لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير والاستنارة، فئة موجودة في كل المجتمعات والثقافات، ومتجذرة في تاريخ الشعوب والحضارات منذ القدم، وهي مطلب قائم ودائم ومتجدد، وصناعة ضرورية لكل مجتمع ولكل...
المقالات الأخيرة
القيمة العلمية للإحالة التوثيقية في نتاج عبدالله الغذامي
من المعلوم أن الكتب العلمية (نقدية وغير نقدية) تعتمد على التوثيق في تقديم المعلومة، وذلك من خلال إحالتها إلى مصادرها ومراجعها الأصلية، وهذه الطريقة تُسمى: (التوثيق الأكاديمي، أو الإحالة التوثيقية أو الإحالة المرجعية). فالإحالة نظام علمي متبع يقوم على تقديم المعلومة بين يدي القارئ، ثم توثيق هذه المعلومة من خلال إحالة هذا القارئ إلى المصدر أو المرجع الذي أُخذت منه (مع ذكر بيانات مصدر المعلومة: اسم المؤلف وعنوان كتابه ورقم الصفحة، ثم دار النشر وسنة الطبعة ورقمها)، بقصد إثبات صحة المعلومة وطمْأنة نفسية المطلع عليها، أي هي دليل على صدقية المعلومة، كما يمكن أن تكون هاديًا لِمَن يريد أن يتزود في البحث ويتعمق فيه أكثر بالرجوع إلى تلك المراجع والاطلاع عليها.
وهذه طريقة منهجية حديثة، صارت قانونًا علميًّا لا يمكن الاستغناء عنه في الكتب التي تُعنى بالبحث والتأريخ والنقد. وأصبحت مقياسًا على الجودة العلمية للكتب، حتى باتت أحيانًا زينة واستعراضًا فائضًا عن الحاجة يوظفها بعض الكتاب والمؤلفين والباحثين. وللتوثيق نظام شكلي ومنهجي متشعب، ويقوم على معايير علمية دقيقة، وعلى نِسَبٍ معرفية محددة بحيث تصير فيه الزيادةُ أختَ النقصان من ناحية الإخلال بنظامه المنهجي. والتوثيق وما يترتب عليه من نظام الإحالة موجود عند الغذامي وعند غيره. لكن هناك ثلاثة أنواع من الإحالات المرجعية التي استجدت على نحو واضح في نتاج الدكتور عبدالله الغذامي في كتبه التي تُوصف بانتمائها إلى النقد الثقافي.
وهي ما يُمكن أن نسميها الإحالة الذاتية العضوية، ثم الإحالة الذاتية العلموية المرفوعة. وأخيرًا الإحالة الوهمية. هذا إضافة إلى الإحالة المرجعية المعهودة التي يحيل فيها الغذامي قارئَه إلى مصادره ومراجع معلوماته.
معضلة الإحالة الغذامية
نحن هنا لن نتطرق إلى الإحالة المرجعية المعهودة؛ فهي كما أسلفنا، موجودة عنده وعند غيره، ويطرأ عليها من العوارض والصفات ما يطرأ على إحالات غيره. لكنها بالعموم يلحظ فيها أن الغذامي يتجنب، في إحالاته وهوامشه، الأعراف الأكاديمية، من ناحية التقيد المنهجي وَوَحدة الأسلوب. كما أنه أحيانًا لا يتحرى دقة الإحالة على نحو قاطع؛ فقد نجد عنده إحالة إلى غير موضع الصفحة من الكتاب المحال إليه. وقد نجد بعض الفروق بين بعض إحالاته نفسه من ناحية دقة العبارة أيضًا (ينظر: الفقيه الفضائي. ص69. إذ وضع بين مزدوجين: «من شأن الإنسان أنه لا يعلم ثم يعلم». ثم عاد واقتبس القول ذاته بين مزدوجين، على هذا النحو من الصيغة (ص81): «من شأن ابن آدم أنه لا يعلم ثم يعلم». وفي كلتا الحالين كانت الإحالة إلى كتاب الشاطبي، إلى الصفحة ذاتها [الشاطبي4/97]. لكن تبقى المعضلات والإشكالات المنهجية في الأنواع الأخرى من إحالاته التي ظهرت مع تحوله من النقد الأدبي إلى النقد الثقافي هي الأهم والأخطر.
بين الإحالة الذاتية العضوية والإحالة العلموية (المرفوعة)
أن يحيل المؤلف أو الناقد إلى كتبه الأخرى فهذا لا يُعد إشكالًا في ذاته ولا يقلل من القيمة العلمية لنتاجه. بل على العكس؛ فهي ظاهرة توثيقية تبين مدى التكامل بين نتاج المرء، وتعطي صورة عن تواشج نصوصه وتفاعلها، وهو الأمر الذي يبعث على الشعور بأن ثمة وحدة عضوية متحققة في مجموع نتاج هذا المؤلف أو ذاك الناقد. والغذامي كثيرًا ما يحيل القارئ إلى كتبه الأخرى للاطلاع على ما يتقاطع مع الفكرة التي يطرحها في الكتاب المقدم بين يدي هذا القارئ.
