يتفلت من محاولة الإحاطة به (مِن حيثُ إنّ الأدب ليس نقلًا فوتوغرافيًّا للواقع)؛ ومن ثم أضحى هم الأدباء والنقاد فهمَ كيفية تصوير النص الحضورَ المحيرَ للأشياء، النادرة أو المعتادة، الثمينة أو التافهة، إن بوصفها أو بالحكاية عنها.
ولإلقاء الضوء على المؤلف الموسوم بـ«شاعرية الشيء»، يمكن التوقف عند ثلاث مسائل:
نظام الكتاب
كان لا بد من حدوث حركة مزدوجة تتيح للدراسات الأدبية تمثيل الأشياء وجعلها أحد اهتماماتها الدائمة. فمن ناحية، لم يكف الأدب نفسه، منذ ريفيردي، وسيندرارز، وبريفرت، وبونج، وروب قريياي، وبيريك، عن المطالبة بمكانة جديدة للمصنوعات التي تملأ حياتنا اليومية. ومن ناحية أخرى، فإن تطور وصف الظواهر والتحليل النفسي، وكذلك اهتمام العلوم الاجتماعية المتنامي بالثقافة المادية، قد ولد جميعها إطارًا تصوريًّا وأدوات تحليلية غذت لاحقًا قراءة النصوص الأدبية. وهكذا، نشأ وعي، ليس فقط بالوظيفة (السردية والرمزية والنفسية والمرجعية) التي يمكن أن تؤديها الأشياء في العمل الفني، ولكن أيضًا بضرورة دراسة وجودها كعلامة على علاقة معينة بالواقع، وبتدبر معين للأشكال المادية الناتجة عن النشاط البشري.
فمنذ عشرين عامًا تقريبًا، انتشرت الأعمال المخصصة للحياة الأدبية للأشياء؛ وضمن هذا التوجه المتنامي، سعت ميريام مراش إلى تبين الأساليب التي تُصَوَّرُ من خلالها الأشياءُ والأدواتُ بجميع أنواعها واستحضارها واستغلالها في النصوص الأدبية. لقد وسعت في «مقدمتها» مفهوم الأدب، فلم تقصره على الأعمال ذات البُعد الجمالي، بل عَدَّتْ جودةَ «كل أثر (أدبي) تُستمد من اشتغاله كتوليفة تضم تقليدًا كتابيًّا، وتنقل معرفة عن العالَم في شكل تمثيل» (ص 11). وهكذا يتبين أن هذا التعريف لكلمة «أدب» أقرب إلى ما كان معروفًا في القرنين السادس عشر والسابع عشر منه إلى المعنى الحديث للمصطلح.
هذا الاختيار الإستراتيجي يفسر وجود ثلاثة نصوص في هذا العمل الجماعي لا تُعَدّ أدبية (بالمعنى الضيق للكلمة)، بل هي أعمال ذات طبيعة علمية أو مفاهيمية، نذكر منها «الأدوات الجراحية» في أطروحات أمبرواز باري لفيولين جياكوموتو– شارا؛ لذلك لن نصادف كشفًا لشعريةٍ ما، أي خطابًا حريصًا على استقلاليته، بقدر ما نجد تحليلًا للآليات التي تسمح للأثر بوضع نفسه في خدمة المرجعية أو الفكرة. ذاك هو المعيار الزمني الذي ارتضته ميريام مراش غورو لتنظيم هذه المجموعة من المقالات؛ من «بيراموس وثيسبي» (رواية مجهولة من القرن الثاني عشر) إلى أحدث أعمال إيمانويل هوكارد أو جان- فيليب توسان، مرورًا بالرواية الهزلية «سكارون» Scarron، و«أفكار» باسكال وأعمال فلوبير، وبريتون، وجيرودو، وبيكيت، وساروت. الإبداعات التي حُلِّلَتْ هي بأعداد كبيرة. وغالبًا ما يتناول المقال نفسه التعامل النصي مع «الشيء» من قبل العديد من المؤلفين، أو في نصوص عدة للكاتب نفسه؛ ويقف اتساع هذه المدونة وراء ثراء هذا المجلد وفائدته. لقد يسر التقابل والتقريب بين النصوص والمؤلفين والعصور فهْم الممارسات الأدبية، وهو ما جعل الأشياء «موصوفة، مقروءة، مثيرة للذكريات» (ص 11).
وفي رأينا، إن هذا الفهم لوظيفة الأشياء في النصوص لا يخرج عما تثبته آني آرنو في قولها: «ليست وظيفة الكتابة طمس جرح أو علاجه، وإنما إعطاؤه معنى وقيمة، وجعله لا يُنسى». ويبقى الإيغال في وصف الأشياء إلى حد تغليفها/ طمرها بالكلمات وسيلة لتعريتها وترسيخها في ذهن المتلقي، ولا تخلو العملية من مفارقة.
في الفرق بين الأشياء والموجودات
ذكرنا آنفًا أن «الموجودات» لا تصبح «أشياء» إلا عندما تدخل في علاقة مع شخص يعترف بفائدتها ويمنحها وجودًا وأهمية ومعنى. ونتيجة للتدخل البشري، يتحدد «الشيء» بمعناه أو بوظيفته (يصلح لـ…)؛ وخارج ذلك، يزداد مراوغة. يقول بيل براون، وهو مؤلف مقال مشهور (2001م) بعنوان «نظرية الشيء»: «نبدأ في مواجهة شيئية الأشياء عندما تتوقف عن العمل، أي عندما ينكسر المثقاب، عندما تتعطل السيارة». من هذا المنظور، يصبح الشيء خارجًا عن دائرة التعامل بمجرد أن تتغلب ماديته على وظيفته. لكن، من المؤكد أنه من «الإجحاف» أن نرى الأشياء أدواتٍ أو وسائلَ فقط؛ لتذكرنا ميريام مراش غورو بأنه من خلالها (الأشياء) يُعَبَّرُ عن «علاقة ما مع العالَم» (ص 8)، عن تفكير (فلسفي، أيديولوجي). هذه الفكرة هي في صميم التأملات التي أجراها مفكرون مثل بارت حول «الشيء» (في «سيميولوجيا الشيء»، ضمن محاضرة عام 1964م، وقد أعيد تناولها في «المغامرة السيميولوجية (1985م)، ومع بودريار (في «نظام الأشياء» (1968م)، أو حتى مع ف. داغونيه (في «امتداح الشيء» (1989م). وحديثًا، يندرج كتاب مارتا كارايون «كيف يتدبر الأدب الأشياء؟» ضمن التطور متعدد التخصصات للدراسات حول الثقافة المادية. ويبرز كتاب «النظرية الأدبية للثقافة المادية» (2020م)، من خلال مراجعة عدد من الأعمال الروائية، العلاقةَ التي حافظ عليها القرن التاسع عشر مع مصنوعاته وأدواته وآلاته.
توفر «الأشياء»، باشتمالها على دلالة تتعدى جوهرها المادي والغرض منها، إجابات لمن يسألها عن الثقافة التي هي جزء منها. إنها، من خلال انتقائها وتنضيدها وعددها، نية تتجلى و«رسالة» ورؤية للعالم.
ومع ذلك، لا بد من توضيح أن هذا التعريف السوسيولوجي لِـ «الشيء» لا ينطبق على مجمل الحقائق المذكورة في الدراسات المجمعة في المجلد. ويتميز بعضها، وبخاصةٍ ما تناول تمثيل الحيوانات وجسم الإنسان والنيازك، بديناميكيته الطاردة بالنسبة إلى التمشي المهيمن، من دون أن يبدو حضورها غير متناغم.
«الشيء» في النص
من أسئلة ميريام مراش: كيف يتوصل كاتب إلى «الاضطلاع بذاك الوصف الفائق لحضور الموجودات التي لا توصف؟» (ص 10)، وإلى «جعله صائدًا؟» (ص 12). بعبارة أخرى، كيف تندرج الأشياء في ثنايا النص؟ وبأي شعريات تساهم؟ إن الإجابات التي صِيغَتْ ضمن المجلد، مدعومة بقائمة مطنبة جدًّا من الطرائق، تكشف عن الغنى المذهل للأشكال التي يمكن أن يتخذها الإخراج الأدبي للشيء. وفي الواقع، جاء مجال الكمون والإمكانات واسعًا بشكل خاص: أشياء ذات وظيفة مجازية أو رمزية أو استعارية أو سردية، أشياء واصفة أو محاكية أو جمالية، أشياء هزلية أو أسطورية أو على هيئة تعويذات، أشياء تتكاثر وتتجاوب، أشياء غائبة، وأشياء فلسفية، وأشياء ذات قيمة تذكرية.
حتى إن بدت صيغ اندراج «الشيء» في النص لا تنضب، فإن جميعها يدور حول واحد من الثوابت الأربعة، التالية: الأثر نفسه (بنيته، حبكته، شخصياته، خُدَعه)؛ العالَم المرجعي (نمط تمثيل «الشيء» موضوع الدرس)؛ المؤلف (توجهاته، «فلسفته»)؛ القارئ (وهو في وضعية المسرود له، مناداته، نيات المؤلف تجاهه). ولم يغب أي من هذه المحاور الأساسية الأربعة في التحليلات المجمعة داخل المجلد. وإلى جانب الكثافة العالية للمدونة المكتشَفة، فإن هذا المسح الشامل للمستويات التي يرتكز عليها التمثيل الأدبي للأشياء يضع هذا المجلد في فئة الأبحاث غير المستغنى عنها، المنجَزة في هذا المجال.
وعندما تتحدد وظيفة «الشيء» الممثل بالنسبة إلى غرض داخلي، فيمكنها أن تكون -سردية أو درامية (بالمعنى الأصلي لـ«سير الأحداث»)- لنا مثال الحجاب الأبيض الملطخ بالدم، وقد أدى إلى انتحار «بيرام» في الرواية مجهولة الكاتب (من القرون الوسطى): «بيرام وثيسبي» التي حللتها أوريلي بار؛ وكذلك مثال الحذاء الذي يكشف لإلكترا في مسرحية جيرودو الحاملة الاسم نفسَه عن اغتيال أجاممنون، كما أوضحته فرانسواز بومبارد؛ أو أيضًا، وبعبارة كلير أوليفييه، «الجهاز السردي». (ص 279)، وهو وسيلة التخزين، في رواية «مفتاح» لجان فيليب توسان.
– نفسية: تشير «القبعة المضحكة» التي يضعها شارل (ص 179) في «مدام بوفاري» ضمنيًّا، كما يوضح جيامبيرو مارزي، إلى فكرها المحافظ؛ في حين تتماشى الكراسي المخملية للفتاة آنياس في «لابولون دي بيلاك» لجيرودو مع ترفقها (ص 245).
– رمزية: يكشف مستوى ثانٍ من القراءة النقابَ عن حجاب ثيسبي المخضب بالدم، بوصفه تمثيلًا لـ«فض بكارة عنيف» (ص 16).
– لَعبية أو جمالية: في ملحق «رحلة كوك» لجيرودو على سبيل المثال، «تدمر السخرية القيمة النفعية» (249) للمجرفة، بينما في «الخروج من المصنع» لفرانسوا بون، تتحول شاحنة البليت، وفقًا لتريفور دونوفان، مرة بعد مرة، من «شيء تقني إلى شيء جمالي» (ص 274).
عندما تكون قدرة الأدب على إعادة إنتاج الواقع من خلال «الشيء» محل إشكال، يطفو على السطح موقفان؛ يتمثل الأول في مطالبة «الشيء» بالمحافظة على «الإيهام المرجعي»، بعبارة ريفاتير. ويتجلى ذلك مثلًا، وفي قفزة كبيرة إلى الأدب المعاصر، من الرواية الأولى لفرانسوا بون، وهو مؤلف تشهد كتاباته على عودة نوع من الواقعية، مع الوعي بقسطها الخيالي، ما «يقربنا» (ص 273) من واقع الحياة في المصنع، بآلاته وأدواته؛ وبشكل مماثل، يندرج شعر إيمانويل هوكوارد، كما تذكر ماري كوندرات، ضمن نزعة حريصة على الموضوعية، تعمل على «تقليص الفجوة بين الشيء وتمثيله» (ص 333). وعلى النقيض من هذا، فإن الموقف الثاني يتمثل في إزالة قناع العبور عن «الشيء».
وهكذا ندرك أنه في مسرح جيرودو «لا يمكن اعتبار الأشياء المنتمية إلى حياة الشخوص تنازلًا عن الواقعية: إنها تعرفنا عليهم بطريقة غير مباشرة» (ص 247). وبالمثل، فإن «مفتاح» في رواية توسان، على الرغم من الدور المركزي الذي يبدو أن العنوان يحتفظ به له، لا يظهر إلا بعد نحو خمسين صفحة من الكتاب؛ وندرك عندما نقرأ أن وزنه داخل الحبكة مثير للسخرية عامة؛ فـ«ديتريز [الراوي] يستغل تفاهته (المفتاح) لخلق قصة خيالية» (ص 288)، وهي إستراتيجية تسمح لتوسان بحماية نفسه من الوهم/ الإيهام الواقعي.
في بعض الدراسات، يُركز على إدارة تمثيل الأشياء الموجه نحو الكاتب، من ذلك أن باسكال، في قراءة بيير ليرو، يدين غرور الأشياء، مثل «العود»، الآلة الموسيقية «التي لا تستحق الإدانة في حد ذاتها»، غير أنها، أخلاقيًّا، تحرض الإنسان على الانغماس في اللهو، مما قد «يبعده عن غايته» (ص117). ونختم بالقارئ، فعندما يُوَجَّهُ تصويرُ «الشيء» إلى ملكاته الإدراكية قبل كل شيء، فإنه يصبح كما في «خروج من المصنع»، هذا المسرود له «الموجه» عبر قصة المصنع بواسطة راوٍ- عامل متمرس (ص 271)، أو هذا الراصد الذي يدعو إليه شعر هوكارد، والذي يُقترح عليه ميثاق العبور الكامل.
على هذا النحو، يُعَدُّ المجلدُ الذي نسقته ميريام مراش غورو علامةً تدعو إلى تمثل جدول الأشكال التي يتهيأ للتعبير الأدبي عن العناصر المكونة للثقافة المادية أن يؤديها، وذلك من خلال العينات الكثيرة التي جرى تحليلها؛ وتتمثل ميزته الرئيسية في جعلنا نستشف الإمكانات الهائلة، ولكن أيضًا حدودَ قراءةٍ تعكف على تعامل الآثار الأدبية مع المصنوعات والأدوات والأجهزة التي تعمُر محيطنا.
المنشورات ذات الصلة
«غرافيتي» على جدران الفناء
لكل فعل رد فعل، ولكل نظرية إثبات، نظرية نفي، ولكل ثقافة هنالك ثقافة مضادة. هذا يعني أن لكل شيء هنالك «اللاشيء» الذي...
كيف شَكَّلَ الحرير والنسيج تاريخ البشرية؟
يقول بعضٌ: إن التاريخ بدأ بالكتابة، غير أننا نقول: إن التاريخ بدأ باللباس. في البداية، كانت هناك ملابس مصنوعة من...
قراءة عمودية في فكرة الحب عبر ثقافات مختلفة
إن أي قراءة في المشتركات الإنسانية الكبرى ستكون عرضة في دراستها إلى مستويات عدة من الأحكام، التي ستكون النسبية فيها...
0 تعليق