كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
قراءة عمودية في فكرة الحب عبر ثقافات مختلفة
إن أي قراءة في المشتركات الإنسانية الكبرى ستكون عرضة في دراستها إلى مستويات عدة من الأحكام، التي ستكون النسبية فيها حاضرة بشكل كبير، فأي قياس لشكل من أشكالها يستوجب قياسها بمثيل لها يلتقيها أو يخالفها في الظروف. وهذا الأمر سينطبق بشكل من الأشكال على ما تعارف الناس على تسميته «الحب». وقبل شروعنا في الحديث عن الحب سيكون من المهم أن نحاول ضبط الأمور. وعليه من المنطقي أن نحاول تعريفه، وتعريف الشيء كما نعلم لا يتأتى لنا بشكل واضح إلا إذا استطعنا كشف هذا الشيء والقبض عليه.
سأحاول أن أستعرض معكم مجموعة من التعاريف لفكرة الحب من ثقافات مختلفة، وتواريخ متباعدة لنرى مستويات إدراك الإنسان لهذا المفهوم الكبير. ولكن الحديث عن صعوبة تعريف الحب، أو المحبة، تحدث عنها كثيرون في التراث الإنساني عامة، ولعلنا نستحضر (سمنون المحب)(١) ذلك العاشق البغدادي المتوفى تقريبًا سنة 298هـ؛ إذ قال: «لا يعبر عن شيء إلا بما هو أرق منه، ولا شيء أرق من المحبة، فما يعبر عنها؟!»، وهذا يؤكد أن إدراك استحالة القبض على فكرة الحب كان اعتقادًا قديمًا وراسخًا.
تاريخية الحب
إن المتأمل في التاريخ البشري وتطور أخلاقياته سيلمح أن الفعل البشري كان رهن محركين أساسين بحسب «سيغموند فرويد» وهما غريزة «الإيروس» أو الحب، وغريزة «الأنوناكي»(٢) أو الهدم، فالأولى هي التي تحض على البناء وتحفز الخلايا على الارتباط والاكتمال والاتساق فيما بينها، وبالتالي هي التي توجه الأضداد باتجاه بعضها الآخر. ونستطيع أيضًا أن نصفها بأنها غريزة التجمع والإعمار وهي علة تكوين المجتمعات والتجمعات البشرية. أما الثانية فهي مضادة لغريزة «الإيروس» وهي تتمثل في اندفاع الفكري نحو الموت وهي تحض على الانفصال، والتوحد، والانطواء وبالتالي تشكل دائمًا نقطة تحلل في المجتمعات. وهي أيضًا تعبر عن شهوة الصراع، والحرب، والنزاع.
ومن المهم أن نشير إلى أن الوحشية التي عُرف بها الإنسان شكلت بحسب علماء الأنثروبولوجيا 99% من تاريخ البشر وتسمى مرحلة «ما قبل التاريخ» و1% لكل هذه الثقافات التي نشأتْ، ثم الحضارات. وأقول ثقافات لأننا لا يمكن أن نطلق على مجرد تجمع بشري ما لفظة حضارة، حتى وإن ظهرت بعض الممارسات لذلك. وهو ما يعني أن كل تاريخ الأخلاقيات، وكل ما قيل عن قيمة النوازع الباطنية للإنسان كالضمير، والعدالة، والإيثار هي لا تمثل إلا هذا الـ 1% من تاريخ الإنسان بما في ذلك فكرة الحب. ولكن الغريب في الأمر أن بعض هذه القيم لم تتقدم تلك الخطوات الهائلة التي كان يجب أن تتقدمها استنادًا لكل هذه الحقبة الطويلة. ولعل هذا ما حدث مثلًا للحب.
والحقيقة أن موضوع الحب شغل الحكماء، والمعلمين القدامى منذ عصور ما قبل اختراع الكتابة. نقرأ مثلًا في كتاب مهم في أنثروبولوجيا الحب والجنس.. كتاب يدعى «الحب الأسود» لـ«بوريس باراتي» يُرجع فيه انشغال المفكرين بتدوين عادات وتقاليد الحب والجنس، لما قبل الألف الرابعة قبل الميلاد، بل يقول في مقدمة كتابه: «إن الموضوع أقدم مما قد يتخيل البعض. فعاطفة الحب هي التي أدت لوجود القبائل، وليست الطواطم المعبودة، كما قد يتخيل البعض وبالتالي هي التي خلقت النواة الأولى للمجتمعات القديمة وهي القبيلة». وتأكيدًا لكلامه يمكن أن نقرأ شواهد ونصوصًا لما كُتبَ في العصر الحجري الحديث «النيوليثي» (Neolithic) 9000-4500 ق.م ونجد فيها أفكارًا وتصورات عن العشق، والغيرة، واشتهاء الجسد، تمامًا وكأنها كُتبتْ الآن.
وهناك ميثولوجيا شهيرة ومهمة تنتمي لحقبة ما بعد «النيوليث» وهي قصة «إيزيس» و«أوزوريس». وهي لا شك قصة حب جميلة، وتثري المخيال الجمعي، وتجمع أفكارًا مهمة عن أبدية الحب، وقيم الإخلاص، والوفاء، وأن الحب مهما واجهته مصاعب وعثرات يمكن له أن ينبعث من جديد كما يحدث لطائر الفينيق. ويمكن أن نلخص القصة بالتالي: أن أوزوريس كان يحكم مصر وكانت زوجته إيزيس، وكانت بينهما علاقة حب قوية جدًّا وحدث أن اغتال «ست» شقيقَه «أوزوريسَ»؛ ليستولي على العرش، وأخفى جثة «أوزوريس» عن إيزيس، ولم تمل إيزيس من البحث عن جثة زوجها التي وجدتها في مدينة «جبيل» اللبنانية، وأفلح «ست» بعد ذلك في سرقة الجثة وتقطيعها اثنين وأربعين جزءًا وتوزيعها في أماكن مختلفة في مصر. وتحكي الأسطورة أن إيزيس استطاعت أن تجد هذه الأجزاء، بل تحبل منها في بنية خرافية واضحة للقصة لتنجب بعد ذلك «حورس».
ويمكن لمن أراد الاستزادة أن يعود لما كتبه «جيمس هنري بريستد» في كتابه «فجر الضمير». ولكن لنقرأ بعض هذه النصوص معًا ونتأمل التعابير التي وردت فيها. تقول الحبيبة في بردية هاريس: «كما يذوب الملح في الماء، كما يختلط الماء باللبن، حبك يتخلل كياني، يسري في وجداني، فلتسرع إليَّ كصقر ينقض من السماء، كجواد يركض، أو كثور هائج، لتسرع إليَّ فمحبوبتك في انتظارك». فيجيبها حبيبها الذي يشبه نفسه بالطائر البري: «شفتا حبيبتي برعم لوتس، ونهداها ثمرتا رمان، وذراعاها كرمة، وعيناها توت أسود، وحاجباها فخ، أنا الطائر البري، يلتقط طعم شعرها الفاحم، مجذوب إلى فخها دون تردد».
ونقرأ أيضًا ما يقوله عاشق مصري قديم في مجموعة من ورق البردى الموجودة في متحف القاهرة: «حبيبتي على ضفة النيل الأخرى، وبيني وبينها النهر والتماسيح، ولكني سأخوض الماء وأتحدى التماسيح، فحبك يمنحني القوة والشجاعة. أنتظرك يا معبودتي في شوق عارم، وعندما أسمع خطواتك، يقفز قلبي بين الضلوع. عندما يضمني ذراعك وتحتضنيني، يصيبني الخدر، وأهيم في عالم آخر، في حديقة فواحة بالزهور، بعيدًا، في البلاد أتمنى لو كنت مجرد خاتم لإصبعك الصغير، حتى يتسنى لي ملامسة أناملك في خلسة من الآخرين». وفي إحدى برديات «تشستر بيتي» يقول الشاعر العاشق: «حبيبتي بلا نظير أجمل النساء، مضيئة إذا أهلت كنجمة براقةٍ في ليل عيد، عيناها آسرتان، وشفتاها ياقوتٌ أحمر، والشعر جواهر سوداء تبرق في ضوء النيل، وحديثها منمق أثير»، ويمكن الاستزادة لمن أراد الاطلاع على كتاب «أشعار الحب في مصر القديمة» لفكري حسن.
اللحظة اليونانية
بهذه الطريقة نرى النصوص الأولى للحب وكيف أنها لم تتغير كثيرًا عن مثيلاتها الآن. وإذا حاولنا أن ندفع قليلًا عربة الزمن، فمن المهم أن نتوقف في اللحظة اليونانية، وهي لحظة فارقة ومهمة. وقبل ذلك يهمني أن أشير إلى أن الاعتقاد الواضح للفروقات بين الحب المتعالي عن فوران الجسد لدى القدماء لم يكن في مصر القديمة فقط. فمثلًا نقرأ هذه المقولة المهمة لفيلسوف وحكيم صيني مهم هو «لاوتسه » 604 ق.م؛ إذ يقول: «لن يكون الحب شرًّا إلا إذا وجهه الجسد وتجاهل إثراء الروح». نتحدث عن اللحظة اليونانية التي ألصقت صفات مادية كثيرة بالحب -أثرتْ في كل من التفت لمعالجة موضوعات الحب فلسفيًّا أو أدبيًّا- ويعزى لها ابتكار مصطلح «إيروس» الذي استخدمه فيما بعد «فرويد» في أعماله.
ولعلنا نستحضر عملًا مهمًّا لشاعر روماني هو «بوبليوس أفيديوس» وأعني كتابه «آرتس أماتوريا» أو «فن الهوى» وهو كتاب في حقيقته موغل في مادية فكرة الافتتان بالآخر، ولا يمكن تجاهل تأثير مفاهيم الإغريق المادية عليه. وبالعودة لليونانيين نجد أن بلوتارك (بلوتارخوس 45-120 م مؤرخ يوناني) يرى أن الحب «عَتَه» ويضيف «أن البعض ظنه داءً.. وهكذا يجب الصفح عن العشاق لأنهم مرضى». ولذلك سنقرأ تعريفًا لاحقًا لابن حزم بأن الحب داء. ولا يمكن أن نتجاهل تأثير مثل هذه المفاهيم على تعريف ابن حزم للحب. وهنا نلحظ أن الحب في اللحظة اليونانية، بدأ يأخذ شكلًا آخر، ومساءلة لدوره ولحالاته، وسنجد في الأسطورة اليونانية حالات ذهبتْ بالحب إلى أقصى حدوده، وعندما أقول الأسطورة هذا ليس تقليلًا منها، وإنما هي جزء من أدبيات تلك الحقبة، وسنجد أيضًا تلك الاتهامات التي تحاول النيل من جوهر الحب وأن تصفه بالعته والداء، وتدعي الشفقة على من أصابه، على عكس اللحظة المصرية التي كانت تغني للحب والتي أصبحت شعارًا للرومانطيقيين في مختلف الفنون، وهو ما جعل الناس تتطبع بهذه المفاهيم.
أيضًا عن اللحظة اليونانية:
يتحدث أفلاطون في محاورتين شهيرتين هما «المأدبة» و«الفيدورس»، وهما بعد محاورته الشهيرة «الجمهورية»، عن تلوث يصيب النفس، جراء تأثير الجسم فيها، لكن هذا التأثير هو تأثير مغاير أشبه ما يكون بالجنون، وهو لا ينشأ إلا عن تعلق بالماوراء، ولا يتخلق في داخل هذه النفس، بل إنه يأتي من الخارج ويصفه مثلًا «دينيس دي ريجمون» بالهيام والتعلق الرباني، واستخدم «دي ريجيمون» مصطلح «الجنون الرباني»(٣)، ولمن لا يعرف «دينيس دي ريجيمون» هو باحث مهم في تاريخية الحب.
وفي هذا الموضع لا يمكن لنا تجاهل تلك العينية الشهيرة لابن سيناء التي يظهر فيها التأثر الواضح بالنزعة الأفلاطونية؛ إذ يقول قاصدًا النفس:
هَبَطَتْ إِلَيْكَ مِنَ المَحَل الأَرْفَعِ | وَرْقَاءُ ذَاتُ تَعَززٍ وَتَمَنـــعِ |
مَحْجُوبَةٌ عَنْ كُل مُقْلَةِ عَارِفٍ | وَهْيَ التِي سَفَرَتْ وَلَمْ تَتَبَرْقَـعِ |
وَصَلَتْ عَلَى كُرْهٍ إِلَيْكَ وَرُبمَا | كَرِهَتْ فِرَاقَكَ وَهْيَ ذَاتُ تَفَجعِ |
أَنِفَتْ وَمَا أَلِفَتْ فَلَما وَاصَلَتْ | أَنِسَتْ مُجَاوَرَةَ الخَرَابِ البَلْقَـعِ |
الموقف الديني من الحب
هناك من حاول أن يقارب استحالة تعريف الحب بتعبيرات شتى تسمح بها اللغة، وما لا تطيقه اللغة كثير. وهذا يخالفنا فيه من يرى الوجود من نظارة اللغة، بوصفها قالبًا للوجود برمته. ولئلا نذهب بعيدًا خارج الموضوع نقرأ مثلًا ما تقوله شخصية أندلسية كبيرة مثل ابن حزم عن الحب، فيقول: «الحب مرض عضال، دواؤه منه، هو حالة لذيذة وداء نشتهيه، فمن نجا منه ود لو يُصيبه، ومن ابتلي به وشفي منه لا يجد لذة في شفائه». فهنا نجد أن ابن حزم يحاول التعبير عن الحب باجتماع النقائض، فالدواء هو ذاته المرض، وهو ما جعله يصفه بحالة من التلذذ بهذا المرض؛ إذ هو الداء الذي نشتهيه، وكلما نجونا من شركه وددنا لو أن هذا الشرك جرنا له من جديد، وما من شيء في الحياة تجتمع النقائض في وصفه إلا كان الإمساك به محالًا تمامًا كالسراب.
ونستعيد قول شخصية أخرى مهمة من المتصوفة الكبار وهو الإمام القشيري المتوفى (465هـ)؛ إذ يقول وهو من المتصوفة الكبار: «لا توصف المحبة بوصف، ولا تحدد بحدٍّ أوضح، ولا أقرب إلى الفهم من المحبة. والاستقصاء في المقال عند حصول الأشكال، فإذا زاد الاستعجام والاستبهام سقطت الحاجة إلى الاستغراق في شرح الكلام».
إننا إذا ما اطلعنا على النظرة الإسلامية لمفهوم الحب واقترانه بالجسد، سنجد موقفًا سلبيًّا خصوصًا إذا ما كان هذا الحب خارج إطار مؤسسة الزواج، كغالب الديانات الأخرى. فإلى جانب النصوص المقدسة التي تشير إلى ذلك، يهمنا أن نشير إلى كتاب طريف للعلامة أبي الفرج عبدالرحمن بن أبي الحسن الجوزي والشهير بـ«ابن الجوزي» ألا وهو كتاب «ذم الهوى» وهو مصنف اشتهر شهرة واسعة في عصره. وهو في الحقيقة يكاد يخرج عن النمط الوعظي، ويقدم مقترحات تكاد تكون فلسفية للشباب، لذم الافتتان بالجسد، على النقيض تمامًا لما فعله صاحب كتاب «فن الهوى» كما ذكرنا سابقًا. ويتخيل بعضٌ أن ابن الجوزي قد هجم على الحب وهذا ليس صحيحًا، بل هو يسوق لنا عيوب العشق والهوى، الذي ينطوي على نوازع جسدية متأججة، فهو يحذر من الوقوع في مغباتها، ويسرد عددًا من القصص التي تؤكد أن قصة الحب هي قصة تراجيديا في الأساس، وهذا ما سنراه في قادم هذه الورقة.
شكل الحب في الجهة الأخرى: القرن الثاني عشر حتى القرن العشرين
«أيها الأسياد، أيروق لكم أن تسمعوا قصة جميلة عن الحب والموت؟»، نقرأ هذه الافتتاحية في بداية قصة «تريستان وإيزولده» في أوبرا شهيرة ألفها «فاغنر» عام 1859م. ويمكن لنا أن نتساءل عن ذلك الربط بين الحب والموت الذي يحضر أيضًا بشكل كبير في تعابير الحب لدينا اليوم «أحبك موت»، وغيرها من التعابير المشابهة التي يكتظ بها التعبير الشعري العربي أيضًا، وهو ما يحيل إلى أن القصة الأساس للحب هي قصة تراجيدية، ولا تكاد قصة الحب السعيد أن تكون موجودة، وإن وجدت فهي لا تملك أي تأثير مقارنة بـ«روميو وجوليت»، مثلًا أو بـ«ديك الجن الحمصي» (عبدالسلام بن رغبان الكلبي) أو بعذابات قيس بن الملوح، أو بما قاسته إيزيس في حبها لأوزوريس.
ويؤكد كلامنا هذا، تقسيم «رولان بارت» للمغامرة العشقية إلى ثلاث مراحل: الافتتان والتوله المفاجئ، فمرحلة الزمن السعيد، ثم زمن التعاسة(٤). وبطبيعة الحال لا يمكن أن نغض الطرف عن قصة مهمة جدًّا في «التراث الغربي»، وأقول التراث الغربي مجازًا للإشارة للمكان الذي ظهرت فيه هذه القصة، وهي رواية «آلام فارتر» للأديب الألماني «غوته» التي نشرت للمرة الأولى في عام 1774م وقد أثرت هذه الرواية ذاتها في «حركة العاصفة والإبداع»(٥)، وكان لها أيضًا تأثير كبير في حركة الرومانطيقية في الأدب عامة. ولعل أكثر التراجيديات المعاصرة شهرة قصة ملك بريطانيا «إدوارد الثامن» وحبيبته «واليس سمبسون»؛ إذ كلفه حبها أن يتخلى عن العرش بعد أن خُيِّرَ بينها وبين عرشه، لم يشعر بالحيرة ولم يتردد، فأعلن تخليه عن عرشه في خطبة ألقاها في 11 ديسمبر عام 1936م، مقررًا البقاء مع حبيبته، ومؤكدًا لجميع المواطنين البريطانيين أن حُبه لتلك المرأة هو السبب الوحيد في قراره، حتى سُمي «الملك العاشق».
مستقبل الحب
يقدم لنا عالم الاجتماع البولندي زيغمونت باومان في كتابه المهم «الحب السائل» ما يشبه الهجاء لفكرة الحب في الوقت الآني؛ إذ يرى في تحليله أن: «الحب بطبيعته يسعى إلى إدامة الرغبة، وأما الرغبة فبطبيعتها تهرب من قيود الحب». وهنا يهمنا أن نطرح السؤال التالي: إذا كان في الوصول إلى الجسد منتهى صورةٍ من صور الحب، ألا نلمح أن تأخير اللذة في هذه الصورة هي حيلة من حيل الشهوة؟ وفي هذا لا شك تكرار ديالكتيكي عفوي لفعل الغريزة.
يرى باومان أيضًا أنه لا معنى لوعود الحب على المدى الطويل في هذا الوقت، الذي أصبح فيه امتداد الزمن، آخره.. الآن وهنا. ويطلق عليه «زمن القطع غيار»، فشريكك قد يستبدل بك فرصة أفضل، وقد تستبدل أنت فرصةً أفضل به، وهنا لا معنى لتلك الوعود الكلاسيكية التي تربط الحب بالوفاء، والارتباط الأبدي؛ فلا أبد في الحب الحاصل الآن كما يرى باومان. ويلتقي مع باومان فيلسوف جدلي مهم آخر هو «آلان باديو» الذي يتحدث في فقرات عديدة من كتابه: «معنى ساركوزي» The Meaning of Sarkozy وفي كتابه الآخر «في مدح الحب» عن أن هناك نوعًا من عدم الأمان في علاقات الحب المعاصرة تقترحها النظم الاجتماعية وتداعياتها، وهي إلى حد ما تشبه عدم الأمان الذي تقوم عليه الرأسمالية تجاه الموظف. فالرأسمالية تتنصل من مسؤولياتها تجاه الموظف، وكذلك الحب الآن يتنصل من تبعاته القديمة. نوعًا ما يبدو هذا وكأنه فعل متوازٍ؛ أي أنه يحدث من الطرفين بالتساوي، ولكن ظاهرة عدم الأمان هذه، أو الحب المهدد تُعَدّ معضلة الحب الحقيقية الآن.
تقدم التقنية الآن شكلًا مهمًّا من أشكال العلاقات في مختلف أبعادها، ولن يكون من الصواب إغفالها؛ فهي تساهم بشكل ما في تأكيد ما ذهب له كل من باومان، وباديو، فهي تقترح نوعًا من العلاقة التي تحاول التخفيف من المخاطرة باقتراح مزايا جسدية معينة، رغبات مشتركة بين الطرفين، زوايا رؤية معينة يريدها كل طرف من الآخر. وبالتالي هذا يحيل الحب من فعل إنساني، يتأثر بما تتأثر به حالات المرء وظروفه، إلى ما يشبه المنتجات التي تصطف على أرفف السوبر ماركت. وفي الحقيقة أن إطلالة بسيطة على نوعية هذه المواقع، والتطبيقات التي تقدم خدمات الحب واللقاء بالشريك المناسب يمكن أن تكشف لنا إلى أي مدى يبدو الأمر جادًّا. إن الخطورة في مثل هذه الطريقة في بناء علاقة الحب تكمن في أن فكرتي التعلق والتخلي هما رهن زر واحد، يمكن لأحدهما أن يضع النقطة، ويغلق حكاية حب حدث فيها كل ما يمكن أن يحدث بين اثنين يحب أحدهما الآخر. وهذا يمحو بلحظة واحدة الأنساق الوجدانية المشتركة التي اعتمدت عليها المدونات الكبرى في تاريخ الحب البشري، فلم تعد «أمر على ديار ليلى» مقنعة في حب يأخذ هذا الشكل السريع في تبلور المشاعر وبلوغها ذروتها وانطفائها تمامًا كالوجبات السريعة.
- من أبياته:
وكان قلبي خاليًا قبل حبكم
كان بذكر الخلق يلهو ويمزحُ
فلما دعا قلبي هواك أجابهُ
فلستُ أراه عن فنائك يبرحُ
رُميت ببين منك إن كنتُ كاذبًا
إذا كنتُ في الدنيا بغيرك أفرحُ
وإن كان شيءٌ في البلاد بأسرها
إذا غبتَ عن عيني بعيني يُلمحُ
فإن شئت واصلني وإن شئت لا تصل
فلستُ أرى قلبي لغيرك يصلحُ - الأنوناكي: اسم يطلق على مجموعة من الآلهة السومرية القديمة ذات الطبيعة الدموية، وقد أحدث تطرق الكاتب المشهور «زكريا ستيشن» لها بوصفها حقيقة ضجة كبيرة، تفاعل معها كثيرون، ومن ضمنهم سيغموند فرويد.
- الحب والغرب، دينيس دي ريجمون، ص 14، ترجمة: د. عمرو شخاشيرو.
- شذرات من خطاب العشق- رولان بارت.
- العاصفة والاندفاع هي: حركة أدبية تمتد من عام 1767-1785م، أخذت هذه التسمية من اسم مسرحية فريدريش ماكسيميليان فون كلنجر. ويتميز عصر العاصفة والاندفاع بتمجيد العاطفة البشرية الجارفة والقلب المتأجج بالشعور، وبعدم الاهتمام بالعقل الذي كان سائدًا في عصر التنوير.
المنشورات ذات الصلة
«غرافيتي» على جدران الفناء
لكل فعل رد فعل، ولكل نظرية إثبات، نظرية نفي، ولكل ثقافة هنالك ثقافة مضادة. هذا يعني أن لكل شيء هنالك «اللاشيء» الذي...
كيف شَكَّلَ الحرير والنسيج تاريخ البشرية؟
يقول بعضٌ: إن التاريخ بدأ بالكتابة، غير أننا نقول: إن التاريخ بدأ باللباس. في البداية، كانت هناك ملابس مصنوعة من...
الحياة الأدبية للأشياء
يجيز مثل هذا العنوان الانطلاق من السؤال التالي: كيف تكف الأشياءُ عن أن تكون مجرد موجودات؟ ونستقي الإجابة عنه من ميريام...
0 تعليق