المقالات الأخيرة

رسالة في الجوهري من وجودنا المباشر.. ضوء لإنارة مدينتنا العربية

رسالة في الجوهري من وجودنا المباشر.. ضوء لإنارة مدينتنا العربية

بعد نحو اثني عشر كتابًا بالعربية، وكتبٍ ودراسات أخرى بالفرنسية، تنتسب في مجملها إلى فضاءات البحث الأكاديمي، يحط المفكر فهمي جدعان رحاله على ضفة البحث الحر، مختارًا عنوان «رسالة» لكتابه الأخير (ونرجو ألا يكون أخيرًا) «معنى الأشياء» الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات...

الهوامش الفلسفية في التراث الشرعي

الهوامش الفلسفية في التراث الشرعي

إن الناظر في التراث الإسلامي يلحظ تسرب بعض المسائل والقضايا الفلسفية إلى العلوم الشرعية وتحديدًا أصول الفقه، وعلوم الحديث. وورود مباحث ومسائل في الأدبيات الشرعية، مما ليس داخلًا في حدود الفن الذي وردت فيه بمعناه الضيق، ليس غريبًا(1)، إلا أن ثمة خصوصيةً في طبيعة...

سيف الرحبي.. هذا الرأسمال الثقافي العربي الكبير

سيف الرحبي.. هذا الرأسمال الثقافي العربي الكبير

أُومِنُ بأن لا شيء يدوم، كل زمن له جيله، بما في ذلك الأزمان الثقافية والمؤسساتية، ومع ذلك، ولأنني أعتبر «نزوى» بيتي الثقافي فقد شعرت بنوع من الحزن الغريب، يتعالى على المنطق، وأنا أقرأ خبر مغادرة الصديق سيف الرحبي هذا النزل الأدبي والفكري العريق، شعور يشبه من يرى بيتًا...

صمتُ الجثة الغريبة بين الغرباء

صمتُ الجثة الغريبة بين الغرباء

(جملٌ يُطلُّ بعنقه الطويل، إلى مئذنةٍ على حافة الصحراء، بسَمْتٍ مهيبٍ كأنما يُصغي إلى النداء الربانيِّ الذي يمنحه العزاءَ والطمأنينةَ بعد رحلته الشاقة في بحر الرمال الغاضب). هذه إحدى اللوحات التي تركها لي كهديةٍ الفنان العراقي الراحل (حَمّادي) الذي صارَ يوقعُ لاحقًا...

السودان: نحو عقد اجتماعي جديد

السودان: نحو عقد اجتماعي جديد

إن التاريخ الاجتماعي السوداني لم يكتب بعد بالطريقة التي تسمح لأي باحث أن ينظر بأدواته نظرة موضوعية غير متحيزة. إن الذي نقع عليه في غالبه تحيزات وانصراف أكثر للمنهج الوصفي الذي من عيوبه أنه يركز على الإجابة على أسئلة «ماذا؟» بدلًا من، ما «سبب؟» موضوع البحث. فالغرض...

سردية الصحراء… حفاظ على الهوية أم بحث عن الغرائبي والمدهش؟

بواسطة | مايو 1, 2024 | تحقيقات

ظلت الصحراء العربية مرتكزًا رئيسًا في الثقافة العربية لسنوات بعيدة، ربما لأن المنطقة العربية تقع في واحدة من أكبر التجليات الصحراوية في العالم، حيث ما يعرف بالصحراء الكبرى، فلم ينجُ أي قطر من الأقطار العربية منها، إلا باستثناءات ضئيلة جعلتها أشبه بالواحات الصغيرة في محيط من الرمال التي لا تنتهي، مما أمدت أصحابها بعوالم امتزج فيها الغرائبي بالأسطوري والمقدس، حسبما دأبت كتابات المستشرقين على رصدها، وبإيقاع هادئ ومتكرر على نحو شعري غلف طبيعة الحياة فيها، لكن على الرغم من كل هذه الخصوصية للمنطقة والمكان فإن الثقافة العربية في مراحلها الأخيرة بدت متمردة وربما مناهضة لإرثها الصحراوي، فلم تكن الكتابات الجديدة بموازاة قوته واتساع وحضور الصحراء وعوالمها في الوجدان العربي، فما السبب في ذلك؟ وإلى أي درجة استطاعت ما يعرف بسردية الصحراء رصد ما حدث من تحولات في المجتمعات العربية، وهل تركت الصحراء أثرًا شعريًّا على من استلهموا عوالمها؟

مروية الصحراء في وعي الاستشراق

وحيد بن بوعزيز – أستاذ الأدب الحديث بجامعة الجزائر

أكدت الدراسات الاستعمارية وما بعدها على أن المخيال الاستشراقي عمومًا أنتج شرقًا مشوهًا وممسوخًا؛ إذ لم تكن الغاية من المقاربات الاستشراقية، وبخاصة في كنف الاستعمار، معرفة الشرق للتوافق معه أو للتعايش معه، بقدر ما كان الغرض من ذلك بغية التحكم فيه والسيطرة عليه.

أوجين دولاكروا

تشكل الصحراء جزءًا لا بأس به من الشرق في جغرافيته المترامية الأطراف، ولهذا كانت حاضرةً بقوة في أعمال كتاب كثيرين. لم تحضر الصحراء، كصورة وكموضوعة في الوقت نفسه، بشكل واحد بل على العكس من ذلك بتاتًا اتخذت أوجهًا عدةً حسب الرؤية التي انتابتها والوظيفة التي اكتسحتها والحافزات التي حركتها.

في بداية الأمر حضرت الصحراء في المخيال الفني عموما كصراع بالمناكب على المشاهد الطبيعية (البيتوريسكية)؛ عندما رسمت مدرسة أوجين دولاكروا الاستشراقية شمال إفريقيا مثلًا، بحث الجيل الثاني عن مشاهد طبيعية أصيلة (الأصالة هنا بالمعنى الرومانسي) فوجدوها في الصحراء؛ إذ بعد النصف الثاني من القرن التاسع عشر استطاع الجيش الفرنسي احتلال منافذ الصحراء الكبرى، فنزل مثلًا أوجين فرومونتين وإتيين دينيه ليرسما الصحراء كمشاهد غرائبية (إيكزوتيكية) جديدة وبديلة؛ لم يكن الاهتمام هنا بالصحراء في حد ذاتها، بل كانت الغاية تكمن في تحويلها إلى موضوع فني هو نوع من الإمبريالية الفنية التي تبحث عن التوسعية فقط.

حساسية تاريخية

شكلت الصحراء عمومًا حساسية تاريخية خاصة عند أصحاب الكتاب المقدس، لهذا اختار الكاتب التونسي من أصول يهودية ألبير ميمي أن تدور إحدى رواياته حول الصحراء، وأعطى لها عنوانًا دالًّا «الصحراء». عاد ميمي في روايته إلى التاريخ قبل الاستعماري (الدولة الحفصية)؛ لكي يستأنف النقاش الخلدوني حول العصبية والقبيلة والبربر، ولكي يعيد تفكيك مقولات الاستشراق حول نمط الإنتاج الاقتصادي (آسيوي أو شبه إقطاعي) والانقسامية وجدلية الدولة المركزية والتمرد القبلي. نلحظ أن حضور الصحراء هنا هو حضور سجالي لبس قبعة التاريخ؛ لكي يناقش تنميطات صنعتها المؤسسة الاستعمارية، وليس هذا غريبًا عن ميمي الذي كرس الجزء الكبير الأول من حياته في الذود عن الأهالي ورفض الأطروحة الاستعمارية.

ألبير ميمي

لم تكن الصحراء في المخيال الغربي أداة فقط لتأكيد الذات من الناحية الوجودية انطلاقًا من إنتاج لثنائيات فجة من قبيل غرب حضارة/ شرق بداوة (صحراء)، بل تحولت الصحراء في الفكر ما بعد الحداثي (ذي الأصول اليهودية دومًا) إلى نوع من الملاذ الوجودي؛ لهذا نجد ذلك الاهتمام الباذخ بالصحراء عند جاك دريدا، وليس غريبًا أن نجد دريدا، الذي يتغذى كثيرًا في فلسفته من الكتاب المقدس والتلمود والقبالاه، يعود كثيرًا إلى أفكار الكاتب الفرنسي اليهودي من أصول يهودية إدموند جابيس؛ لقد بنى جابيس، صاحب كتاب «لا نهائية الصحراء» رؤيته للعالم على فكرة الصحراء والترحالية والتيه الأبدي؛ إذ رأى  أن جوهر الإنسان لا يكمن في الاستقرار الذي تدعو إليه المدينة، ولكن في تعددية التجربة والاختلاف والتباين والتأجيل الذي تؤكده ترحالية الصحراء، والعجيب أن فيلسوفًا كبيرًا مثل جيل دولوز راح يبنى هو كذلك فلسفته حول الترحالية بعيدًا من مركزية العقل (اللوغوس).

كتب جورج لويس بورخيس قصة جميلة بعنوان «الخالد» تدور حول فكرة الأبدية، فالقائد الروماني الذي اختاره بورخيس بطلًا في قصته عرف الحكمة من الموت واللاخلود، فعلى الرغم من أن هذا القائد كان قد شرب من ماء الخلود في الصحراء، فإنه بعد قرون من العيش برتابة ضجر بسبب التكريرية المملة للحياة، فراح يبحث عن الترياق الذي يجعله يعود إلى بشريته الفانية.

خارج الأطر

جون ماري غوستاف لوكليزيو

خارج هذه الأطر التنميطية التي جعلت الصحراء دائمًا مطية فنية أو تاريخية أو وجودية أو واقعية سحرية كتب الروائي الفرنسي جون ماري غوستاف لوكليزيو روايته «صحراء» سنة 1981م، تدور أحداث الرواية حول الغربة التي يعيشها الطفلان لالا ونور، لم يرد لوكليزيو أن تكون روايته استغلالًا للصحراء مثلما حدث في السجل الاستشراقي المخيالي، بل راح ينصت للصحراء مثلما فعل بول نيزان في «عدن العربية»، إن الصحراء التي نجدها عند لوكليزيو هي الصحراء الحقيقية حيث يعيش الملثمون، الرجال الزرق «التوارق» بعيدًا من تلك الصحراء التي يحبذها العقل الاستشراقي، حيث نجد العوالم السحرية والخوارق. هنا، كمفارقة نجد أن صحراء لوكليزيو الذي عاش أربع سنوات بين الخيم والماعز والبدو الرحل في الصحراء أكثر تعبيرًا عن روح الصحراء من كتابات إبراهيم الكوني (التارقي)، الذي أنتج لنا صحراء حبلى بالغرائبية والبنية الاجتماعية الأُمسية التي يشتهيها الغرب ولا يعرفها الشرق.

لقد كانت الصحراء وستبقى معقدة وبوصلة لمعرفة مدى المسافة بين الشمال والجنوب؛ لهذا قال عنها فريديريك نيتشه يومًا: الصحراء قاسية وتعيس من يحرسها.

الصحراء كنز لم يستثمر جيدًا في الرواية العربية

حمود الشايجي – شاعر وروائي كويتي

على الرغم من العلاقة الكبيرة التي تربط بين الكاتب الخليجي والصحراء، فإنه لم يستثمر هذا الكنز الطبيعي إلى الآن، رغم ما كتب عنه حتى هذه اللحظة. فالصحراء تمثّل غالبًا مزيجًا من الوحدة والجمال والتحديات. كما أنها قد تكون رمزًا للعزلة والتأمل، وفي بعض الأحيان تجسيدًا للبحث عن الهوية والهروب من الواقع، أو حتى لاستكشاف التناقضات البشرية والقضايا الاجتماعية. فهي تحمل التناقضات الإنسانية بالرغم من قاحليتها الظاهرية، تحمل العديد من الجوانب والأبعاد التي يمكن للكتاب الروائي استكشافها واستغلالها بشكل خصب.

فمنطلقاتها متعددة: تبدأ في استخدام جمالياتها ورمزياتها ومجازاتها، إضافة إلى استكشاف الصحراء ثقافيًّا عن طريق التوغل في الحياة الاجتماعية في الصحراء، بما في ذلك التقاليد والعادات والقيم، فالشخصية الصحراوية لها سحرها الخاص وأسطوريتها.

نظرة قاصرة

يعتقد بعضٌ أن الكتابة عن الصحراء نوع من أنواع الحنين إلى الماضي، وأعتقد أن هذه النظرة نظرة قاصرة، فإلى اليوم ورغم كل التطور الذي وصلت إليه الدول العربية والخليجية على وجه الخصوص، من تطور إنساني ومدني، فإنه لا تزال الصورة المقرونة به هي البداوة، مع اقتران فكرة البداوة بالتخلف والهمجية، فصار لزامًا الكتابة لمعرفة الصحراء ورجالها ونسائها؛ لاكتشاف ما كان خافيًا على القارئ العربي والخليجي ليعرف من يكون، فلا ينطلق إلى مدنية منقطعة الأصل.

أما ما يخص التصور الغربي للصحراء أهلها لأنْ يكون متنوعًا ومتعدد الأوجه، ولكن قد تكون هناك بعض النقاط التي تشير إلى النظرة السطحية أو النمطية. فعلى الرغم من أن هناك العديد من الأعمال الغربية التي استكشفت الصحراء بعمق وتعقيد، فإن بعض الروايات والأفلام قد تقتصر على تصوير الصحراء كمكان للمغامرة أو الخطر، دون التركيز على الثقافة والحياة اليومية للسكان الأصليين.

طعم الذئب

ومن أجمل الروايات التي صاغت الصحراء وتصوراتها في السنوات الأخيرة رواية «طعم الذئب» للروائي الكويتي عبدالله البصيص، تفتتح الرواية أحداثها وحبكتها بمشهد «ذيبان» الذي تطرده زوجة خاله من المنزل بعد أن فقدت بسببه اثنين من أولادها، يغادر «ذيبان» منزل خاله وفي نيّته أن يقصد مدينة الكويت، وللوصول إليها عليه أن يقطع الصحراء الشاسعة. هذه الرحلة التي تستمر ثلاثة أيام هي ما سيشكّل بنية الرواية (علاقة الإنسان في الصحراء)، وهذا المنطلق الذي انطلق منه البصيص، قام على أساسين: مادي وفلسفي.

فعمل على إخفاء أجزاء من الحبكة بدايةً، ثم كشفها تدريجيًّا عاملًا على لعبة الذكريات والأحلام ليُعشق الأزمنة الماضية البعيدة والقريبة في الحاضر، وعلى هذه اللعبة بدأ نسج حكايته على مهل.

لـ«ذيبان» بطل الرواية سمات مختلفة عن المجتمع الذي يعيش فيه، فهو منذ طفولته مسالم يكره العنف، وهذا ما جعل الجميع يعيّرونه ويسخرون منه؛ لأنهم يعدّون القوة والقتال من سمات الرجولة، ومن لا يمتلكها لا يستحق أن يكون رجلًا. وهنا نجد هذا التحدي الصحراوي الذي يتعمق في الشخصية الصحراوية المتناسقة مع البيئة، فالبيئة الصحراوية الشديدة لا تتحمل إلا أن يكون الرجل فيها شديدًا قاسيًا يشبهها، لكي يتحملها، وهذا ما لم يكن عند «ذيبان» حتى انتقم في إحدى المرات لكرامته فقتل شابًّا آخر دون قصدٍ منه، بعد أن أهانه الأخير على مرأى ومسمع الفتاة التي يحبها، ولأن قانون العشائر هو الأخذ بالثأر، فإنه يستجير بخاله ويختبئ في بيته، وتنشب النزاعات بين العائلتين ويكون ضحيتها أفراد من الطرفين.

ولهذا السبب خرج «ذيبان» إلى الصحراء متجهًا إلى الكويت، وفي رحلته الصحراوية تتجلى له ذاته، ففي العراء حيث لا أحد سوى مفردات الطبيعة من نبات وحيوان، يكون على فطرته، يتذكر طفولته ويفاعته، يكاشف نفسه ويحاول فهمها. وفي خضم ذلك، يتواجه مع ذئب يتحيّن الفرص للانقضاض عليه، وهذا ما سيجعله يواجه لأول مرة في حياته الخوف وحيدًا، دون مساندة من أحد، فيعيش مغامرة غرائبية، تضيع فيها الحدود بين الواقع والخيال.

استفاد عبدالله البصيص من الصحراء في هذا العمل عن طريق مشاهد متقنة، استفاد بها من رمزية الصحراء خارجيًّا على البطل وداخليًّا في البطل؛ لذلك استحقت هذه الرواية الحصول على جائزة معرض الشارقة للكتاب لأفضل كتاب عربي، وكذلك أن تحصد جائزة الكويت التشجيعية.

في النهاية لا تزال الصحراء كنزًا لم يستثمر في الرواية العربية والخليجية، ليس لأنّ هناك إهمالًا وتقصيرًا، بل لأن هذا الكنز عظيم وكلما أخذت منه يزيد كالبحر.

سؤال الصحراء في أدب الكوني

فوزي عمر الحداد – أستاذ الأدب والنقد المشارك بالجامعة الليبية

يقول إبراهيم الكوني: وجودنا لغز لا يكتمل وجوده إلا بوجود الثالوث: الرواية، الخلاء، والأسطورة. الرواية روح اللغز، والخلاء جسده، والأسطورة لغته. السرد لا يبقى سردًا، والرواية لا تصير رواية، إذا لم تتكلم لغة الأسطورة، أي خلق الأسطورة بواسطة الأسطورة، تكوين أسطورة عن أسطورة التكوين. (صحرائي الكبرى 1998م).

دون مواربة

بهذا التقديم ندخل مباشرة في صلب الموضوع، فالكوني لا يداهن أو يواري، يمضي مباشرة نحو تقديس عوالمه الروائية الخاصة، فهو لا يرى الوجود الحقيقي إلا في الخلاء أي الصحراء، بما تحمله في ذاتها من غيبيات واحتمالية التيه القائمة أكثر من احتمالية الوجود نفسه، وهو كذلك لا يستبعد أسطرة المكان وتوليد العجائبي من الحضور المهيب للفضاء الصحراوي في المخيلة الشعبية أو في المتخيل السردي الذي يخلقه.

وتعد الصحراء فضاءً غنيًّا بالأساطير والسرد العجائبي المرتبط بالذاكرة الجماعية للإنسان الصحراوي، ويحاول كُتاب الرواية الصحراوية –في العموم- استنطاق ذاكرة ذلك الفضاء واستدعاء ما ارتبط به من حكايات مذهلة تثير الدهشة وتحفز عنصر التشويق والإثارة، وإن كانت الصحراء فقيرة مكانيًّا إلا أنها غنية ببعدها الفانتازي -أو الغرائبي أو العجائبي بحسب بعض النقاد- ولكن لا يمكن ربط الصحراء بالرواية العربية من حيث البعد العرقي والقومي، فالرواية المرتبطة بالفضاء الصحراوي في أغلبها تمتح من ثقافات ليست عربية، بل مرتبطة بقوميات أخرى كقومية الطوارق مثلًا، وأعمال إبراهيم الكوني خير دليل على ذلك بوصفه ينتمي لهذا المكون الثقافي عرقيًّا، ويمكن لنا أن نعزي أحد أسباب اهتمام الكوني بالصحراء وعوالمها لانتمائه هذا، فالصحراء هي الموطن الأصيل للطوارق سواء في ليبيا أو في امتداد وجودهم عبر الصحراء الكبرى في بلدان جنوب ليبيا.

البحث عن المكان الضائع

إبراهيم الكوني

«لا خلاص لعابر الدنيا إلا الصحراء» وكأن هذه العبارة التي وردت في نص روائي نطق بها الراوي في رواية «البحث عن المكان الضائع» تلخص فلسفة الكوني في الإصرار على عدم مغادرة الفضاء الصحراوي وما يحبكه في سرديته من نسق عجائبي مرتبط تمامًا بكل السياقات التي ينتجها أدبه وفلسفته الروائية. فتوالت صولات إبراهيم الكوني في عالمه الصحراوي متكئًا على أبعاد عجائبية تدور في فلكها الأحداث والشخصيات التي اختارت: «الصحراء لأنها تحتال على الظامئين إلى الحنين لتقودهم إلى التيه». كما يقول في رواية «بيت في الدنيا بيت في الحنين».

هذا التيه هو ذاته ذلك الحنين الظامئ الذي يتحدث عنه دومًا هو بالتحديد «الأبدية» الهدف الذي تسعى إليه شخوص الكوني، ولا يخفى ما يحتويه هذا الطرح من عجائبية أو غرائبية، حرص الكوني على إيجاد أبعاد رمزية لها في كل أعماله الروائية، هذه الأعمال التي يمكن أن يعدها القارئ العادي ذات نسق واحد رغم تجاوزها حد الثمانين رواية كتبها الكوني؛ ذلك يعود لوحدة الفضاء الروائي وتشابه الشخوص وتشابك بعض الأحداث مع بعضها الآخر، مع ما يحيط من بعد عجائبي يحمل ذات الجرس وذات الطقوس في كل مرة تحركها عبقرية راوٍ عليم يعرف كيف يجعل القارئ يتيه في أدغال الفانتازيا الساحرة التي يجيد الكوني العزف عليها.

أهمية المكان

  يقول ميشيل رايمون في هذا المقام: «إذا نحينا جانبًا القص والشخوص، فإن المكان يظل قائمًا، ويستمد أهميته من كون أن الكاتب يهم ببناء فضائه قبل شروعه بسرد الرواية»، أي أنه يبدأ أسطرة الحكي بعد أن يختار الفضاء الذي يحتويه، وهذا تمامًا ما يفعله ويحرص عليه الكوني، فهو يعد أولًا فضاءاته ثم ينسخ فيها حكاياته التي تقدس الأسطورة من خلال حكي عجائبي في مجمله.

وقد نجح الكوني في ترسيخ رواية الصحراء أو صحراء الرواية حتى عرف بها وانتسب إليها، بكل أبعادها العجائبية ورموزها الأسطورية، وأمكنتها التي تتعدد وتتحرك كما تتحرك رمال الصحراء فتغير ملامح الطبيعة وتشكل فضاءاتها المتجددة كل حين، وقد استغل الكوني قدرة الصحراء على محو الأمكنة أو تجديدها خير استغلال.

فنحن أمام رواية واحدة في رأيي على الأقل، وإن تجلت في أكثر من ثمانين عملًا سرديًّا انشغلت بالفضاء الصحراوي، وكأنها سلسلة تتدرج تكمل بعضها بعضًا، حتى ليمكننا أن نلحظ وجود الشخصيات عينها بأسمائها وصفاتها في أكثر من سردية روائية للكوني، والأمثلة كثيرة.

وتبدو مغرية تلك الدراسة التي يمكن أن تتناول العلاقة المميزة بين الفضاء الصحراوي وشخوص روايات الكوني؛ إذ تُفحَص العلاقة المشتركة بين المكان والشخصيات بما تحمله من موروث معرفي يمزج بين التاريخ المؤسطر والحاضر المقدس الذي يوازيه ويتقاطع معه.

بعد فلسفي

كذلك لا يمكن أغفال البعد الفلسفي في سردية الكوني الصحراوية، فكثيرًا ما يلبس محتويات الفضاء الصحراوي ألبسة فلسفية ونظرات سوسيولوجية فيما يمكن أن نطلق عليه (تخليق الأمكنة)، ذلك بما يصنعه الكوني من ترجمة لعوالمه الأسطورية وإعادة بناء مكونات السرد، ومَنْحها تدفقاتٍ شعوريةً وأبعادًا فلسفيةً، وبما يسبغه عليها من تقديس أو تدنيس، يقول مثلًا في أحد مقاطع سرديته «واو الصغرى»: «إن الركون إلى العراء خطيئة الإنسان، والعابر لا يجب أن يأمن مكانًا لا وجود له داخل جوف الأرض».

  إذن المكان محور رئيس في أدب الكوني، وعليه تتأسس ركائز دراسته، خصوصًا في تحولات المكان وارتباطه بتحولات الإنسان في بُعدَيْهِ السوسيولوجي والحضاري وانكشاف العلاقة الإبستمولوجية (المعرفية)، هذه التحولات قد نجد لها تفسيرًا من خلال الدراسة الثقافية التي تقدمها طروحات منهج النقد الثقافي عبر البحث في الأنساق الثقافية الظاهرة والمضمرة، كذلك يمكن أن يكون التفاعل البروكسيمي أو (علم المكان)، وهو طرح فلسفي يقوم على فكرة طرحها العالم الاجتماعي الأميركي إدوارد هيل؛ إذ يقوم على فكرة دراسة إدراك الإنسان للمكان، بما يشمل العادات والتقاليد والأنشطة السلوكية وامتدادها عبر المكان مع النظر لانعكاسه على نفوس الشخصيات الروائية.

القيم الصحراوية وتمظهرها في الرواية المعاصرة

كاظم الخليفة – ناقد وقاص سعودي

ينتهج السرد العربي طريقًا مغايرًا عن الحكاية الشعبية «الصحراوية»، على الرغم من توظيفه لها واعتماده عليها أحيانًا. فالصحراء باختلاف تضاريسها وموقعها على خارطة الوطن العربي، ملهمة ومحرضة على الخيال الأدبي الذي يتمظهر نتاجه أولًا على الشعر والأسطورة؛ كمواد ضرورية للحكاية لتستوعبهما فيما بعد كجزء من نسيجها ومتنها الحكائي.

فابن الصحراء القديم، حمل إرثه الثقافي معه، وتنقل به كخيمته تمامًا، وجاب به أرجاء الصحراء نزوحًا تجاه المرعى والاخضرار تارة، وناحية ضواحي المدن وفي قلبها تارة أخرى.

وإذا كان الشعر، والشعبي منه على وجه الخصوص -بعد العصر الجاهلي- حافظًا للموروث، فالحكاية الشفاهية بدورها رفدت جانبه وأمدت الأجيال المتعاقبة بالموروث الثقافي الذي يُعَدّ، إضافة إلى القيم والأعراف، محاولة لتفسير العالم وعقلنته. وتحضر الأسطورة أيضًا بمهمتها لسد فراغات المعنى المبهم؛ في الظواهر الطبيعية ودوافع الشرور، وغموض مجاهيل الصحاري. والشعر من جهته، يقوم بوظيفة الحامل للمدونات الأخلاقية والسلوكية، وضمير الجماعة، ذلك دون اعتباره «غنائية» تحتفي بالمشاعر والأحاسيس الإنسانية فيما يطرأ على العواطف من نوازل.

الروح الصحراوية

فهذا الإرث بكامله لا يتلاشى بفعل التقدم الحضاري والتقني أو نزوح البادية إلى المدينة. بل نجده متغلغلًا ومنعكسًا على الرواية والقصة الحديثة وإن تغير مظهره، وفصحت لغته. ويمكن الكشف عن الروح الصحراوية بتتبع القيم التي تندس في مفاصل العمل السردي، بعد العبور على فخاخ أسماء الأماكن، التي تصر الرواية أحيانًا على أنها مسرحها الحقيقي. فبمجرد وصول الحكاية التي منبعها الصحراء إلى المدينة بغية تمدينها وإعادة إنتاجها سرديًّا، وأن «الرواية نتاج المدينة وربيبتها»، حتى تتبدل أسماء الأماكن والشخوص وتدمجها في قيمها، أي المدينة، مع المحافظة بنسبية معينة على قيم ريفية أو صحراوية. فالمدينة في الرواية، تعدّ فضاءً جدليًّا تتصارع فيه القيم -الصحراء والمدينة- على الرغم من مظهرها العام وأشكال الصراع داخلها. ذلك ما يتوارى خلف أغلبية المواضيع السردية التي تطرقها الرواية، على الرغم من حذاقة الراوي في تبيئتها بما يتوافق وروح المدينة. هذا في حال أن مسرح الأحداث هو المدينة، والراوي هو ابن الصحراء. لكن عندما تكون الصحراء هي الموضوع فتتضح بجلاء تلك القيم بلا مواربة.

أما الأسطورة الشعبية الصحراوية الشفاهية ودورها المؤثر، فهي لا تتغير غاياتها ومضامينها من حيث رسالتها التعليمية، بالمثال والحكمة والنهاية السعيدة، وأيضًا بعدها عن الأخذ بالسببية وثيمتها الغرائبية. ذلك قبل أن تستدعيها الرواية كأحد المخارج الممكنة والحلول لفك عقدة الحبكة الدرامية، ولعل أشهرها الركون المبالغ فيه إلى القدر بمعناه «البدائي»؛ كتدخل مفاجئ لقوى ميتافيزيقية تحرف مسار الأمور إلى ناحية غير مرغوب فيها من دون سبب واضح.

الاغتراب

الملمح الآخر المؤثر، الذي يمكن الكشف عنه وفرزه بسهولة داخل الرواية العربية، هو الاغتراب الذي تنوعت أسبابه بين انضباط حياة المدينة مقابل الحرية اللامحدودة في الصحراء من جهة، ومن تبدل أدوات ابن الصحراء التي كان الحيوان ساعده الأيمن، إلى أن غدت المكائن هائلة الحجم التي يصفها بعضهم «كالشياطين»، تحف به في معامل النفط وخدماتها المساندة. وشعوره، أنه وهذه المكائن الصماء، أصبح جزءًا من منظومة عملية وتشغيلية عليه التناغم معها، وأن يضبط إيقاعه في ساعات عمله تبعًا لاحتياجها ومتطلبات دورانها. إضافة إلى اطلاعه على الآخر الأجنبي واحتكاكه به وتعلم لغته، ونمط حياته، أي ابن الصحراء، الذي تبدل تبعًا لدخوله إلى الحياة الصناعية، مقابل ما عهده من حياة البادية أو الواحات الريفية.

ذلك كان مظهر الاغتراب المبكر في الرواية والقصة القصيرة، قبل أن يليه الاغتراب الحديث في الرواية والناتج عن شعور الإنسان المعاصر «بتشيئته»؛ أي يصبح شيئًا من الأشياء المادية، وإحساسه بأنه يدور كترس في عجلة رأسمالية ضخمة لا تبالي بمشاعره وأحاسيسه، وهذا ما يتشارك به ابن الصحراء والمدينة على السواء.

هذان الملمحان هما ما يمكن التركيز عليه بوضوح في موضوع العلاقة بين الصحراء والمدينة، وبينهما معًا والرواية كجنس أدبي يطمح لأن يكون المعبر الأبرز عن هموم الإنسان وتطلعاته نحو عالم مقلق يفتقد إلى الوحدة بتشظيه، مما يستدعي من الروائي أن يعالج ذلك في منجزه الأدبي والإبداعي.

قدرة على التعايش مع العطش والتسامح مع التيه

عبدالستار حتيتة – روائي وباحث سياسي مصري

من أكثر الأعمال التي أعتز بها، وأرى أنني عبرت من خلالها عن عالم الصحراء، روايتي «شمس الحصادين»، ومجموعة «حكايات النجوع». مع ذلك يمكن القول: إن الصحراء عالم فسيح، وشاسع، ويحوي العديد من المحاور الدرامية. وهي في الأعمال الأدبية تحمل مضامين عدة.

فهناك الصحراء بمعناها المادي.. أي أودية جافة وهضاب وامتدادات من البيداء، بينما السراب يتماوج عليها من بعيد كأنه الماء.. وهناك الصحراء بمعناها الشاعري.. وهذا النوع الأخير لا يمكن لمسه باليد، أو رؤيته بالعين العادية.. إنه براح داخل العقل.. وقدرة على التعايش مع العطش.. إنه التسامح مع التيه، ومع الضنى ومع الوجع.. أعتقد أن هذه الصورة الأخيرة هي التي تنساب في كثير من الأعمال الأدبية التي كتبتها عن الصحراء.

 مع ذلك أقول: إنني لم أتمكن حتى الآن من نقل الأجواء المتذبذبة لعالم الصحراء. إنها دنيا واسعة من الخيالات ومن الظلال، وبالتالي يصعب تصويرها في عمل متفرد، أو في نوع أدبي واحد.. ما أريد أن أشير إليه هنا هو ضرورة البحث عن مقدرة فذة لتصوير الصحراء بمعناها المادي المعروف، ومزجه بذلك التدفق من المشاعر والانطباعات والرؤى الخيالية البديعة.

