كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
«الأميركي الذي قرأ جلجامش» لأحمد الشويخات
من فانتازيا الواقع إلى مجازات الأسطورة
«جلجامش أين تهيم على وجهك
إن الحياة التي تنشدها لن تجدها
لم يسلك أحد الفانين هذا الطريق
ولن يقتحم الأهوال
ما دامت الريح تعصف بالبحر»
شدّتني هذه الرواية الحيوية الشائقة لأحمد الشويخات من سطرها الأول حتى سطرها الأخير. كأنني كنت أهيم على وجهي فعلًا بين أروقة السرد، أي كنت أتجول في غابة ثلاثية متشابكة من العوالم السردية. يأخذني تجوالي من الوقائعي الساخن (أرض العراق – ديفيد بوكاشيو)، إلى الوقائعي المؤسس البارد والقلق- (سان فرانسيسكو وعالم آل بوكاشيو شبه الأسطوري)، ثمّ ينتهي بي إلى الأسطوري الواقعي المرح (نزل القمر الخجول – رجب سمعان).
حين تنجح الرواية في تحقيق هذا التشويق تكون بذلك قد نجحت أولًا في تفجير متعة النص أو لذته في متلقيها، على حد قول رولان بارت، وفي الوقت ذاته، تلك المتعة ذاتها هي التي تنفتح في فضاء المشهد الروائي برمته في البحث عن المعنى أو اللامعنى، عن دلالاته المضمرة أو مضامينه المتعددة أو سبر حدوسات النص وضبابيته أو غياب دلالته، وتلك قراءة متأملة وبالتأكيد تختلف، أشد ما يكون الاختلاف، من متلقٍّ لآخر حسب ما هي عليه رؤيته أو وعيه الفني المعاصر أو موقفه الأيديولوجي.
في حب ملحمة جلجامش
أكثر ما شدني في الرواية، هو اتكاؤها شكلًا ومضمونًا على ثيمتها المحورية: الفقد بتجلياته المتعددة ومن خلال البحث عن سرّ الخلود، كما رامت إليه «ملحمة جلجامش» السومرية التي أعرف أن الشويخات كان مسكونًا ببعدها الأسطوري وعظمة لغتها ودلالاتها الفلسفية، في أحاديثه القديمة معنا وفي جلساته مع أصدقائه المقربين.
وقد وظفها توظيفًا فنيًّا مرهفًا في روايته هذه من خلال شخصية الرواية المركزية (المترجم والأديب الأميركي ديفيد) الذي ورث عن أمه صوفيا الحكاءة حب الأنهار والأساطير القديمة، والذي لو لم يكن هو أيضًا مسكونًا بها وبأسطوريتها وبحثها الإنساني عن سر الخلود، وينابيعها الشعرية واللغوية الخصبة وأجوائها من منبعها الأساس في أرض السواد، لما التحق بالجيش الأميركي الغازي للعراق «جنديًّا ثقافيًّا» -إذا جاز التعبير- مترجمًا متعاقدًا خائضًا تجربة الكشف عن قرب، مشبِعًا رغائبه المستديمة في الأسفار، ومتعرضًا لكل صنوف الغربة الروحية والمكانية، ومتحملًا على مضض لكل صنوف الصلف والجهل والمكائد الصغيرة من رؤسائه ضباط التحقيق، وموقفه المضمر، غير المعلن، من لا إنسانية الغزو الأميركي وغاياته الاستعمارية واللصوصية وجهله الثقافي.
كان ديفيد الأميركي المغرم بهذه الملحمة يعيد قراءتها كثيرًا، بل إنه وجد فيها «اكتشاف للحكمة وحث على قبول الحياة والعيش السعيد البسيط دون الوقوع في قلق الفناء وخشية الموت، الأمر الذي يعطل الحياة نفسها».
كما لا بد أن أنوه أيضًا بالحنكة الروائية التي كتب بها الشويخات هذا النص الأدبي والتقنية السينمائية التي استخدمها الكاتب في بناء مشاهد الرواية ووحداتها البنائية، والانتقال برشاقة من مشهدٍ لآخر بطريقة الفلاش باك: الاسترجاع، أو التقريب والتبعيد اللتين أجاد الكاتب في استخدامهما بحرفية عالية، وهو ما سنتبينه بالتفصيل في سياق قراءتي النقدية هذه.
معمارية المتن السردي كما في تاريخيته وأسطورته
في هذا العمل الإبداعي، «الأميركي الذي قرأ جلجامش»، لا يمكن الحديث عن معمار روائي متنامٍ ومتماسك وصلب (كتلة واحدة)، ويرتفع كالعمارة الهندسية رأسيًّا. وإنما يمكنني -وأنا أتوسل في هذه القراءة منهجًا قريبًا من التفكيكية، لا يبتعد من ظلال البنيوية التوليدية وبخاصة في تشكيلاتها لرؤية العالم ولرؤية الفن- أن أقول: إن هناك ثلاث وحدات بنائية في النص متنامية أفقيًّا في زمنيتها الفنية وفي زمنها الواقعي والنفسي، وعلى موقعها الجغرافي الثلاثي (العراق، البحرين، وسان فرانسيسكو). بنت الرواية معماريتها الأفقية المتعددة، ومن وشائجها وعلاقاتها المتشابكة تشكّل المكوّن السردي من بدئه إلى منتهاه.. حيث الحديث عن معمار روائي يحيلنا مباشرة إلى تلك الأعمال الروائية الكلاسيكية الكبرى التي يمضي فيها السرد في منطقه التعاقبي صعودًا نحو ذروته أو نهايته، بحيث يشكل كل طبقة في البناء مدماكًا للطبقة التي تليها. نجد ذلك في عمل نجيب محفوظ في الثلاثية أو في «أولاد حارتنا» أو في أعمال روائية عالمية كبرى كـ«الإخوة كارامازوف» لدوستويفسكي أو «آنا كارنينا» لتولستوي وغيرها من الأعمال الروائية الملحمية القديمة والجديدة.
إذًا، المكونات البنيوية السردية في عمل الشويخات تتأسس فنيًّا على ثلاث جغرافيات وأمكنة، أي ثلاثة عوالم سردية/ وحدات بنيوية تستقل وحداتها الزمنية أو المكانية وتستفرد بأجوائها، وتسيطر عليها وشائج تاريخية ووقائعية عابرة تنتجها حركة وديناميات شخصيات الرواية التي أسست فيما بينها علاقات روائية تفاعلية جديدة ذات وشائج وخيوط إنسانية كانت بمنزلة اللُّحْمة لوحدات العمل الروائي البنيوية كله.
بمعنى أن التعاقب المنطقي في هذه العوالم السردية لا يستمر مطردًا كما هو في سياقاته، تخترقه بعض الانزياحات وبعض الاسترجاعات والذكريات والاستقطابات، كأن يتذكر المترجم ديفيد أمام وقفات الموت والأوجاع التي عايشها ما قاله صديقه رجب سمعان ذات مرة: «إن صيحة الولادة وشهقة الموت ترجمات كونية مكتفية بذاتها» لا تنفع معها اللغة. أو ما قاله رجب أيضًا: «الفن كرؤية وسرد هو الجذوة في صقيع الحياة، وهو الفعل الجميل ضد الخراب والخواء والوحدة». هذه الاسترجاعات القولية كمرجعية علائقية، هي بمنزلة تهيئة للكاميرا السردية لأن تنتقل في سياقات متلاحقة إلى وحدة سردية بنيوية أخرى، وعالم سردي قادم مكتمل له خيوطه لم يحن بعد أوانه.
ودائمًا ما يشكل التعاقب السردي المنطقي للحدث معمارية واحدة للنص إلا أننا هنا في هذا العمل الإبداعي نلحظ تشظي هذه التعاقبية في ثلاثية من البناءات أو الوحدات التقنية أعدها مكونات أساسية وعناصر منفصلة ومتصلة جماليًّا لبنية التشكيل السردي في انتظاماته وعلاقاته الروائية المتواشجة.
الوحدات البنيوية الثلاث التي شكلت عوالم الرواية
في العالم السردي الأول يبني السارد وحدة البناء الروائي الأولى فيقدم لنا الشخصية المركزية المترجم الأميركي- الإيطالي ديفيد بوكاشيو حفيد الروائي الإيطالي الكبير جيوفاني بوكاشيو صاحب «الديكاميرون»، كشخصية حيادية غير متورطة في فانتازيا القتل وحماقاته، وغير معنية بمطاردة أفراد المقاومة العراقية، إلا أنه على قدرٍ كبير من وعي المكان ووعي التاريخي، ووعي الإنسان في سياق هذا كله، أي وعي اللحظة المعاصرة المأزومة للعراق وتاريخه الثقافي والأسطوري. غير أن هذا الوعي المركّب يتحول في زمنٍ لاحق إلى وعي شقي، راوَحَ بين معنى تقديم الخدمة الوطنية الواجبة لجيشه الغازي، وبين معنى التعاطف الوجداني والتاريخي الحضاري مع الإنسان العراقي البسيط، الذي غالبًا ما كانت تشكّ فيه الآلة العسكرية الأميركية كفردٍ محتمل من أفراد المقاومة. وهي في ظني إشكالية عنصرية جاهلة وعمياء أثّرت في موقف ديفيد وسبّبت له حيرة تأملية، من اليقين المختلط بين العقلي والشعوري والوجداني والثقافي، وهو ما ترك أثرًا ملحوظًا وعكسيًّا في مواقف رؤسائه ضباط التحقيق، فيقع هو نفسه، ديفيد، تحت عدسة الشكِّ والغيرة والطمع والوهم، ومن ثمّ تحت مطرقة التحقيق الفانتازية نفسها، كما رأينا ذلك خاصة بعدما عاد وظهر حيًّا من رماده بعد هجوم المقاومة المباغت في آخر مهمة عسكرية شارك فيها، ومقتل كل رفاقه العسكريين في الوقت الذي اعتقد رؤساؤه أنه كان من ضمن القتلى.
حدث ظهوره من جديد كان فيه قدر كبير من الغرائبية وذو بعد أسطوري في أرض السواد، وهو ما سبب للضباط الأميركيين إرباكًا عمليًّا وصعودًا أكبر لمنسوب الشك والريبة في شخصية ديفيد وغموضه في التعاطف الوجداني مع المقاومة، فرأيناه يخضع بعد لأي هو ذاته «الجندي الأميركي» لسلسلة من التحقيقات الأولى الكوميدية في الغرفة نفسها رقم (٦) التي كان يحقق فيها أفراد المقاومة، أو المقبوض عليهم من الأفراد العراقيين البسطاء.
عندما نخرج من هذا العالم السردي الأول الساحر، تنقلنا كاميرا السارد بالأسلوب السينمائي الرشيق نفسه لا لندخل العالم السردي اللاحق (وحدة البنية السردية الثانية)، بل لندخل إلى فضاء العالم السردي الثالث (معمارية البنية السردية الثالثة) ذي العلاقة الحياتية العائلية للمترجم ديفيد، هناك في موطنه سان فرانسيسكو؛ كي ترجع ثانية إلى المعمارية الثانية في صورٍ متلاحقة.
ذكريات لا تُمحَى
في هذا العالم نتعرف إلى أسرة ديفيد في بيت آل بوكاشيو المكوّنة من أمه صوفيا، وزوجته لورا وصديقاتها، وعمه ليوناردو، موظف شركة أرامكو القديم، وزوجته مارغريت. ولعمه ذكريات لا تُمحى مع ديفيد عندما استضافه صيف ٧٧ في الظهران في برنامج عمل الطلاب الصيفي تحت إشرافه المباشر، بصفته مديرًا لدائرة الترفيه بالشركة، وتعرف ديفيد أثناءها إلى الشاب السعودي المثقف ذي الشخصية الفانتازية رجب سمعان الذي وجده متقاطعًا معه في اهتمامات متعددة منها (الثقافة والأدب والترجمة والفن)، وفي حب ملحمة جلجامش، ولعلي أؤجل هنا الحديث عن هذه العلاقة؛ لأنها تنتمي إلى عالم سردي ثالث مكونةً الوحدة البنيوية الثالثة للرواية، كما قلت.
وأرجع إلى عالم ديفيد الأسروي المدهش حيث الأم صوفيا قبل إصابتها بجلطة الدماغ وعالمها السحري: غرز التريكو النائمة على الكنبة، وحيث عالم تاريخ آل بوكاشيو الأدبي وعالم القبو أو الصومعة كما كان يسميها التي تحتشد بخزانات الميراث ورفوف الكتب وعالم الأم صوفيا وحكاياتها الليلية وهي تحوك سترات الصوف والجوارب ومفارش الطاولات، وعالم الزوجة الممرضة الصبورة الطيبة لورا، هذا العالم الدافئ المشعّ الذي كان يبتعد منه ديفيد كثيرًا لكثرة أسفاره، ولم تنته حتى بعد أن تزوج لورا فتاته المحبة لآل بوكاشيو حتى النخاع، إلا أن حنينها وشوقها كان يتوقّد لرجوعه حيًّا سالمًا وبخاصةً بعد علمه بمرض أمه. كانت لورا تنتظره عشرين عامًا حيًّا وهو الذي لا تنتهي أسفاره، وها هي تنتظره ميتًا بعد أن علمت بفقدانه في العراق.
كانت تنظر إليه كشاعر عاشق في بداية زواجهما وهو يقرأ لها مقاطع من ملحمة جلجامش، وكان يمتدح قوامها المتناسق، وكانت تشعر بروحه وحبه وتدفقه. كانت فخورة به كمثقف ومتذوق للفنون، وبعد سنواتٍ ست تغيرت طباعه وصار له مزاج صعب كمزاج آل بوكاشيو على حد قول أمه صوفيا، مستغرقًا في القبو ومنغمسًا في عالم الكتب. ومن بعدها بدأت أسفاره التي انتهت به إلى رحلة العراق جنديًّا مترجمًا مثقفًا. برغم كل ذلك كانت راضية مستسلمة بقدر ارتباطها بديفيد وبآل بوكاشيو. إنه نوع جدلي من الاتصال المنفصل في عالم أسرها بكل تناقضاته وغموضه.
في هذه الوحدة السردية تكشف لورا جزءًا كبيرًا من شخصية ديفيد المزاجية، هو مزيج من فلسفته الأحادية وطباعه القاسية الغرائبية، وبخاصة حين صارحها بعدم رغبته في الإنجاب معللًا ذلك برأي هو في قمة الأنانية والطرافة واللامعقول في آنٍ: «لن أنجب طفلًا إلى هذا العالم الشقي دون أن يطلب الطفل نفسه المجيء»!
وعلى الرغم من كل هذه العذابات والأوجاع النفسية وبُعد ديفيد منها نفسيًّا وجسديًّا، فإن لورا كانت متسامحة مع قدرها ولم تكن تحبذ الانفصال، بل كانت تحدث نفسها قبل صديقاتها، وتقول: «إن ديفيد وآل بوكاشيو قد أعادوا تشكيل عقلي وقلبي، وإني خلقت لأكون جزءًا من هذه العائلة إلى الأبد».
وتنتهي هذه الوحدة السردية، بأن كانت لورا تنتظر عودة ديفيد جثمانًا من أشلاء ورماد، لكن القدر أراد أن يرجع إليها حيًّا ميتًا كالفينيق المنبعث من رماده، لكن هل يعود فعلًا؟ هذا السؤال تركه السارد مفتوحًا من دون إجابة!
رجب سمعان حين يحب
في الفصل الخامس «طيور المرافئ»، الذي أعده من أجمل وأمتع فصول الرواية، وهو يشكل وحدة سردية صغيرة مستقلة بذاتها، تلخص الفكرة الفلسفية للعمل الأدبي. يلتقي ديفيد الشابُّ رجبَ سمعان لأول مرة في صيف ٧٧ على وقع أغاني كيني روجرز في مجمع الترفيه في شركة أرامكو بالظهران، ومن بعدها صارت الأحلام وذكرى الطفولة، وعشق البحر والأغاني والأدب والترجمة والشعر وملحمة جلجامش هي أحاديثهم العذبة الشهية المشتركة وما يجذبهما معًا كل يوم.
الشاب السعودي رجب فيلسوف في سمته، حكيم في مقولاته، وفي حركاته زورباوية معجونة من طينة غرائبية هي أقرب إلى رذاذ البحر «وغموض النور المرتعش في الماء العميق»، وضباب الفجر وصياح النوارس. حين يتكلم عن معنى الفقد فإنه غالبًا ما يفلسفه بطريقته الراقصة المدهشة، وحين يعجبه شيء ما يعبّر بصيحاته المرحة العالية:
«حبيبي البحر». «حبيبي الرجل الفلاح» (إشارة إلى أغنية لوسيل، للمغني الأميركي جيني روجرز)
«حبيبي لي باي» (إشارة إلى الشاعر الصيني). «حبيبي ديفيد»! «حبيبي العم ليوناردو».
يقول الراوي: «تلك طريقة رجب حين يعجب بشخص أو موقف أو مكان أو عمل أو طبق طعام أو فكرة فإنه يصيح: حبيبي… حبيبتي»، حتى إن بعضًا يغادر المكان فرارًا من لحظة جنونه. وحين يتفلسف رجب يقول لصديقه ديفيد: «ديفيد، كم مرة ظهر لنا البحر مختلفًا! كم لونًا رأيناه للبحر! وكم مرة خفقت أجنحة طيور المرافئ في أعيننا وأرواحنا!» وربما أعقبها بواحدة من صيحاته الجذلة: «حبيبتي الطيور.. حبيبتي المرافئ».
وفي واحدة من اقتراحات رجب لديفيد يأخذه إلى مغامرة البحث عن مكنزٍ للآثار والتماثيل والمجوهرات في إحدى جزر الخليج المحاطة بغابات النخيل، وهناك يُنصَب عليهما في وسط البحر بعد أن اشترى ديفيد تمثالًا دفع قيمته ألفي دولار من الرخام الأبيض من تاجر آثار. بدا التمثال لديفيد بأكتافه العريضة ولحيته الكثّة المجعّدة وشاربه المفتول والتفاف الأفعى حوله يصارعها للتخلص منها كأنه لـ«جلجامش».
سُرق التمثال منهما، ولكنْ رجب وعد ديفيد باسترجاعه يومًا ما، وهما يسترخيان في «نزل القمر الخجول» بالبحرين. وهو ما حدث بعد ثلاثين عامًا!
بعد ثلاثين عامًا يلوذ رجب إلى نزل القمر الخجول من جديد، بعد أن جرت عليه السنون بمضايقات المتشددين الدينيين المحاربين لأفكاره ولصوصية المستثمرين لأمواله، هاربًا من ديونه وإخفاقاته وزوجته وأولاده أيضًا، يعود إليه وتطول إقامته فيه لسنوات، حتى إنه سكن كل غرفة فيه وأقام علاقة صداقة مع كومار مدير الفندق الذي كان يتعاطف معه.
في الليالي كلها يغرق رجب في النبيذ وقول الشعر، ويطلق صيحات النوارس الغنائية من حنجرته وهو في شرفة غرفته: «حبيبتي الرياض… حبيبتي العلا… حبيبتي الصحراء… حبيبتي الأحساء… حبيبتي القطيف… حبيبتي سان فرانسيسكو…» وهكذا، حتى ظُنّ به الجنون، حين تكررت صيحاته الابتهاجية الليلية مسببةً الإزعاج لقاطني الفندق. وفي ليلة مكتملة الضياء يذهب رجب سمعان إلى البحر، يذهب حيث الضوء المرتعش في عمق الماء ويصبح هو الضوء الهارب إلى الأعماق.
يغرق رجب فهل هي بداية أسطوريته؟
وهنا تتجلى بالفعل هذه الأسطورية ومجازاتها حين يخرج من جوف البحر ناسفًا حقيقة غرقه ليدقّ، في خيالية عجائبية، باب آل بوكاشيو في سان فرانسيسكو معيدًا تمثال جلجامش الأثري الذي فقده ديفيد، قبل أن يعود ديفيد لبيته، وهو يخلق أسطورية الوجود أمام حالة الاندهاش العارمة التي تجتاح عائلة آل بوكاشيو.
تركيب فني غرائبي لا يخلو من الواقعية
إن الروائي هنا في واقع التخييل الضاغط في عالمه السردي، إنما يخلق قوانينه الخاصة المناقضة لقوانين الواقع، في حركية إشارية ذات أبعاد أيديولوجية؛ لاستعادة معنى الحياة، وترميز مفهوم الخلود وسرّه ومجازاته الحياتية التي تضمنتها ملحمة جلجامش، فلم يترك نصه ينساق ويستسلم إلى حقائق التاريخ ووقائعه، بل أقحمه في تخييلات الأسطوري وغير المألوف، وتوكيد مجازات معنى سر الخلود في أسطورة جلجامش من خلال إقدام السارد لهذا التركيب الفني الغرائبي.
تبدو لنا جدلية الغياب والحضور لكل من ديفيد ورجب كما رأينا في متن الرواية؛ الأول ينهض من رماده، والثاني يخرج من البحر. وقد يبدو السرد في هذه الرواية في سماته الواقعية وضمن منطق الأحداث شديد الانتماء إلى وقائعه التاريخية وزمنيته وشخوصه، إلّا أنه ينحو منحى الواقعي السحري في منعطفين سرديين كما رأينا، حين أراد السارد إعادة ديفيد إلى الحياة في لحظةٍ خارقة، لكن في سياق منطقي يبدو مقنعًا للمتلقي، حين برر ذلك بأنه كان في أحضان غابات النخيل بعيدًا من لهب الانفجار، وحين أراد أيضًا خروج رجب من جوف البحر في لحظة أسطورية وذهابه إلى فرانسيسكو ليدق باب آل بوكاشيو حاملًا معه تمثال جلجامش الخالد المسروق، قبل عودة ديفيد الثانية. وهي لحظة سردية أسطورية بامتياز عمّقت فكرة الخلود والانبعاث التي انطوت عليها أسطورة جلجامش ذاتها.
هذان الحدثان في الرواية في ظاهرهما يربكان الإدراك المنطقي للأشياء، ويضادان التصور الواقعي للمدرَكات على حد قول الناقد جابر عصفور، إلا أنهما مزج بين الحقيقي والخيالي. الحقيقي هو غيابهما، والخيالي هو أسطورية انبعاث ديفيد ورجب من جديد؛ لكونهما تمثيلًا دلاليًّا لفكرة جلجامش في سر الخلود.
هو إذًا هنا المتكلم العليم الخالق في الرواية، يدير التشكيل السردي برؤيته وحذقه للعبة الحكائية. إنه الشويخات ذاته كاتب النص منحازًا للفني والأسطوري والتخييلي كمجاز متخطيًا واقعيته حتى لو جاء عمله الإبداعي هذا متماسًّا مع الواقعي والسياسي والحياتي، فهو ينسج خيوطه بدأب ودقة تمامًا كما تفعل صوفيا وهي تغزل على التريكو قطعها الصوفية.. وهو هنا منتج لرؤيا في العالم ورؤيا في الفن ومنتج لخطاب فني موازٍ، كما يقول ميخائيل باختين في كتابه المهم: «الخطاب الروائي».
المنشورات ذات الصلة
قراءة في تجربة العماني عوض اللويهي بين العتمة والماء يتشكل العالم
الشاعر العماني عوض اللويهي يقترح نصًّا مغايرًا، يبتعد من المألوف من خلال مجموعاته الشعرية: «العتمة تفر من ظلالها»،...
«القبيلة التي تضحك ليلًا» لسالم الصقور تشظي الذات بين المواجهات النسقية
يقدم الروائي السعودي سالم الصقور في تجربته الأولى مواجهة نسقية ناقدة، ينتمي فيها الفرد إلى حقبة زمنية موسومة عالميًّا...
«سجادة فارسية» نسيجُها القصائد… مختارات من الشعر الإيراني المعاصر
في ترجمة الشعر تخضع النصوص أو تتحرر. بعضٌ يترجم أعمالًا تشبهه، يختار قصائد ودّ لو كتبها، وإذا اضطر إلى ترجمة قصائد لا...
0 تعليق