كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
تأويل السُّلّم
نصوص
اللانهائي
يجسد السلّمُ، في حالي الصعود والنزول، فكرة اللانهائي، وينبثق عنها
إنه لحظة الممكن، بين جناحي المستحيل:
لا نهائية الصعود تواجه لا نهائية النزول، تحاكيها وتعاكسها لتحكي عنها
صعودُ السلّم يجد متخيّله في نزوله
نزولُ السلّم يجد متخيّله في صعوده
كلُّ سلّم مرآة
وكلُّ صعود أو نزول ذهابٌ لا نهائي في جوهر المرآة.
السلّمُ جسرٌ بين الهنا والهناك، حيث الهناك لا تُرى، في حالي الصعود والنزول، ولا يمكن الوصولُ إليها، نقطة مستحيلة في جغرافيا الحلم والوهم والتحسّب والمستحيل، تتحقّق مع أبعد فكرة تنوس فيها شعلة العقل وتُلقي ضوءًا شحيحًا على العالم، في الدواخل القصية للنفس الإنسانية، المرتفعة منها والمنخفضة على السواء، وفي خوارج هذه النفس، حيث تبدأ فكرتا الصعود والنزول ولا تنتهيان، وحيث يكون الطموح في الاكتشاف لا نهائيًّا، اكتشاف الأعالي والأسافل وما تخبئان.
نهايةُ السلّم توجد أبدًا في العقل، في دورة التصور والخيال.
كلّ سلّم نراه ونستعمله مقتطعٌ من سُلّم أول، فريد، لا نهاية لحديه، يواصل امتداده، في كلِّ وقت، في جهتي العالم، العليا والسفلى.
السلالم، كلُّها، تتكتم على حنينها لروح السُّلّم الأول الذي لم يتخل عن نشدانه المزدوج: صعودًا نزولًا لا نهائيين.
فكرة اللانهائي تقود السُّلّم، على نحو دائم، للتيه والذوبان في استقامة الزمن.
الصعود، ذلك الفعل الجوهري الذي يؤاخي هبوطًا جوهريًّا هو الآخر، فعلان متوافقان في إتقان مربك، ليس سطحيًّا فحسب، بل عميق في توغله في فكرة الزمان المستمر بلا التفات، والمليء مع ذلك بالارتجاعات والالتفاتات.
طبيعة السُّلّم تجعله، بطريقة أو بأخرى، صلبًا ولينًا، ثابتًا ومتحرّكًا، صاعدًا ونازلًا، ليس له أمام وخلف، كل ما يكون على درجاته يغادر الأمام والخلف ويكون في جهة ثالثة، مجردة وجوهرية، تحيا في صلب مطلقها الذي يتخلق من التسلسل غير النهائي للدرجات.
عند هذه النقطة يحين القول: السُّلّم لولبٌ معتدلٌ ينشأ في فراغ ويجعل له قيمة من استمراره الصارم، إن الضبط الهندسي في السُّلّم مدعاة للتفكير في مساحة الرعب التي ينشأ فيها، رعب بارد ينبثق من قوة الشكل الجداري ويقيم علاقة وطيدة معه.
السُّلّم نسق يتجسد في فضاء العمارة مثل شجرة منحنية على نهر.
الشجرة المنحنية: سُلّم.
السُّلّم يأتي بالشجرة والنهر، بالحفيف والزقزقة والخرير، إلى قلب العمارة المصمت الكتوم. درس لا نهائي في العلاقة الفريدة التي يُقيمها السُّلّم مع كل ما ينبثق عنه ويؤدي إليه.
استقبلتُ صديقةً مهاجرة
ذات شتاء، استقبلتُ صديقةً مهاجرةً
وقضينا نهارًا بصريًّا عذبًا، زرنا فيه بعضَ أماكنها الأولى:
إعداديتها العريقة المواجهة لرصيف الميناء، وشوارع فتوتها، حيث سيقان السبعينيات العارية والفساتين المزهرة ذات الكراكيش بعض من الذكرى، وتوجهنا إلى بيت الأسرة المقفل، منذ خمس وعشرين أو أكثر، لم تكن الأسرة قد حسمت أمره، فأوصدت الباب وأمنت المفتاح لدى الجيران، ولأن خمسًا وعشرين مرت، لم نتوصل إلى المفتاح بسهولة، لكننا فتحنا الباب، آخر الأمر، واستقبلتنا، على الفور، رائحة هواء محبوس.
كانت الصديقة المهاجرة تزداد صمتًا مع كل خطوة تخطوها داخل الغرف الخالية متآكلة الطلاء.
في زاوية البيت شبه المعتمة توقفتْ ونظرتْ إلى السُّلّم الحجري، ثم تقدّمتْ ببطء، كما لو كانت تحلم، جلستْ على أولى الدرجات، محاولةً أن تكتم بكاءها، لكنها لم تستطع حبس دموع نزلت في صمت.
دموع صديقتي جعلت كلَّ شيء مرئيًّا .
يأخذنا السُّلّم إلى ذكرياتنا البعيدة، صعودًا أو نزولًا، كما لا يفعل أيُّ مرفق آخر، في بيوتنا المهجورة.
سُلّمُ النهار والليل
ينهمك السُّلّم نهارًا في أفعال الصعود والنزول التي تخطها الأقدام على درجاته، أقدام فتية رشيقة سريعة النقلات، وأخرى كهلة متأنية، كلٌّ منها يترك بصمته فوق درجاته ويغيب في الأعلى والأسفل، ويبقى السُّلّم في وحدته الليلية النهارية، يفكر بما كان من حياة على درجاته، بالأقدام الصاعدة والنازلة، والأيدي الطليقة في فضائه، تحط أو تطير، وبظلال الأجساد، كلٌّ يغيب في نوعه وفي علامة وجوده، القدم في الخطوة، واليد في الإشارة، والظل في انكسار الكتل التي يلمسها الضوء
في هدأة الليل يهب السُّلّم نفسه لما يتبقّى من أصوات.
السُّلّم، في النهار، احتفال، وفي المساء، صدى متلاشٍ وفكرة آفلة.
متاهيّةُ السُّلّم
في كتاب الرموز يحضر السُّلّم بين أقدم الرموز مرة، وبين أحدثها مرة أخرى، ويظهر إلى جوار أشدها غرابة مرة، وأكثرها وضوحًا ومألوفيةً مرة أخرى، يُدهشني ذلك وأعود لتأمل تتابع الرموز من جديد والتفكير بموقع السُّلّم بينها، وأفكر، مع توالي الرموز، أن ليس للسُّلّم موقع واحد محدد ونهائي، وأن التعدد خصيصة سُلّميّة حاسمة، تمنحه موقعًا متصلًا منفصلًا في آنٍ، مع رموز الكتاب وعنها، وأفهم، ربما، أن وجوده الحافل المتكرر في الكتاب يمنحه فرصةً ليكون خارج التتابع المنتظم للرموز، وتلك أمثولة كلِّ واقعة مزدوجة المهام ثنائية الوظيفة والمعنى.
المرور من مستوى إلى آخر، ومن كينونة إلى أخرى، والوصول إلى مستوى وجودي جديد، يجعل من السُّلّم أداةً متاهيّةً، فالرمز الذي يُصعدنا إلى أعلى الطبقات يُنزلنا إلى أدناها، وتُسهم كلُّ وظيفة بين وظيفتيه، في نهاية الأمر، في بلبلة موقعه في كتاب الرموز، وتمنحه الحقّ في جملة ليس لها مثيل: «السُّلّم رمز لمحور العالم»، هكذا ندخل في نظام العالم المتاهي الذي تشكله الوظيفة الثنائية للرمز، إنه أداة الانتقال من الزيف إلى الحقيقة، ومن الحقيقة إلى الزيف، من الليل إلى النهار، ومن النهار إلى الليل، ومثلما تملك رمزية السُّلّم أن تجزّئ مقولاتها، يكون لكل واقعة سلالمها المنفصلة، لليل سلالمه وللنهار سلالمه، للحقيقة سلالمها وللزيف سلالمه.
الوسيلة المثلى للصعود، وسيلة مثلى للنزول، ذلك ما يقوله كتاب الرموز، وما لا يقوله أيضًا.
عينُ السُّلّم
للسلم عين بعيدة دقيقة لامعة كعين الطائر، تبادلك النظر، تدقّق فيك، لو نظرت إليها من أسفل السُّلّم أو من أعلاه، في الحالين تكون هناك ومن حولها يكرّر الجفن الحجري استداراته الحلزونية، في مدٍّ لا ينتهي، ودورة ليس لها اكتمال. عين السُّلّم تتراءى مشفوعةً أبدًا بسحرية المشهد وحلميّته، مأخوذةً بروحه الطقسية وهي تنعم النظر في الكائن الصاعد، أو النازل، في هذا العمق أو ذلك الارتفاع، تقول خطاه الكثير عن الجموع التي صعدت سلالم الزمان تحرسها العناصر في كلِّ عصر، ويقول ظله المرتسم على الجدار.
المنشورات ذات الصلة
برايتون
... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر...
في طريق السفر تخاطبك النجوم
مغامرة صغيرًا كنتُ، صغيرًا جدًّا رميتُ صنارتي إلى البحر اجتمعت الأسماك معًا، رأيتُ البحر! * * * صنعتُ طائرة ورقية بسلك...
بين صحوي وسُكْرها
رغمًا ترددتُ.. لم أسكَرْ ولم أَصْحُ! في كأسكِ البرءُ أم في كأسكِ الجرحُ؟ قصّت جناحي بأفْق الحبّ أسئلةٌ ...
0 تعليق