الصحراء بالنسبة لي، عمومًا، عالم سريالي، فيه الوهاد، وفيه الخطوط الصفراء المتعرجة، وفيه وجع الرحيل، وطعم فراق الأحبة، وفيه كذلك الأهمية الكبرى للدليل الذي يقود خطوات تابعيه لأماكن إطفاء الظمأ؛ أي للبئر الواقع تحت قمر الليل البعيد.

تقاطع واضح

في الروايات والقصص التي كتبتها، يوجد تأثر بمن مروا من هذه الدروب في السنوات الغابرة. إن هناك ما يشبه التقاطع الواضح بين حياة البيداء التي لا تحدها حدود، ورغبة البلاد في الحفاظ على نفسها.. مثلًا.. في روايتي «ليلة في سجن المالكي»، تجد أن المتغير المجتمعي، أكبر من قدرة الأفراد على مواجهته. إن تقسيم البلاد، ومشكلات الحدود، والأسلاك الشائكة، تبدو بارزة، وواضحة. وهذا يقترن مع حركة الزمن إلى الأمام.

لقد وجد أهل الصحراء أنفسهم في صعوبة كبيرة للتأقلم مع الواقع الجديد.. أي أن يتحولوا من رُحَّل بالخيام، إلى مجتمعات صحراوية مستقرة في بيوت حجرية. يوجد تناقض هنا. فالترحال يتعارض مع الاستقرار. وهذا ما لم يفهمه بعضٌ. ويقول أحد شخصيات الرواية هنا: البيوت استقرت، أما نحن فلا..

وفي روايتي «استراحة الشيخ نبيل»، تتجلى الصحراء، بغموضها ورحابتها أمام أولئك الهاربين من زحام المدن، ومن ألاعيب السياسة والحرب والسلام.. وهذا يقترن بتحولات كبرى جرت في كثير من المجتمعات العربية الصحراوية في فترات حديثة متفرقة..

وسط هذا كانت هناك حالة من التباين بين ابن المدينة وابن الصحراء. يمكن فهم ذلك من عدم القدرة على التواصل بين المعلم القادم من زحام المدن بأنهارها الجارية، وبلهجته الطرية، وشخصيات الصحراء بجفافها ومعاناتها التي لا يفهمها الغرباء.. تقرأ هذا أيضًا في المجموعة القصصية «لوزة».

المقدس والشعري

أعتقد أن المقدس والشعري في رواية الصحراء بالمشرق العربي، يرتبط إلى حد كبير بوجود غالبية المجتمعات الصحراوية قرب البحر.. توجد خصوصية تتعلق بهذا الخيط الرفيع بين الخيط الأزرق، والخيط الأصفر.. إن ما يفصل بينهما هو الخوف من الفقد، والخوف من الظمأ.. وكما يقول الشاعر أمل دنقل: «البحر كالصحراء، لا يروي من العطش».

لذا سوف تجد سحرية في فن الكتابة الإبداعية التحريرية، وفي القول الشفاهي.. ويقترن كل ذلك مع الخطر الذي يأتي من الغزو الأجنبي من وراء البحر، في عصور مختلفة.. في مجموعتي القصصية «حكايات النجوع» تركز على سنوات الاجتياح الأجنبي للصحراء، وبخاصة في الحربين العالميتين الأولى والثانية.. إنها حقبة صعبة في حياة الصحراء.. فقد وجد المرتحلون أنفسهم يُجبرون، من الأغراب، على مواصلة الفرار!

وأخيرًا.. لا تمثل الصحراء شكلًا ماديًّا صرفًا، بل تتحول، في الأعمال الإبداعية، إلى معجون من الآهات، ومن آثار الأقدام العابرة، ومن طعم الرمل، ومن قياس ما تبقى من مياه في قعر البئر، كمحدد للبقاء، أو للرحيل..

حماية‭ ‬للذاكرة‭ ‬والهوية‭ ‬من‭ ‬الضياع

محمد‭ ‬خضر‭ ‬الغامدي – شاعر سعودي

هناك تجارب عميقة في الرواية السعودية كان فضاؤها العام يدور في الصحراء، سعت في أغلبها لمحاولة اكتشاف عوالم الصحراء وقراءة جمالياتها وتتبع سحر أساطيرها وحكاياتها التي تشبه الخيال، فضلًا عن المقدس الصحراوي والملحمي في هذه الأجواء، وقد استطاع بعض الروائيين أن يكتب أكثر من عمل مستلهم من الصحراء، سواء بالعودة إلى الماضي أو التعبير عن واقعها الحالي الجديد، حيث تلك الصحراء التي لم تعد موجودة بحالتها السابقة؛ إذ حاصرتها المدنية والحياة الجديدة من كل اتجاه، وهنا يقف الأدب ليستعيد ويتساءل ويحمي ذاكرة الأمكنة والهوية من الضياع.

أذكر هنا بعض الأسماء الروائية المهمة التي شاركت في تشكيل خيال الصحراء عبر كتابات ثرية، من بينهم عواض شاهر، أمل الفاران، ورجاء عالم، ومؤخرًا شتيوي الغيثي، هؤلاء الذين استعادوا شيئًا مهمًّا من وهج الصحراء وثقافتها ذات الخصوصية الواضحة في أعمالهم.

ثقافة معزولة

ويمكن القول: إن رواية الصحراء قد جاءت لتعبر عن تلك الثقافة شبه المعزولة، وذلك بالحضور إلى جانب روايات المدينة والحارة والقرية السعودية، فجاءت ليس فقط بأسئلة مختلفة عما طرحته هذه الأعمال، ولكن أيضًا بلغة مختلفة؛ لأن كاتبها مقيد بمعجم الصحراء وعوالمها. كما يمكن القول: إن رواية الصحراء تُكتب في الخليج لتناقش من كثب أحد أهم مراحل الحياة في بلدان الخليج، وبخاصة مرحلة ما قبل النفط، وما حدث في المكان من تقدم وتطور، راصدة تحولاته وتمرحله بين القبول والتردد ورفض الحياة الجديدة. ومن ثم فهي رواية المفارقات بين عالمين، وأحيانًا رواية استعادة ما كان ومضى، أو ما تبقى في ذاكرة عريقة ومليئة بدهشة الصحراء وسحرها. وفي الشعر سنلحظ أيضًا الكثير من القصائد تستلهم وتوظف مفردات الصحراء بكناياتها ومجازاتها..

لم يتأثروا

لكن ذلك لا يعني أن كل الكتاب تأثروا بعالم الصحراء وكتبوا عنه، رغم وقوع بلادنا في منطقة الصحراء الكبرى، فمن الطبيعي ألا يكتب كُتّاب اليوم عن الصحراء، أو يتأثروا بعوالمها سواء في الشعر أو الرواية أو القصة. ربما للمسافة الزمنية والمكانية التي تفصل أغلبهم عن الكتابة في هذا الفضاء الصحراوي، أو لأنهم أقرب لفضاء المدينة والحياة الجديدة، أو لأنه في أمكنة مختلفة لا تشكل الصحراء كجغرافيا هاجسًا مُلحًّا لهم كالقرية أو الجبل أو البحر..

الأثر الشعري في الرواية السعودية

معجب العدواني – ناقد وأكاديمي سعودي

يمكن القول: إن رواية الصحراء تأثرت في جانب منها بالكتابة الشعرية، لكن هذا لا يشكل ظاهرة يمكن تطبيقها على الرواية السعودية عامة، وذلك لأسباب منها: أن الرواية من الأجناس التي تستعصي على القولبة أو التأطير، فمن الممكن أن نشهد الحالة الشعرية والأسطورية في روايات صحراوية ببلدان أخرى بشكل أوضح، كما أن هذا المسار بدأ تشكله الأول في الرواية السعودية مع لحظة الاستهلال الكتابي الروائي؛ إذ كانت هناك وشائج ربطت أولئك الروائيين الأوائل مع الشعر، فانصهرت في أقلام كُتّاب مثل: عبدالقدوس الأنصاري، ومحمد علي مغربي، وحامد دمنهوري. كما يمكننا أن نلحظ أن بعض الروائيين كانت لهم كتابة ذات ملامح شعرية انهمرت في بعض أعمالهم القصصية؛ مثل: عبده خال في مجموعته «حوار على بوابة الأرض»، ويوسف المحيميد في «رجفة أثوابهم البيض»، ومحمد حسن علوان في روايته «سقف الكفاية»، و«أمل الفاران» في «غواصو الأحقاف». أو في أعمال متعددة مثل مجموعة من أعمال رجاء عالم استهلت برواية «طريق الحرير» و«مسرى يا رقيب» و«سيدي وحدانه» و«موقد الطير».

كما نلحظ أن هناك بصمة شعرية انتقلت من الأديب الشاعر إلى الروائي كما لدى كل من: غازي القصيبي، عواض العصيمي، أحمد أبو دهمان، عبدالعزيز النصافي، وغيرهم. لكن ذلك كله يدفع بنا إلى تأكيد أهمية المسار لا تعميمه، فما ذكر من الأعمال الروائية التي تمتلك تأثيرًا شعريًّا ليست إلا عينة صغيرة من الكتابة الروائية السعودية بأكملها. فعلى الرغم من وجود بعض الأمثلة فإن هذا لا يعني أن الظاهرة شائعة أو مسيطرة على الساحة الروائية في السعودية.

تشابه في بعض الجوانب

أخيرًا، فإنه على الرغم من أن الشعر والرواية يمكن أن يتشابها في بعض الجوانب، مثل التوظيف المبتكر للغة وتكثيف الصور والرمز، فإنهما يعبران عن أنماط مختلفة من الكتابة والتعبير. وبالتالي، يمكننا أن نقول: إن الشعر والرواية تجربتان منفصلتان ومتنوعتان، ولا يمكن تعميم وجود الأثر الشعري على الرواية بأكملها؛ لذا ينبغي أن ننظر إلى الكتابة الروائية السعودية بشكل شامل، ونعترف بتنوعها، وتعدد أساليبها، وتباين موضوعاتها، من دون الاصطفاف إلى جانب تصنيف محدد، أو الانغماس في تعميم مفرط.

المنشورات ذات الصلة

في مناسبة عام الشعر العربي.. شعر بلا نجوم يبحث عن قراء ومنصات بلا تصفيق أو لايكات

في مناسبة عام الشعر العربي.. شعر بلا نجوم يبحث عن قراء ومنصات بلا تصفيق أو لايكات

في مناسبة عام الشعر العربي، مبادرة وزارة الثقافة السعودية، تستطلع «الفيصل» آراء عدد من الشعراء العرب، حول راهن الشعر...

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *