كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
دولة واحدة أم اثنتان؟
مقال استكشافي في مقترح حنة أرندت لحل النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي
يستكشف هذا المقال آفاق حَلَّيْنِ كلاسيكيين للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي، وهما حل الدولة الواحدة وحل الدولتين. بدلًا من التركيز على الظروف التاريخية والأحداث التي أدت إلى ظهور هذين الحلين، سأحاول التركيز في هذا المقال على مزايا وعيوب كل منهما. أخصص الجزء الثاني من هذا المقال لاقتراح حنة أرندت لإنهاء النزاع، الذي يمكن العثور عليه في كتاباتها الأولية حول ما يسمى «المسألة اليهودية». سيستكشف هذا المقال اقتراح أرندت في ضوء واقع النزاع الحالي.
هناك حلان واسعان جدًّا كما أشرنا، يتخللهما كثير من التفاصيل، في التفكير الحالي بشأن حل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، على الرغم من كون أحدهما أكثر شهرة من الآخر. الحل الأول، وربما الأكثر شهرة، هو حل الدولتين، بينما الآخر هو حل الدولة الواحدة. يعني حل الدولتين إنشاء دولتين مستقلتين، فلسطين وإسرائيل، وذلك بالنظر إلى أن كل الأطراف المعنية بهذه القضية ترغب بالفعل في قيادة وحكم دولتها الخاصة بطريقة مختلفة: الإسرائيليون يرغبون في دولة يهودية، ويرغب الفلسطينيون في دولة فلسطينية. وبالنظر للتناقضات الكثيرة بين تصورات كلا الفريقين، يكون الحل العقلاني هو توفير دولة مستقلة لكل منهما. نجد جذور هذا الحل في قرار الأمم المتحدة الصادر عام 1947م.
حل «الدولة الواحدة»، من جهة أخرى، ينظر إلى إنهاء النزاع الفلسطيني الإسرائيلي من خلال إنشاء دولة فيدرالية أو كونفدرالية تشمل النطاق الجغرافي لإسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية. يتضمن هذا الحل بالضرورة فقدان الإسرائيليين لحلمهم بدولة وطنية لليهود، وفقدان الفلسطينيين لحلمهم بالاستقلال والدولة الوطنية. والحال هو أنه، وبالنظر للسياسات العنيدة والمستمرة التي تمارسها الحكومة الإسرائيلية، ورفضها لتحديد حدودها، يبدو أن الحديث عن أي شكل من أشكال السلام مستحيل بالفعل. تقودنا تقريبًا كل تأملاتنا حول حل هذا الصراع الذي استمر لأكثر من 70 عامًا دائمًا إلى هذين الحلين، إلا أن المشكلة الحقيقية هي أن الواقع اليوم يجبرنا على إدراك مدى عدم جدواهما. انفصال هذين الحلين عن الواقع -هذا الواقع الذي خلقته إسرائيل على الأرض- كان أمرًا متوقعًا من حنة أرندت نفسها في أربعينيات القرن المنصرم، وربما توقعت ثبوته إلى حد كبير: فلقد تسبب تقسيم فلسطين في تدمير الكيان العربي الفلسطيني، أما ضم إسرائيل الفعلي للضفة الغربية فقد عرقل وشل سلطة الفلسطينية عن أداء دورها كدولة ذات سيادة مستقلة.
الواقع الحالي أكثر تعقيدًا من ذلك التي شاهدته أرندت لاحقًا، فلم تتوقف إسرائيل قط عن الاستيلاء على أراضي فلسطين، وفي كل مرة تفعل ذلك، نجدها تطالب العالم بتأكيد حقها في الوجود، وتلغي هذا الحق بوعي وإصرار عن الفلسطينيين. تقلصت الحلول التقليدية إلى حل واحد: دولة واحدة، إسرائيل، بنيت بالكامل على أنقاض فلسطين المدمرة. كان هذا هو الحال البائس وبكل قبحه منذ عام 1948م حتى اليوم، وإذا استمر الحال على هذا النحو، ستمحى فلسطين من الوجود، وسيصبح الفلسطينيون بلا مأوى، محاصرين في قطعة جغرافية بلا هوية، بلا دولة، في دولة تمارس طغيانها المطلق برفض حقهم في الوجود. ذلك ما صرح به بالفعل من قبل روبرت إتش سيري، منسق الأمم المتحدة السابق لعملية السلام في الشرق الأوسط في عام 2012م: بعد انتقاده بناء المستوطنات المستمر، قال سيري: «نحن قد نتجه فعليًّا نحو واقع الدولة الواحدة».
فحص سريع للأدبيات حول موضوع حل الدولتين يكشف أنه عندما يُرفَضُ عادةً، فإن ذلك يتم في الواقع للأسباب التالية:
أولًا– الصهاينة ومعظم الإسرائيليين اليوم ليس لديهم أدنى شك في أن ما يريدونه حقًّا هو كل فلسطين، وأن جميع تلك الحجج الضعيفة، التي تعطل التفاوض وتحوله إلى «عملية» مستمرة دون نهاية، هي مجرد مماطلة وعبث لشراء الوقت دون إجراءات فعلية. فشل «عملية السلام» هو إشارة واضحة لهذا النية.
ثانيًا– حل الدولتين هو حل تدميري لترابط البشر وتحطيم للجغرافيا؛ ذلك أنه يقسم الناس ويحول هذه المنطقة الصغيرة إلى ما يشبه الجبن السويسري.
ثالثًا– لن يتنازل الفلسطينيون أبدًا عن حق العودة لما يقرب من مليون لاجئ من الشتات، ولن توافق إسرائيل على عودتهم؛ لن يقبل الإسرائيليون أبدًا أن يكونوا أقلية أمام الفلسطينيين.
رابعًا– المسلمون والمسيحيون واليهود أو حتى العلمانيون الذين يهتمون بأي تمثيل في أي حكومة لن يتخلوا عن فكرة حكم القدس إما جزئيًّا أو كليًّا. ستظل القدس دائمًا مشكلة مركزية لجميع الأطراف.
خامسًا– يقيم أكثر من 400.000 مستوطن يهودي بشكل غير قانوني في الأراضي المحتلة، ويتمسكون بعدم مغادرة مستوطناتهم بأي ثمن. يمكن أن يكون هذا أحد أهم العوامل التي تعوق حل الدولتين.
سادسًا– تبدو إسرائيل اليوم كأنها ثكنة عسكرية، حيث يرفض جناحها العسكري السماح بأي شكل من السيادة للفلسطينيين كدولة جارة: فلسطين، الدولة الناشئة والجديدة، إذا سمح لها بالوجود، فلن يسمح لها بالحصول على مطار دولي أو مطار خاص؛ لن تتمكن من إنشاء أي قوة عسكرية يمكن أن تشكل تهديدًا لإسرائيل، ولا حقوق مائية ولا وصول إلى البحر بأي ثمن.
سابعًا– استقبال أي أمر، أو أي اقتراح، لإزالة أي مستوطنة اليوم، سواء كانت قانونية أو غير قانونية، يكون بقلق كبير وربما بالتشكيك من اليهود لأنه يذكرهم بالشتات والهولوكوست. وهذا ينطبق أيضًا على جميع اليهود في جميع أنحاء العالم.
ثامنًا– الوضع الحياتي اليومي في الأراضي الفلسطينية سيئ جدًّا، قاسٍ وصعب جدًّا، وهو وضع سيُفهم على الأرجح دائمًا من وجهة نظر الفلسطينيين كنتيجة للاحتلال الإسرائيلي. إن حل الدولتين، إذًا، هو على الأرجح مشروع هش، بالنظر للتهديد المستمر للوجود الفلسطيني.
واقع دولي شديد التعقيد
لماذا اقتراح حنة أرندت؟ قد يدفعنا الواقع المخيف لدولة فلسطينية من خلال حل الدولتين إلى التفكير «خارج الصندوق» قليلًا. وعلى الرغم من التحديات التي تواجه مشروع الدولة الواحدة – ثنائية القومية، أعتقد أن إعادة النظر فيه قد يبدو أمرًا مستحقًّا. نواجه اليوم واقعًا دوليًّا شديد التعقيد، وهناك العديد من الإشارات إلى ذلك:
أولًا– المجتمع الدولي اليوم غير قادر على الاعتراف ناهيك عن القيام بأي عمل فعلي يوقف التدمير الممنهج لفلسطين، نقول ذلك على الرغم من أن مشهد النظام الدولي بدأ يظهر بعض علامات التغيير.
ثانيًا– هذا الصراع الذي نشاهده أمامنا هو صراع من نوع فريد: فمع تصاعد الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، يدرك كل من الطرفين بشكل ضمني أنه من المستحيل أن يقضي أحدهم على الآخر؛ يعلم كل طرف في قرارة نفسه أنه يجب عليهما في نهاية المطاف التوصل إلى اتفاق.
ثالثًا– من جهة أخرى، أدى تصاعد الأحداث في السنوات الأخيرة وصولًا إلى أحداث غزة، إلى اعتقاد جميع الأطراف أن العنف هو الوسيلة الوحيدة، وللأسف، الوسيلة الشرعية لحل النزاع. العنف، كما نرى كل يوم، قد يؤدي إلى دمار كل الأطراف المتنازعة.
في هذا السياق لا بد لنا من أن نتذكر رصاصة الرحمة التي أطلقها الرئيس الفلسطيني محمود عباس لعملية السلام الميتة تقريبًا والتي بدأت منذ نحو 30 عامًا. نحن أمام انهيار فعلي رسمي للتفاوض بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وازدياد للهوة بينهما وبين أي إمكانية للحوار مرة أخرى خاصة بعد الأحداث الأخيرة في غزة. في مثل هذه الأوقات، سنجد على الأرجح صدى لدعوة حنة أرندت إلى حوار جديد وحل جديد، أو بكلماتها الخاصة: بداية جديدة. بعد 30 عامًا من المفاوضات السلمية التي لم تفلح، تحول انتباه العديد من العلماء إلى كتاباتها الأولية في الأربعينيات، وتحديدًا إلى انتقاداتها للصهيونية واستماتتها لإقامة دولة يهودية.
حنة أرندت، لمن لا يعرف سيرتها الذاتية، سافرت بعقلها بين العديد من «الجزر» الفكرية. بدأت حياتها بأسئلة فلسفية محضة، وهذا ليس مفاجئًا بالنظر لخلفيتها الأكاديمية، فهي قد استمدت التقاليد الفلسفية الألمانية من خلال تعليمها في الجامعات الألمانية. كانت طالبة مميزة وعاشقة للفيلسوف مارتن هايدغر في ماربورج، ولاحقًا في هايدلبرج كانت تلميذة وصديقة لكارل ياسبرز مدى الحياة. تحت إشراف ياسبرز، كتبت أطروحتها الدكتوراه الأولى حول «مفهوم الحب عند القديس أوغسطين». في معظم الوقت الذي قضته في الجامعات، لم تظهر أرندت أي اهتمام بالمسائل السياسية. ولكن وبمرور الوقت، وبخاصة بعد هروبها من ألمانيا النازية في عام 1933م، تحولت حنة أرندت إلى الفيلسوفة السياسية الكبيرة في القرن العشرين. كان لها إسهام كبير في الفلسفة السياسية والاجتماعية بالقرن العشرين، وعملها ما زال يُدرس ويُقرأ في العديد من الجامعات حول العالم. رفضت حنة أرندت تصنيف نفسها في أي تيار فلسفي أو سياسي، ومن خلال دراستها وتأملاتها في النازية والتيارين الشيوعي والرأسمالي، والسيطرة والسلطة، قدمت نظرة نقدية وعميقة للطبيعة الإنسانية والمجتمع. كان صعود النازيين للسلطة في ألمانيا هو الحدث الذي حولها للفكر السياسي، أو بتعبير آخر، الحدث الذي جعلها قادرة على مواجهة حقيقة «يهوديتها»، كما أخبرتنا في لقاء متلفز معها. لقد كان الموقف النازي ضد اليهود، فضلًا عن الأقليات الأخرى، هو ما جعلها تولي اهتمامها شطر السياسة و«العمل». في وقت لاحق، شاركت بشكل مكثف في السياسة اليهودية والصهيونية كعضو فعّال ومتحمس. في منتصف كل هذه الأحداث، أعلنت أرندت انفصالها عن جميع أشكال التفكير الفلسفي التقليدي: «غادرتُ ألمانيا [هربًا من النازيين] تسيطر عليّ فكرة… لن أعود لها مرة أخرى! لن أتورط أبدًا في أي نوع من الأعمال الفكرية. لا أريد أن أتعاطى معها على الإطلاق». هذه المدة التي قضتها مشاركة في السياسة اليهودية أسفرت عن عدد من المقالات حول ما يسمى «المسألة اليهودية»، وأجزاء من عملها الشهير، «أصول الشمولية».
الكتابات الأولية
سأقوم بالتركيز هنا على هذه الكتابات الأولية حول المسألة اليهودية والصهيونية التي بدأت في عام 1937م، واستمرت لما يقرب من عقد كامل. كانت انتقادات أرندت للفكر الصهيوني تتجه في ثلاثة اتجاهات: أولًا- الرؤية الصهيونية لمعنى أو جوهر مصطلح «الشعب اليهودي». ثانيًا- رؤيتها للوجود الفعلي للعرب في أراضي فلسطين. ثالثًا- غياب سياسة يهودية مستقلة عن القوى الإمبريالية الكبرى في العالم. سأحاول أن ألقي نظرة تفصيلية على الاتجاهين الأول والثاني، فهما يتعلقان بموضوعنا بصورة أكبر. بالنسبة للرؤية الصهيونية لمعنى ومستقبل الشعب اليهودي، انتقدت أرندت مفهوم الدولة القومية الصهيونية وعدّتْها شكلًا فظًّا وبائدًا للدولة. بل وصفت أولئك الذين اعتنقوا هذه الفكرة بأنهم «الفاشيون الجدد»، مشيرة إلى أولئك الذين يلتزمون بإقامة دولة قومية يهودية/عرقية. ضد هذه الرؤية القومية، اقترحت أرندت إقامة فيدرالية أو كونفيدرالية عربية-يهودية في فلسطين، استنادًا إلى الاعتراف بتعددية الأفراد وضمان حقوقهم المتساوية.
كان التفكير في «دولة يهودية» من وجهة نظر الأيديولوجيا الصهيونية، بالنسبة لأرندت، رد فعل خاطئًا على معاداة السامية في أوربا؛ إذ إن مثل هذه الدولة اليهودية ستمارس العداء نفسه الذي عاناه اليهود ولكن ضد العرب هذه المرة. أرندت اعترفت بأن مثل هذه الدولة القومية يمكن إقامتها فقط من خلال القوة، وبحق، لأنه لا يمكن لأي شعب أن يقبل بسرقة أرضه، أو أن يصبح بلا وطن فجأة، أو على أفضل تقدير، مواطن من الدرجة الثانية. فرض دولة قومية يهودية بهذا الشكل سيؤدي فقط إلى استمرار العنف. تنبأت أرندت بأنه حتى مع فرض فوز اليهود في الحرب، فإنهم سيتحولون إلى: «واحدة من تلك القبائل الصغيرة المحاربة التي لطالما كتب التاريخ عنها وعن إمكانياتها وأهميتها منذ أيام إسبرطة… هكذا، يصبح واضحًا أنه في هذا الوقت وفي ظل الظروف الراهنة يمكن إقامة دولة يهودية فقط على حساب وطن لليهود».
لا تحتاج إلى كثير من الحجاج لتقنع نفسك بواقعية تنبؤات أرندت؛ كل ما تحتاج إلى القيام به هو المشي في أي شارع من شوارع إسرائيل لترى الجنود المسلحين في كل مكان. ثبتت أرندت في مواجهة مطالب الصهاينة بإقامة دولة يهودية على أراضي فلسطين، وبسبب إنكار حقوق تلك الشعوب الأصلية دعت إلى دولة ثنائية القومية. فكرة الدولة ثنائية القومية ليست جديدة، بالطبع، فلقد سبقها لها بعض الكتّاب اليهود مثل يهودا ليون ماغنس، جيرشوم شوليم، مارتن بوبر وغيرهم، إضافة إلى بعض الجمعيات مثل بريت شالوم. كانت هذه الفكرة، ثنائية القومية، بالنسبة لأرندت تعني فصل الدولة عن الدين والهوية الوطنية.
كتب يوسف منير في صحيفة النيويوركر، متأثرًا بتلك الفكرة الأرندية ومؤيدًا لحل بدولة واحدة: «الواقع الآن هو أن هناك دولة واحدة. المشكلة هي أنها تأخذ شكل الفصل العنصري. ما زالت المليارات تلو المليارات متدفقة باندفاع لمشروع الاستيطان الإسرائيلي، ويتم استغلال الموارد الطبيعية بشكل غير قانوني. يتم أخذ المزيد والمزيد من الأرض من الفلسطينيين، وخطط البنية التحتية الإسرائيلية تتسع. كل شيء في سلوك الدولة الإسرائيلية يشير إلى أنها ليس لديها أي نية لمغادرة الضفة الغربية».
وبالنظر إلى عدم جدوى حل الدولتين وعدم تقدمه على الإطلاق، يقترح منير أن نأتي إلى اعتراف عملي وعقلاني بأن ما لدينا في الواقع، هنا والآن، هو «مشكلة دولة واحدة»، وأن هذا الاعتراف هو «المفتاح إلى السلام» – كل ما نحتاجه في هذه الحالة هو تغيير للنظام القائم في هذه الدولة. وتمشيًا مع الروح الأرندية، نجده يؤكد أن الخطوة الأولى في هذا التغيير هي إنهاء التمييز القانوني بناءً على العرق أو الدين في جميع أنحاء هذه البقعة الجغرافية. يجب أن يكون الفلسطينيون جزءًا أصيلًا وأساسيًّا في صياغة شكل الدولة المستقبلية التي سيعيشون فيها، ويمكنهم القيام بذلك على قدم المساواة أمام القانون مع نظرائهم اليهود، وليس وهم تحت الاحتلال العسكري.
هناك مشكلة تتعلق بصعوبة تصور أو تخيل حل لهذا الصراع من خلال دولة واحدة ثنائية القومية. السبب الرئيس وراء ذلك هو أن الخطاب، والصراع الفلسطيني-الإسرائيلي الأخير قد وصل إلى مستوى من التناقض أصبح معه من الصعب جدًّا الحديث عن تصالح أو تسوية. ربما كان استنتاجًا منطقيًّا لافتراضات صهيونية راسخة: فقد أُعمي الصهاينة عن حقيقة وجود شركاء آخرين على الأرض نفسها، ولم يُعَدُّوا مساوين لليهود على الإطلاق. شرحت أرندت ذلك من خلال بعض الأحداث التاريخية: البرنامج الصهيوني الأول في عام 1942م، الصادر في بيلتمور، دعا إلى إقامة كيان يهودي في فلسطين، أما برنامج أتلانتيك سيتي الذي تلاه، فقد أشار إلى تأسيس كيان يهودي حر يغطي كامل أراضي فلسطين دون تقسيم. في البرنامج الأول، مُنِحَتْ حقوقُ الأقلية للأكثرية العربية؛ في البرنامج الثاني، لم يُذكَر العرب على الإطلاق! كان هذا الإغفال للفلسطينيين، كما اعتقدت أرندت، عائدًا بشكل رئيس للطابع الأيديولوجي المتزايد للصهيونية الذي ترافق مع انفصالها عن العقلانية والواقع.
فكرة حالمة
ولكن يبدو أن المشكلة أعمق من مجرد مطالب فلسطينية وصهيونية؛ المشكلة هي مشكلة أرض، الأرض التي يزعم فيها كل طرف في الصراع أنها حقه. نعلم جيدًا أن أحد الأطراف قد خسر الحرب، ولكن الصراع لم ينته حتى اليوم. الحقيقة هي أنه بعد ما يقرب من سبعين عامًا من النزاع، لم تكن هذه الأرض أو الدولة المستقلة لليهود مستقلة تمامًا، وتجد نفسها يومًا بعد يوم محاصرة في شبكة كبيرة من غير اليهود. مشكلة الأرض مرتبطة بمشكلة أكثر تعقيدًا هي مشكلة الهوية: يرغب الفلسطينيون في الحفاظ على هويتهم العربية بأي ثمن، نظرًا لوجودهم في قلب المنطقة العربية-الإسلامية التي يرغبون في رؤية أنفسهم جزءًا منها، واليهود يرغبون في دولة يهودية كما تصورتها الصهيونية تمامًا. السؤال المركزي بالنسبة لأرندت، في اعتقادي، كبديل لحل بدولتين، هو الحاجة إلى التفكير في إطار دولة ثنائية القومية، في التفكير في إمكانية التعايش السلمي بين اليهود والعرب في شراكة تستند إلى المساواة في الحقوق. أعتقد أنها أرادت حقًّا تقديم بديل ربما شكل تحديًا لعقولنا، بديل يستند إلى استحالة التخلص من الآخر، بديل ينظر إلى بناء مؤسسات ديمقراطية وعدالة انتقالية ودستور جديد. أما عدم القدرة على التخلص من الآخر فلقد أصبح على أي حال قناعة متزايدة نلمسها بين الفلسطينيين والإسرائيليين يومًا تلو الآخر. الخبير في تاريخ اليهود في جامعة بن غوريون، أمنون راز كراكوتسكين، قد يكون محقًّا في عَدِّه هذه الرؤية الأرندية أن «لها خصوصيتها الزمنية المحددة التي لا تجد لها معنى أو أهمية خارج إطار ذلك التاريخ». وفي رأيه، فإن حل الدولة الواحدة لأرندت هو «فكرة حالمة لا تعكس الواقع… لا يمكن أن تكون أكثر من إسهام ثقافي». ومع ذلك، أعتقد أن استنتاجات كراكوتسكين متسرعة إلى حد ما، ففي الواقع يبدو أن هناك كثيرًا من الأمور التي ينبغي أخذها في الحسبان قبل التوصل لمثل هذه الاستنتاجات.
أولًا– هناك العديد من المثقفين والنشطاء الإسرائيليين والعرب اليوم الذين يشعرون بالاستياء تجاه التأثير القوي لبعض الأحزاب الأرثوذكسية والراديكالية في السياسة الإسرائيلية والعربية، وقد دفعتهم هذه الاعتقادات إلى التجمع حول فكرة مجتمع إسرائيلي علماني حقيقي تُمنح فيه حقوق المواطنة للجميع.
ثانيًا– هناك العديد من الإسرائيليين اليهود الذين يتحدثون ويكتبون حول أهمية الدخول في مرحلة «ما بعد الصهيونية»؛ فبعد ما يقرب من 70 عامًا من تاريخ إسرائيل، لم تقدم الصهيونية التقليدية حلًّا للفلسطينيين، ولم توفر وجودًا إسرائيليًّا مستقلًّا.
بروح أرندية، يكتب إدوارد سعيد: «لا أرى سوى البدء الآن في التحدث عن مشاركة الأرض التي حشرنا فيها معًا، مشاركتها بطريقة ديمقراطية حقيقية، بحقوق متساوية لكل مواطن. لا يمكن أن يكون هناك تصالح ما لم يقتنع شعبانِ، اجتمعا في معاناة تاريخية طويلة، بأن مسألة وجودهم هي مسألة علمانية، ويجب التعامل معها على هذا النحو».
البدائل بسيطة من وجهة نظر حنة أرندت ولكن بشكل غير سار: إما أن تستمر الحرب أو البحث عن مخرج يستند إلى السلام والمساواة، كما حدث في جنوب إفريقيا بعد نظام الفصل العنصري، على الرغم من العقبات الكثيرة. بمجرد أن نقر بأن الفلسطينيين والإسرائيليين هم هنا للبقاء، فإن الاستنتاج اللائق يكون ضرورة التعايش السلمي والمصالحة الحقيقية.
هوامش:
- https://dppa.un.org/en/security-council-briefing-situation-middle-east-special-coordinator-middle-east-peace-process-0
- http://www.arendtcenter.it/en/tag/gunter-gaus/
- Arendt, Hannah, To Save the Jewish Homeland: There is Still Time, Commentary Magazine, May 1948.
- Munayye, Yousef, Thinking Outside the Two-State Box, The New Yorker, September 20, 2013.
- Amnon Raz-Krakotzkin, Jewish Peoplehood, “Jewish Politics,” and Political Responsibility: Arendt on Zionism and Partitions, College Literature, Vol. 38, No. 1, Arendt, Politics, and Culture (Winter 2011), p. 62. Published By: The Johns Hopkins University Press.
- Said, Edward, The One-State Solution, The New York Times Magazine, Jan. 10, 1999.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق