شاعرٌ شاب، وشاعرٌ كبير
الأول يدرس الثاني ليتخطاه. الثاني يفتِّش في الأول عن دم جديد لأشعاره. شحنةُ ديناميت، مع أقل حَكَّة ستنفجر.
* * *

آرثور رامبو
أرسل آرثور رامبو، حين كان في السابعة عشرة لا يزال (كاذب، يقول كونديرا، خمس عشرة وسبعة أشهر) قصائد إلى تيودور دي بانفيل، لنشرها في مجلة «البرناس المعاصر». أرفق معها رسالة توسُّل أو تذلُّل: «أنا مغمور، لكن ذلك لا يهم، فالشعراء إخوة. أستاذي العزيز، ساعدني، ارفعني قليلًا، أنا شاب، مُدَّ لي يدَك». احتفى بانفيل بالشاعر الصغير الذي «مسَّته ربة الشعر بإصبعها». نشر أشعاره، رحب به في باريس، وأطلق عليه أشهر ألقابه: الرائي.
بعد سنة واحدة، ثأر رامبو من يد بانفيل التي امتدت لمساعدته؛ قطعها. لم يغفر لنفسه الرسالة التي استعطفه بها في لحظة ضعف. لم ينس أنه أضاف لعمره سبعة عشر شهرًا زورًا؛ لئلا يبدو في عينيه طفلًا. المراهق الطائش، انتقم من الوقور المحافظ، بعد أن صار واثق الخطى، «يفرط القوافي من جيبي بنطلونه المثقوبين أثناء تجواله». في قصيدته «ما يقال للشاعر عن الأزهار» يعطيه درسًا قاسيًا في طريقة كتابة الشعر. يقلب الأدوار، ويعلِّمه. يسخر من الزنابق التي تملأ قصائده، ويدعوه إلى الكتابة عن البطاطس. لم يعد يرى في الأستاذ العزيز سوى عجوز حقير، و«أحمق مُعتَّق».
قسوة، أم سُنَّة الحياة؟
الحقيقة أن القسوة سُنَّة الحياة.
إن الزمن والتاريخ والشعر نفسه، لا رامبو فقط، ضد بانفيل. كان من أعظم شعراء عصره، ولا أحد يتذكره الآن. لا أحد يستشهد منه بقصيدة واحدة. على فترات متباعدة، يأتي باحث، ويزيح عنه التراب، ونقرأ اسمه في دراسة أكاديمية. كشاعر عظيم؟ لا، كخادم لعبقرية رامبو. صار مجده كله محصورًا فيما كاله له من شتائم. لا يمكنه حتى، هناك في قبره، أن يعترض، أن يعاتب، أن يطلب فرصة أخيرة ليدافع عن قصائده، أو ليصحح ما بها من خلل، لو كان فيها أيُّ خلل. مُدان بتهمة الشعر إلى الأبد. لن ينال العفو يومًا من قضاة محكمة السنين. لكن هل سيظل رامبو، وهو عظيم بلا شك، منتصرًا إلى النهاية؟ لا أظن، سيأتي دوره. سينزل من القمة في أزمنة قادمة. سيتراجع إلى الخلف، ويتقدم آخرون. سيزيحونه، أو يسفِّهونه. ربما يؤول تمامًا إلى النسيان، أو يكون محظوظًا ونتذكره بسطر أو سطرين؛ مسألة وقت.
ويا له من رعب!
إن أيَّ شاعر، مهما كان عظيمًا في زمنه، لا يمكنه أن يتنبأ بمصيره في المستقبل. ربة الشعر لا قلب لها ولا قانون. غدَّارة. تقدم أبناءها قرابين. يتهيأ لي أنها في لعبة مصالح دائمة مع الزمن: هي تضمن خلودها بخلق شعراء عظام، وهو يضمن أبديَّته بمحوهم.
* * *

قسطنطين كفافيس
اشتكى الشاعر الشاب أفيمينوس لقسطنطين كفافيس من أنه لم يكتب طوال سنتين إلا قصيدة واحدة: «واحسرتاه!.. أرى سُلَّم الشعر عاليًا… عاليًا جدًّا أراه». كفافيس قال له: «هذا الكلام تجديف غير لائق… إن كنت عند أولى الدرجات، فيجدر بك أن تفخر بذلك وتسعد».
حنانُ شاعرٍ كبيرٍ على صغير مبتدئ؟ تشجيع؟
لا، خبث.
يريد أن يستمتع بمجده، وحيدًا في الأعالي، وهو يرى قدمه تتعثر كلما حاول الصعود.
* * *
شتمني شعراء شباب في أمسية. أجسادهم قوية وأصواتهم صاخبة، وأنا عجوز متهالك، أسمع صوتي بصعوبة حين تخرج كلماتي من فمي. صرخوا فيَّ: «أنت الماضي، نشمُّ رائحة تراب في قصائدك، إننا المستقبل». على رغم الجرح، لم أحقد عليهم. ربما كنتُ أشرس منهم في شبابي. صغار. لا يعرفون أن كل جديد يبلى، وكل حديث يصير قديمًا بعد سنة أو سنين. ليس صعبًا أن تلحق ما سيجيء، الأصعب أن تمسك ما فات. روحوا وتعالوا، أنهكوا أقدامكم في المشي، وستعودون لي هنا في نهاية المطاف، هنا في المدفن العظيم للزمن. الفرق الوحيد بيني وبينكم، هو أن قبري قديم، وقبوركم جديدة.
0 تعليق