كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
في ظل الحرب السودانية… ما مصير مكتباتنا الورقية؟
كم كان حزني عميقًا، ومراسلي من الخرطوم ينبئني بما حلَّ بداري من النهب في أحداث السودان، وأنهم ما تركوا لي شيئًا يذكر… فسألته بعفوية: وما حال مكتبتي؟! قال بامتعاض: ليس بها من بأس، غير أن بعض الكتب مبعثرة في الغرفة، فتنفست الصعداء حامدًا، فجاءني صوته مستفزًّا: ومن يحتاج إلى كتاب! لم أشأ أن أبيّن له أني لطول ما عاشرت كتبي، وأدمنت الجلوس بينها، قارئًا أو مقلبًا لصفحاتها؛ أراها أقيم ما في داري من مقتنيات جمعتها منذ طفولتي كتابًا كتابًا، وأعرف أحوالها، ونوع غلاف كل كتاب، وأكاد أذكر ما وضعت من خطوط في بعضها تحت نصوص وعبارات كنت أراها جديرة بمراجعتي لاحقًا، أو مفيدة في بحث أكتبه، أو محاضرة ألقيها.
بعض كتبي، أو قل أكثرها، اشتريتها مما كان يفرش على الأرض في وسط الخرطوم بغير قيمتها، أو مكتبات الكتاب المستعمل في مدينة الرياض، أو من باعة كتب الأرصفة في وسط القاهرة، ولا سيما أمام دار الأوبرا القديمة أو سور الأزبكية، وأظل الساعات الطوال أقلب في معروضات الكتب على تأفّف الباعة، وما أكثر ما أجد في هذه المعروضات من الكتب القديمة أو الحديثة كتبًا نادرة، ومفيدة لي جدًّا؛ وأوشكت بالخبرة أن أميز من يغلي لي السعر حسبما يبدو له من ملابسي أو أسلوبي في السؤال عن كتب بعينها، فإن لم أجد ما يغريني بشرائه انتقلت إلى المكتبات شاريًا، أو قارئًا في مكتبة الجامعة.
لم تكن مشكلتي منحصرة في غلاء أسعار الكتب في المكتبات مقارنة بكتب الأرصفة، أو بُعد المكتبات عن مكان سكني، وما يلزم الانتقال إليها من زمن ومال، بل إنك قد لا تجد في هذه المكتبات بعض ما تحتاج إليه؛ فتضطر إلى أن تنتقل إلى مكتبات الأرصفة لتجد أمامك سيلًا مما تبحث عنه أو مجموعة من الكتب النادرة؛ ذلك أن غالب مصادر كتب الأرصفة من مكتبات خاصة لبعض العلماء أو المثقفين الذين أنفقوا كثيرًا من المال في تجميع تلك الكتب، وتركوها بسبب موتهم أو فقرهم فتخلص منها الورثة بأقل من سعرها كثيرًا، وقد يكون بعض مصادر هذه المكتبات من طلاب علم استنفدوا حاجاتهم من مراجع مهمة؛ فتخلصوا منها ببيعها.
الكتاب في قيمته العلمية، ويغلو عندي بحسب حاجتي له، ولا أفكر إذا ما اشتريت كتابًا أن أزين به جدارًا في داري، بل إن زينة الجدار عند زوجتي الحبيبة أن يكون خاليًا من الكتب ونحوها. وهي تعرف، كما أعرف، أن لا حاجة لزوارنا مما نمتلكه من الكتب، قد يكتفي بعضهم بتقليبها، وقد يقرأ منها عنوانًا، ثم يسألك عن بعض أخبار السياسة أو السوق، ثم يعود إلى مقعده بعد أن ينفض يديه.
مهارات التحرير العربي
آلمني مرة أن وزير التعليم الإقليمي كان يزور محليتنا، فلما عرّفوه بي طلب مني أن أهديه كتابي «في مهارات التحرير العربي»، وأن أكتب له إهداءً مني له، ففعلت سعيدًا، فلما انفض الحفل وجدت كتابي حيث وضعته. من الجانب الآخر ظللت أبحث عن كتاب شرح العكبري لديوان المتنبي لرسالة كنت أعدها، حتى وجدته بحالة جيدة معروضًا على الأرض أمام الجامع الكبير في وسط الخرطوم، فضبطت نفسي حتى لا يشعر البائع مدى اهتمامي به، ونجحت الخطة إذ لم يساومني في سعره كثيرًا، ولو أغلاه لي لكنت اشتريته لحاجتي له. في تلك الأيام كنت قد نقلت بخط يدي «كتاب الصناعتين» لأبي هلال العسكري، ومجموعة ضخمة من النصوص الشعرية مشكَّلة من كتاب «يتيمة الدهر» للثعالبي، بأجزائه الأربعة؛ لما حوته من نصوص لمجموعة من شعراء القرن الرابع للهجرة، ولم أحزن كثيرًا لما بذلته من الوقت والجهد في نسخ كل ذلك؛ لما وافاني صديق بهذه المصنفات فيما بعد.
وقد تيسر لنا اليوم عدد هائل من المراجع الإلكترونية، ويصيبني النهم لكي أضيف مجموعة طيبة من المراجع يومًا بعد يوم إلى ما عندي من المراجع في الحاسب الآلي، ويسرت لنا المكتبة الشاملة، جزى الله القائمين عليها خيرًا، مجموعة بلغت رقمًا ما كنت أحلم أن أجده في مكتباتنا، وكذلك الشأن فيما يتوافر لنا في الشبكة العنكبوتية من مواقع الكتب والرسائل؛ لا من حيث السهولة في الاستفادة من أي كتاب فيها أو نسخ أي نص منها؛ ومع كل ذلك فإن هذه الكتب والأبحاث الإلكترونية لا تقدم لي ما كانت تقدمه النسخ الورقية من المتعة في التصفح، وتقليب الصفحات، وقراءة الفهرست ونقل النص، وحبذا إن وجدت فيما تتصفحه غبارًا؛ فإنك واجد حين تنفض عنه ما ران عليه منه، ما تشعر به من الحنو وأنت تنفض عن طفلك ما علق به من آثار اللعب.
وفي الوقت الذي حظينا فيه بما وفرته شبكات الإنترنت من الكتب والمراجع، ارتفعت تكلفة طباعة الكتب لارتفاع قيمة مواد الطباعة، وضعف العائد من الطباعة بالنسبة للكاتب ودور النشر، وعدم إقبال القراء لشراء الكتب إلا ما كان ضروريًّا في دراسة أو إجراء بحث؛ فاتجه كثير من الكتاب إلى النشر الإلكتروني مجبرين؛ فهل ستصبح المكتبات الورقية عبئًا ينبغي التخلص منها؟ وما مآلات ذلك على المؤلفين، وما يترقبونه مما يمكن أن يدر عليهم ماديًّا؟ وكيف لهم أن يتصرفوا في حقوقهم المالية من ريع مصنفاتهم؟ وغيرها من الأسئلة…
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق