كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
عجائبية السرد… قراءة في «نصوص» سماء عيسى
للسرد عجائبية يبعثها القادر على تحويل مادة الأحداث إلى ما يعدل عن متصور الذهن، وإلى ما يخرج عن حدود المعاينة والملامسة، ليعانق التخييل والتجريد والتمثيل. العجائبي فعلٌ في السرد يُحولُ الأحداث عن الممكن توقعًا إلى حدود التوهم والمفارقة. ونعمل في هذا المقال على بيان عجيب السرد، الداخلِ بعضه في استثمار الأساطير الحافة بنا والمعتقدات التي واجه بها الإنسان ما لا يقدر على تفسيره، والداخلِ بعضه الآخر في النظر في الواقع المؤسس لعجيبه الخاص؛ ذلك أن العجيب لا ينحصر في استحضار نماذج عليا، يُوظفها الكاتب في كتابته، بل قد يُحول بفعل الرمز والتحويل ثِقل الواقع إلى عجيب، مثل سلخ الإنسان حيًّا أو تسميره، هي أساطير الحياة اليومية على حد عبارة رولان بارت في كتابه المميز «أسطوريات».
الأسطورة باب من أبواب العجيب، فهي عالم من «العوالم الممكنة» التي يلجأ إليها الكاتب، يجد فيها ملجأ للإشارة، ومأوى لتحمل التعبير عن واقع قد يفوق في وقعه اليومي والتاريخي خيالية الأسطورة. عالم الغيب، فضاء من الممكن الذي وسع رؤية الكاتب، ووجد فيه تفسيرًا لأسئلة الوجود الحارقة.
ولقد ارتبط السرد في الثقافة العربية بالعجيب، يظهر ذلك في صنوف من السرد بعضها معروف، وأغلبها مهجور ومجهول. يظهر ذلك في «ألف ليلة وليلة»، في «كليلة ودمنة»، في «حي بن يقظان»، في نسخه المتعددة لابن طفيل ولابن سينا، في قصص المتصوفة، في «الغربة الغريبة» للسهروردي المقتول، في «منطق الطير» لفريد الدين العطار، أو «رسالة الطير» للغزالي. ومن هذا الفضاء الكُتُبي، المعرفي يصدر سماء عيسى، ذلك أن عجيب السرد عنده يعسر إدراكه بعيدًا من هذه الأرضية العرفانية، ويعسر تلقيه دون إدراك هذه المرجعيات الممزوجة بواقعٍ عُماني محلي يمتلك مفاتيح غيبه.
جدل الواقعي والعجائبي
يدخل سماء عيسى في نصوصه ضمن هذا الفضاء العجيب الذي يَنطقُ فيه الطير والشجر، وتبوح فيه الأرض، وتعود فيه الأرواح المفارقة، ويتحرك فيه الجماد، يؤسس لنفسه لغةً للمكاشفة مرتَكَزُها الذات الرائية الراوية، الناظرة في عمق الوجود، وفي مصير الإنسان ومساره وقدره، يخرج عن رصد حركة الواقع المباشر في خطاياه اليومية ليكشف عجز اللغة عن البوح بما في النفس من أعباء ثقال. يساير في ذلك شيخه النفري، القائل: «كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة». هي نصوص عجيبة غريبة، غير أنها لا تجعل السرد غايتها وقصْدَها، وإنما يُقيمها كاتبها على لحظات من المكاشفة والمصارحة، يقول فيها ما يتجنسُ حينًا وما يتعسر على التجنيس أحيانًا، ليدخل في حال من عبور الأجناس، واعتماد فعل الكتابة دون برنامج مخصوص.
اختار لهذه الكتابة عنوانًا «النصوص». هي نصوص؛ لأنها «مهملة»، أو كـ«المهملة»، تجمع نفحات الكاتب ونفثاته، مساحة حرة، بعضها منتسب إلى التقييد والتسجيل، وبعضها من لطائف الإشارة، وبعضها مشدود إلى قصدية القصص. «شرفة على أرواح أمهاتنا» و«الجلاد». وهي نصوص يجتمع فيها جدل الواقعي والعجائبي، هو جدل يُشكل قدرًا يواجهه المبدع أراد ذلك قصدًا أو حُمل ذاك قسرًا. لسماء عيسى فضاءات يصدر عنها، في تشكيل عالمه الأدبي، هي فضاءات عالقٌ بعضُها ببعض، تنسُج خطابًا متشربًا لخطابات عدة، متأصلًا في واقع يومي مقلق، وواقعٍ تاريخي مؤرق. ولذلك فهو لا يذهب إلى العبارة رأسًا وإنما وسيلته الإشارة، يُلقيها، وعلى متلقيها أن يكد الخاطر لبلوغ القصد المرجو. عوالم يغشاها سماء عيسى، في نثريات لا تتحدد بجنس مخصوص، وإن كانت إلى السرد أقرب، فيها نفثات الصوفي، يعالج الوجد، ويتوق بشوقه إلى الذوبان في المعشوق: «كان العاشق يخفي كل شيء ابتداء من عينيه حتى قلبه، وذلك كي لا يرى أحد ما حقيقة عشقه، أو يقرأ معشوقه الإلهي ويستدل عليه. أجمل فرضيات العشق الصمت والكتمان وعشق الجرح والحفاظ على أسرار المحبوب في ظلام الينابيع والجذور البعيدة» (الجلاد 35). وفيها أوراق من الذاكرة تسجل وفاء وتقييدًا، وفيها من طلب الحكاية الرامزة ما يبعث النفس على إدراك حقائق الموجودات.
لا يُبْدي سماء عيسى في نثرياته الأسطورة سافرةً بائنةً، بل هي لمْحُ قراءةٍ، ورؤيةُ بصير، هي عبارة الإشارة، يخفف بها المستعمل عجز اللغة عن حمل الوجد. بل هو يستعمل كائنات ووقائع تؤسس لفضاء من العجيب، إيحاءً ورمزًا، ويستعمل هذا العجيب لتقوية لغة الإيحاء، التي تُشكل جوهر الشعر، كأن يستعمل صورة الراحلة التي لا رأس لها، أو الطائر المعلم، دفنَ أخيه، أو الوحش المتحول تكرارًا ومرارًا، «أسير في ليل لا ينتهي. كنت أعمى، وكان طفل يقودني إلى الصحراء، وكانت راحلة دون رأس تسير بي إلى قبر يغوص وحيدًا عميقًا في الرمال» (الجلاد 57).
كتاب الأُم
تظهر الأسطورة في صُورة الأم، الهم الأكبر، الغالب على منثور الكاتب. هي ثيمة أساس، تتوزعُ منافعها، وأشكالها، وهيئاتها، يتخذها الكاتب بؤرة سرد، ومجال انصراف؛ إذ تفارق خِلْقتَها، بَشَرًا، وجنسَها امرأةً، ووضعها أمًّا، لتدخل أسطورةَ الخلق، تنشئ المبادئ والأعمال. تتداخلُ والأرْضَ في عطائها وصمْتها وخلْقها. الأم المهمومة بفعل الموت، المفقودة، الحاضرة، الغائبة، الصلبة، «أما أمهاتنا فما كن يبتسمن إطلاقًا» (الجلاد 55)، تلتبس بالأرض وتُضارعها. هي صورة مستقاة من رمزية الآلهة الأم. تُداخل عشتار في صورتها الأمومية، خصوبةً وتضحية وصبرًا، «وحيدةٌ في الحب ووحيدة في الموت، وحيدةٌ كتراب الأرض وكحجارة الوادي، وحيدةٌ كطير في السماء. ما هي قريبةٌ منك حريةُ الروح مثلما ألمُ الجسد الذي لن يفارقك إلا بالموت (…) أتأملك في الساعات الأخيرة لليل، وأنت في الغيب العميق لحياةٍ ما برحت إلا أن تغيب، ولشجرة ما برحت إلا أن تجف، السماء أطبقت جسدَها على الأرض فيبست الثمار وتكدست الجثث، وتصحرت الحياة» (شرفة 12).
تتأسس عبر هذه النصوص صورة نمطية للأم التي بِفَقْدها تنعدم الخصوبة، ويتوقف الكون، أما ملامحها، فهي مملوءة حزنًا: «كانت أمي صبية جاءت من القرى، وظلت كذلك القروية، حتى عندما غادرت المنزل، وأنا صبي كنت أحمل تلك الصورة العذبة عنها، الصبية الريفية الهادئة الخجولة، التي لا تتحدث إطلاقًا (…) كان صمتها مقدسًا هادئًا وبريئًا، حتى مع رغد العيش الذي عاشته في السنوات الأخيرة من عمرها، ظل الحزن هو ما يكسو ملامحها، كان مسيطرًا عليها منذ الطفولة، لم أجدها يومًا ما تضحك أو حتى تبتسم، إلا والحزن الدفين يغطي في عذوبة نادرة ملامح وجهها الريفي الهادئ» (شرفة 15). «لكنني التقيت عند النبع بأمي، وحيدةً تحمل جرة كانت عيناها -كالعادة- دامعتين من الحزن، وكان وهج الحياة قد انطفأ بقلبها منذ أمد بعيد» (شرفة 22).
وقد خصص سماء عيسى كتابًا بتمامه لهذه الأم، هو «شرفة على أرواح أمهاتنا»، وقد راوح في إنشائية معنى الأم بين عجيب الأحداث ومألوفها، بين شخصيات غائبة ملامحها وتقاسيمها وأحداث تأتيها تدخل عالم الغرابة الموصول بفكرة الضياع والبحث عن معنى للموت. الموت الذي سادت روحه تأملًا ومَوْلدَ أحداث، وكان معجمه غالبًا في النثر كما هي الحال في الشعر، يتحول فعل الموت إلى هاجس ملازم للذات الكاتبة، تُصرفه مناحيَ شتى، يُنهي الشخصيات أحيانًا ويُحييها أحيانًا أخرى، وهو داخلٌ في الفضاء العجائبي الذي غَلَبَ على المدونة، «مضى من أحب إلى الموت» (شرفة 17)، يتحول إلى فعل عجيب، بإحياء الجثث وبعثها، «كررت الطرق على الزجاج، وكررت الجثة الصراخ: من هناك؟ أما أنا فقد كررت الصمت، حتى علا الطرق على الزجاج، فآويت إلى ركن مظلم» (الجلاد 20)، أو بالتحاور معها، أو بإسناد أفعال إليها.
الموت والوحش
ثيمةُ الموت لاحقت أغلب الشخصيات بطرق مختلفة، حتى صارت قصدَ الكاتب: «لم يكن هناك ثمة أمل في صراع ما بين الجثث وهي تتراص في سكون عميق، كأنها أخيرًا تسكن بيتًا واحدًا مفقودًا، كأنها تتآخى أخيرًا وتعود إلى جذورها العميقة الأولى، جذور حب فطري أولي لا يدركه الأحياء، وبالطبع لا يدركه الموتى. لكن جذور الشجر وأوراقها. عتمة الليل وشمس النهار، وعصافير البهجة وهي تمرح بين القبور هي التي تدرك كل هذه الأسرار المعتمة. أسرار الغياب والأفول والشوق الدائم إلى عشق تراب الأرض وأعماقها». (الجلاد 63).
صور التحول، تأخذ بعدها العجائبي والغرائبي، في مظاهر متعددة، وتُقيم مناحي من السرد، ووجوهًا لشخصيات لا تُوصَل بالضرورة بعالم البشر. ولعل أهم تحول تكررت صورته، هو التحول إلى المسيح عليه السلام، عبر استلهام مشهد صلبه: «عندما صحوتُ من النوم وجدتني مُسَمرًا غير قادر على الحراك، تذكرتُ وجوهًا ملثمة اقتحمت غرفتي ليلًا ودقت المسامير في جسدي، حتى التصقت بالأرض. جاءت طفلة من الغابة تحمل وعاء من الحليب، عندما رأت المسامير تملأ جسدي، دمعت عيناها، تركت الوعاء ورحلت» (الجلاد 49).
وكذلك التحول إلى صورة الوحش، الذي يأخذ أبعادًا، ورموزًا، ويتحول إلى فكرة تقتضي تقصيها وتتبعها. فالوحش في الأساطير الموروثة هو رمز الشر ومعاداة الخير، وهو متخذ هيئاتٍ عدة. يظهر ذلك في مواقف عديدة يدعو فيها الكاتب صورة الوحش، أو يُغير جوهر الموجود لمدة من الزمن وجيزة، يؤدي فيها الوحش دوره ليعود بعد ذلك إلى عنصره: «أنا صديق لكل أولئك الذين رحلوا قبلي، والذين سيرحلون بعدي، صديق للطفل الذي تحول إلى وحش رماني في فناء الدار، بعدها عاد الوحش طفلًا، والطفل سكن الجرة الممنوحة لي من أمي» (شرفة 36). الوحش الذي لم يتخذ هيئة ولا وجهًا، يألفه الأطفال وينتظرون منه تفاعلًا وتواصلًا.
الطفولة رمز البراءة والانطلاق والنيات الحسنة، والخير، تُوضَع في مقابل صورة الشر: «كان باكرًا علينا ونحن نلعب بين الأشجار، معرفة أن وحشًا مختبئًا خلفها، وأنه يُراقبنا، يبتسم تارة ويغضب تارة أخرى. كنا نلعب وكنا نعتقد أنه حتى لو ظهر وحش ما فسيلعب معنا، أو على الأقل سيبتسم لنا ويمضي» (الجلاد 55). لكن الوحش يخيب هذا التوقع ويتوالد، ليتدرج الكاتب في تصوير مشهد جهنمي، له صلة مرجعية بأساطير نهاية الكون: «فجأة ونحن على الجسر أمامنا جبل وخلفنا جبل، وتحت الجسر هاوية عميقة تمتلئ أرضها بحجارة مسنونة وأفاع تنتظر سقوط أحد ما. فجأة أطلق الوحش صيحته وقفزت من فمه وحوش صغيرة باتجاهنا، نظرت إلينا شزرًا وقامت بتقطيع مقدمة الجسر ونهايته، ثم رحلت ووقفت على قمم الجبال تراقب سقوطنا إلى الهاوية واحدًا خلف الآخر» (الجلاد 56).
ذاك وجه من فضاء المعاني المتزاحمة في هذه النصوص التي خرج فيها سماء عيسى من جُبة الشاعر، ولم يخرج، وهو الممتلئ بعقود من الشعر ترسخ به عَلَما من أعلامه، لم يُفارق الناثر جوهر الشاعر، فبقيت روح الأعمال شعرية، في غلبة الذات المتكلمة، وسيادتها، وفي واحدية الرؤية، وفي انسيابية اللغة الرمزية التي طغت على النصوص.
وأخيرًا، يُمكن أن نوجز خلاصة القراءة في أن العجيب غالب على هذه النصوص التي يدخل أغلبها في باب السرد، وقد تأسست عجائبية السرد، على مبدأ التحويل والتشويه وعلى مبدأ الغرابة في الأحداث. وأن توظيف الأسطورة لا يظهر بشكل سافر، بل يُغيب الكاتب ملامحها قدر الإمكان، وإنما الأسطوري ذهني في كتاباته. يُمارس سماء عيسى دور الكاتب الحق الذي يصنع المعاني والأشكال ولا يتتبعها أو يحوك على أمثلتها، فهو لا يهتم بتحقق السرد؛ بل همه الأساسي أن يقول نفاثة صدره، وعلى ذلك وُجدت نصوص قصيرة مكثفة بالرموز، كان بالإمكان تفكيكها، وتمطيطها وبناء عوالم دلالية منها، غير أنه اقتصر على النوى يبسطها عرضَ شاعر.
المنشورات ذات الصلة
قراءة في تجربة العماني عوض اللويهي بين العتمة والماء يتشكل العالم
الشاعر العماني عوض اللويهي يقترح نصًّا مغايرًا، يبتعد من المألوف من خلال مجموعاته الشعرية: «العتمة تفر من ظلالها»،...
«القبيلة التي تضحك ليلًا» لسالم الصقور تشظي الذات بين المواجهات النسقية
يقدم الروائي السعودي سالم الصقور في تجربته الأولى مواجهة نسقية ناقدة، ينتمي فيها الفرد إلى حقبة زمنية موسومة عالميًّا...
«سجادة فارسية» نسيجُها القصائد… مختارات من الشعر الإيراني المعاصر
في ترجمة الشعر تخضع النصوص أو تتحرر. بعضٌ يترجم أعمالًا تشبهه، يختار قصائد ودّ لو كتبها، وإذا اضطر إلى ترجمة قصائد لا...
0 تعليق