لكن من أهم الإشكالات المنهجية عند الغذامي، في إحالاته الذاتية، تلك التي إن جاز لنا أن نسميها (الإحالة العلموية المرفوعة) التي يحيل فيها إلى كتبه نفسه؛ ليطلعنا على بعض الجوانب والرؤى للنقد الغربي المعاصر على وجه التحديد، مثل: بعض رؤى رولان بارت، ونظرية الاتصال، والأسلوبية، والبنيوية، والسيميائية، وغيرها. وثمة أمثلة كثيرة، مبثوثة في كتبه، من هذه الإحالات، وقد أشار الدكتور عبدالنبي اصطيف إلى أن في هذا الإجراء ملمحين: الأول أنه إجراء غير سليم أكاديميًّا ومنهجيًّا، والثاني أن في هذه الإحالات المتكررة، إلى مراجع أدبية، ما يناقض دعوى الغذامي إلى موت النقد الأدبي، وبخاصة أن إحالاته تلك تأتي ضمن مشروعه في النقد الثقافي (ينظر: نقد ثقافي أم نقد أدبي. ص188).
ويبدو أن اصطيف هو الوحيد الذي أشار إلى هذا العيب المنهجي غير السليم أكاديميًّا. وهو إن لم يبيّن أين الخطأ في ذلك، فلأنه من بدهيات النقد والتأليف الأكاديميين؛ إذ لا يجوز في الأعراف الأكاديمية العلمية أن يحيل الناقد إلى مراجع ثانوية حين يكون المصدر متوافرًا؛ فكان عليه أن يحيل إلى كتب أصحاب الرؤى والنظريات أنفسهم، وليس إلى كتبه.
وأكبر الظن أن الغذامي يريد من وراء هذا القصد أن يجعل من كتبه (خاصة كتابي: الخطيئة والتكفير، والنقد الثقافي) مرجعية علمية في هذا المجال؛ أي ثمة نوع من القرصنة المنهجية والمصادرة المعرفية التي يسعى صاحب النقد الثقافي إلى تحقيقها، حتى بعد أن هجر النقد الأدبي ودعانا إلى هجرانه والتسليم بموته، وطلب إلينا أن نيمم شطر نقده الثقافي؛ إذ يريد أن يصير مرجعية ليس في حقل النقد الثقافي فحسب، بل في مجال النقد الأدبي أيضًا، وهذا سلوك منهجي أناني غير سليم (لا أكاديميًّا ولا على المستوى النفسي). ولأن الغذامي كثيرًا ما يحتفي بالفقه ومنهج علماء الأصول، فلذلك سمينا هذا النوع من الإحالة العلموية (غير العلمية) بالإحالة الذاتية المرفوعة؛ لأنها تتطابق مع سلوك بعض الرواة حين يروون حديثًا فيغفلون من سنده مصدرَ الروايةِ المتمثلَ بالصحابي، ويقفزون من فوقه ليصلوا مباشرة التابعي بالرسول، كما وصل الغذامي صلته التابعية برُسُله البنيويين. فالعيب ليس في الرجوع إليهم إنما العيب في القفز وتجاهل المصدر.
الإحالة الوهمية
ومن الإحالات الغريبة المثيرة التساؤل، هي إحالته في بعض كتبه إلى كتاب «كل ما يعرفه الرجال عن النساء» (Everything men know about women) تأليف آلان بيس، وهو كتاب مغلف بورق أبيض شفاف جميل. هكذا أورده الغذامي، وأطنب في الحديث عنه؛ فذكر أنه في أستراليا صدر هذا الكتاب، وصاحب الكتاب له شهرة عالمية، كما يذكر الغذامي، والكتاب يحمل تصنيفًا عالميًّا، ومسجل في عدد من المكتبات العلمية والمؤسسات الجامعية، وعليه اسم المؤلف، وحقوقه العلمية والمالية مرصودة عالميًّا. ويضيف: لكنك بعد أن تشتري الكتاب ستكتشف أنه كله ورقات بيضاء لا شيء مكتوبًا فيها (ينظر: اليد واللسان، ص70- 71. كذلك: الجهنية، ص173. أيضًا: الثقافة التلفزيونية، ص130. كذلك مقال له في: جريدة الرياض. تاريخ 18/3/2010م).
ولقد ذكرت جريدة (الوطن) الكويتية، (تاريخ 31/12/2016م). أن الكتاب طبع طبعات متعددة (20 طبعة). لكن الغرابة أن الغذامي قال: إنه لآلان بيس أو بيز (Allan Pease)، وهو كاتب أسترالي ولد سنة (1952م). والكتاب على الشبكة العنكبوتية (موقع ويكيبيديا، وأمازون حيث يمكن تحميله من هذا الموقع) تظهر صورة الغلاف باللغة الإنجليزية يحمل اسم المؤلف (ألن فرانسيس/Allen Francis) وهو طبيب نفسي أميركي، ولد سنة (1943م)، وذو مكانة أكاديمية وشهرة عالمية تفوق مكانة الكاتب الأسترالي وشهرته. وقد نسبت جريدة (الوطن) الكويتية في مقالها السابق الذكر الكتابَ إلى (فرانسيس)! ولا يمكن أن يكون في الأمر شبهة مصادفة في العنوان؛ لأن الكتاب كما ذكر الغذامي مسجل دوليًّا؛ وعليه، فسيكون هذا الأمر تطابقًا في العنوان والمضمون؛ وهذه سرقة موصوفة لا تجوز في أعراف حقوق الملكية الفكرية، وبخاصة أن الكاتب الأسترالي مشهور وموثوق، وحاليًّا تصدر له كتب تحقق مبيعات عالية بالمشاركة مع زوجته، فمن المحال أن يصدر منه هذا الفعل!
فهل اطلع الغذامي على الكتاب، الذي قال: إنه أحد الذين اشتروه؟ وكيف يُصر الغذامي على اسم المؤلف، وهو الذي يُفترض أنه يجيد اللغة الإنجليزية، وقد حصل درجاته العلمية الأكاديمية بهذه اللغة، وفي جامعات تنطق بها؟! والأمر لا يمكن أن يعود إلى خطأ مطبعي، أو سهو من جانب الغذامي؛ لأنه ذكره غير مرة وفي أكثر من كتاب ومقال.
وتتنوع إحالات الغذامي، بين الكتب، والمجلات، والقنوات، ووسائل التواصل العامة. وكذلك تكثر في نتاجه، وبخاصة الثقافي، الإحالاتُ إلى المرويات الشفهية، وهذه الأخيرة يمكن أن تدرج تحت اسم الإحالة الوهمية؟ كأن يحيل إلى الهامش، ليقول، هناك: إنها حكاية متداولة وواقعية (ينظر: القبيلة والقبائلية، ص257، الإحالة [3]. كذلك ينظر على سبيل المثال: تأنيث القصيدة، ص126، الإحالة [14]. كذلك: الجهنية. وهذا الكتاب من دون هوامش، ومعظمه يعود إلى مرويات شفهية).
وفي هذا شبهة (تدليس)، كما يقول علماء الأصول، الذين يرجع إليهم الغذامي في منهجه. ومثل ذلك -أيضًا- قوله: «عن تعريفنا للنسق انظر: النقد الثقافي، الفصل الثاني» (القبيلة والقبائلية، ص68، الإحالة [52]). علمًا أن الغذامي، في كتابه المذكور (المحال إليه)، لم يعرفِ النسق، بل قال: إن النسق مفهوم ملتبس، ومُختلِف من ناقد إلى آخر، ومن عالم إلى غيره. ومن ذلك -أيضًا- أنه ذكر مقولة، قال إنها للجاحظ، وأحال إلى الهامش، غير أنه، في الهامش، ذكر أن هذه يحفظها عن الجاحظ، ولكنه عجز عن العثور عليها. ويقول: ولكنني على يقين من أنها للجاحظ، والتعبير له (ينظر: تأنيث القصيدة، ص144، الإحالة [8]). وقريب من هذا أنه قد يحيل إحالة (فائضة)، كقوله: «فإذا جاز المتكلم باللفظة من حال إلى حال فذلك هو المجاز» (تأنيث القصيدة، ص106، الإحالة [3])، ثم أحال إلى أكثر من مصدر ومرجع، على الرغم من أن عبارته هذه عن المجاز من الشائع البلاغي، الذي لا داعي لتوثيقه في الأعراف الأكاديمية، ويُلمز عليها باحث مبتدأ، فما بالنا بناقد بحجم الغذامي.
خاتمة
ونحن لا نسوق هذه الإحالات بقصد التشهير أو التقليل من قيمة هذا الناقد، كذلك ليس بقصد التنويه بمكانته العلمية التي لا تخفى على أحد. والنقد العلمي الموضوعي لا يأبه بتحديد نوع القيمة وصنفها (إيجابية كانت أم سلبية) فتلك من شأن المتلقي، وليست من شأن النقد الذي يهتم بالقيمة العلمية فقط وبأثرها في حركتي الثقافة والمجتمع، إيجابًا أو سلبًا. وعليه؛ فنحن هنا إنما نريد أن نبين أثر التحول في القيمة العلمية التي طرأت على الإحالات المرجعية للدكتور عبدالله الغذامي بعد تحوله من النقد الأدبي إلى النقد الثقافي.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق