كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
خوان دي باريخا والتاريخ المتشابك بين الفن والعبودية
لقد تزايد تسليط الضوء على الشخصيات السوداء في العالم الفني بشكل كبير، وهو ما دفع بأمناء المعارض والعلماء والنقاد إلى الخوض في صراع مع إشكالية تمثيل هذه الشخصيات المنحدرة من أصل إفريقي داخل الفن، فقد انكب جلهم على تحليل الإشكاليات التفسيرية والإمكانيات التي تقدمها تلك الموضوعات الفنية والتي كانت تعدّ منذ وقت طويل مجرد أشياء أو بضائع أو سلع يتاجَر بها. وعُكس هذا الاهتمام في ظهور التحول التصويري للإنسان الأسود في الفن المعاصر، ففي السنوات الست الأخيرة أقام كل من كيهيندي وايلي، وميكالين توماس، وكيري جيمس مارشال، ووتويين أوجيه أودوتولا، معارض فنية فردية ضمن متاحف ضخمة تناولت جميعها في موضوعها الرئيس شخصيات سوداء.
اهتمت المعارض الفنية العالمية الكبرى بتقييم الحضور الجديد للشخصية السوداء في أعين الجماهير والزوار خصوصًا بعدما سعت المؤسسات الفنية إلى معالجة ظاهرة استحواذ العرق الأبيض على مجمل موضوعات الأعمال الفنية المقدمة إليها. وقد نهجت العديد من المتاحف المسار نفسه، وذلك عن طريق جرد وتقديم المجموعات الفنية المدخرة ذات الموضوعات السوداء، كما استُحدِث واستُخرِج كل تلك الأعمال الفنية من لوحات ومطبوعات ومنحوتات وزخارف في محاولة لتسليط الضوء على تاريخ العبودية والعرق والاستعمار، وقد استغرق هذا الاهتمام وقتًا طويلًا ليخرج إلى أرض الواقع الفني.
الفنان المستعبد
في متحف متروبوليتان للفنون بمدينة نيويورك، كانت الصورة التي رسمها الفنان دييغو فيلاسكيز نقطة انطلاق لمعرض، ودليلًا جديدًا يكشف عن التاريخ المتشابك للإنتاج الفني مع العرق والعمل الاستعبادي. تُظهر الصورة، التي اكتملت سنة 1650م، رجلًا يُدعى خوان دي باريخا، وقد رُسِمَ في هيئة سيد جليلٍ وهو يحدق إلى المتلقي بنظرات مرهَفة. لقد أطرت فرشاة فيلاسكيز على اللوحة بأضواء متلألئة ولامعة، انسابت على جبين باريخا مما أضاف وميضًا متلألئًا انبثق من عينيه السوداوين وهو يرتدي ثوبًا يعود إلى النبلاء الإسبان، وهو عبارة عن طوق دانتيلي واسع ووشاح وضع على صدره، إلا أن القوة التي يمتلكها فيلاسكيز على باريخا، تتجاوز تلك العلاقة النموذجية بين الفنان والموضوع، أو بين الرسام والمرسوم، على الرغم من أنه لا يوجد أي شيء في اللوحة يوحي بذلك. فــ«فيلاسكيز» السيد القديم هو سيد بمعنى آخر: إنه سيد الرجل الذي رسمه، أي أن باريخا عبدُه.
تساءلت كل من أغنيس لوغو أورتيز، وأنجيلا روزنتال، في كتابهما الصادر عام 2013م بعنوان «صور العبيد في عالم المحيط الأطلسي» عن مدى إصرار التقليد البصري الغربي على تأكيد فن البورتريه للموضوع المتعلق به، فهل يمكن أن تكون هناك بالفعل صورة لعبد حقيقي؟ أم إن رسومات الشخصيات المستعبدة قوضت في جوهرها لمشروع العبودية التشييئي؟
يمثل الحضور الجليل لـباريخا في لوحة «فيلاسكيز» نقطة بصرية مضادة لما تظهره عادة القطع الفنية التي تناولت الشخصيات السوداء ضمن مجموعات فن الرسم الأوربي، التي كانت عبارة عن استحضار لرسومات أشخاص سود يرتدون ملابس رثة مبتدعة، وبأطواق وأغلال حديدية، وقد رُسِموا وهم يجثون تحت أقدام أسيادهم البيض، وهو ما يبرز مدى التباين اللوني بين البياض الأثيري والسواد الغامق وسط تناقض مفاهيمي بين القوة والخضوع والهيمنة والقهر. وعلى عكس هذه الشخصيات السوداء المجهولة فإن باريخا لديه تاريخ، فقد كان هو الآخر رسامًا. فبعد إعتاقه من العبودية، أَسّس باريخا ورشة خاصة به كرجل حر، كما ورسم لوحات عُرِضت داخل الكنائس والأماكن الفنية في مدريد.
تَظهر العديد من الأمثلة الرئيسة لأعمال باريخا في معرض متروبوليتان، وقد عُرِضَت جنبًا إلى جنب مع لوحات فيلاسكيز، وهو ما يعكس بشكل كبير مساهمات باريخا في إنتاجات سيده القديم. يتضمن المعرض أيضًا منحوتات متعددة الألوان إضافة إلى أعمال معدنية وسيراميكية فنية تكشف بشكل كبير عن اتساع هوة نطاق العمل الفني بين كل ما هو مستعبد ومتحرر في إسبانيا في القرن السابع عشر. تتيح لنا هذه الأعمال إلقاء نظرة خاطفة على البيئة التي عاش فيها باريخا، حيث كان عبدًا مساعدًا في بداياته ليتحول في نهاية المطاف إلى فنان حر.
وعلى الرغم من أنه لا يُعرف كثير عن حياة خوان دي باريخا، فإننا نعرف عنه أكثر مما نعرفه عن العديد من الفنانين الأوربيين الآخرين في أوائل العصر الحديث الذين لا يمكننا تسمية بعضهم إلا باستخدام ألقاب مثل سيد الأفيلا، أو سيد دراسات الأقمشة. لقد أشار ديفيد بولينز، وهو أمين معرض متروبوليتان للفنون، ضمن مقال إلى أن باريخا وُلد نحو سنة 1608م في أنتقيرة، وهي مدينة صغيرة تبعد نحو 90 ميلًا غرب إشبيلية. ربما كان ابن رجل إسباني مع امرأة إفريقية مستعبدة، أو موريسكيًّا سليل مسلمي شمال إفريقيا ضمن أولئك الذين حُوِّلُوا قسرًا من الإسلام إلى الكاثوليكية عقب نهاية الحكم الإسلامي في شبه الجزيرة الأيبيرية. لقد كان عضوًا داخل مجموعة كبيرة من الرجال والنساء والأطفال المستعبدين الذين كانوا يعيشون ويعملون ضمن المراكز الحضرية الإسبانية الكبرى، حيث كان من الشائع آنذاك أن تمتلك كل أسرة إسبانية عبدًا أو اثنين. لقد انضوى عمل باريخا على الاشتغال داخل ورشة الرسم الخاصة بـ«فيلاسكيز»، بحيث تمثلت مهامه في طحن الأصباغ وإعداد اللوحات القماشية، إلا أنه ساهم أيضًا في أعمال أكثر أهمية ضمن اللوحات التي ختمت باسم سيده.
أساطير أخرى حول حياة «باريخا»
ماذا يعني أن ينتج العبيد أعمالًا فنية خاصة بهم؟ وهل يمكن لشخص يُعتبر ملكية خاصة لشخص آخر أن يمارس العبقرية الإبداعية؟ قد نجد الجواب في قصة نُشرت سنة 1724م لأنطونيو بالومينو، وهو أول من كتب عن حياة «باريخا»، حيث كشف أنه كان يشتغل على لوحاته في السر وذلك في أثناء مدة عمله كعبد داخل ورشة الرسم الخاصة بـ «فيلاسكيز» نظرًا لأن «سيده لم يسمح له أبدًا بالمشاركة في أعمال الصباغة أو الرسم (من أجل شرف الفن)». ووفقًا لرواية بالومينو، التي تتكرر في العديد من المصادر الأخرى، فبعد نجاح «باريخا» في جذب انتباه القائم بأمر «فيلاسكيز» وهو الملك فيليب الرابع ملك إسبانيا، جثا «باريخا» على ركبتيه متوسلًا إلى الملك ليفك رقبته من العبودية، حينها قال الملك: إن الرجل الذي يتمتع بمثل هذه الموهبة لا يمكن أن يكون عبدًا، ليُقدم على تحريره. غير أن هذه القصة ليست حقيقية بشكل شبه مؤكد، فقد أُعتِق باريخا في روما سنة 1650م وذلك في أثناء سفره رفقة «فيلاسكيز» في رحلة خاصة لجمع الأعمال الفنية لصالح الملك.
ظهرت أساطير أخرى حول حياة «باريخا»، تزعم إحداها أنه تزوج ابنة «فيلاسكيز» بعد إعتاقه وتحرره. كما أن هناك رواية أخرى تفيد بأنه مات في مبارزة دفاعًا عن حياة ابن مالكه وسيده السابق. إن مثل هذه الاستحضارات التي تصور العبد الأمين الذي يرتبط بسيده بروابط الحب والامتنان هي محور شخصية الفنان المستعبد، وهي شخصية شعبية طغت في الأدب الغربي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وهي لا تزال تحظى باهتمام كبير إلى حدود اليوم. وقد أسفرت استعارات مماثلة عن فهم مشوه لأعمال فنان مستعبد آخر وهو ديفيد دريك، من كارولينا الجنوبية، والمعروف أيضًا باسم «ديف الخزاف»، الذي صنع أواني فخارية ضخمة قبل أن ينقش قصائده على العديد منها. لقد قُرِئَتْ أعمال «دريك»، التي تعكس براعته الفنية وعلمه ومهاراته التقنية على أنها إحسان وطيبة من لدن ملاكه. إنها لحقيقة مؤسفة أن يصير الفن الذي أُنتِجَ في ظل ظروف العبودية الصعبة عرضة لمثل هذه التفسيرات المثيرة للجدل، فلم تخرج وسائل التواصل اليومية عن هذا النهج حيث أظهرت التواريخ والصحف والنشرات المؤيدة للعبودية استغلالَ أغاني ورقصات العبيد للدلالة على استقرار صحتهم وسعادتهم في ظل الحكامة الجيدة لأسيادهم من الطبقة الأرستقراطية البيضاء.
يكشف هذا المعرض عن القصص الخيالية المتعلقة بشخصية الفنان المستعبد كما أنه يتحدى أيضا أساطير السادة القدامى ولا سيما «فيلاسكيز». يُعَدّ الرسم اليوم ممارسة نبيلة وفنًّا راقيًا تعكس منتجاته أعمالًا فنية عاطفية تنم عن موهبة فذة للعبقرية الفردية. وعلى الرغم من ذلك، فلم يرقَ هذا الفن إلى هذا الوضع إلا منذ القرن الثامن عشر. ففي عصر فيلاسكيز، عُدّ الرسم ميدانًا مشحونًا، وقد تميزت مسيرته الفنية بمحاولات منه من أجل تأمين الفن على أنه مهنته الدائمة. ومنذ ذلك الوقت إلى الآن يعقد استحضار العبيد في الأعمال الفنية إمكانية التمييز الواضح بين العمل الفني والعمل اليدوي. لقد كشف لويس مينديز رودريغيزـ ضمن أحد أكثر المقالات تنورًا بالمعرض- عن الدور المركزي للعمالة الاستعبادية في إنتاج كل من الفنون الجميلة والسلع الفاخرة في إسبانيا في القرنين السادس عشر والسابع عشر. وفي الواقع، يكتب رودريغيز، كانت ورش الأعمال الفنية والحرفية السياق الأكثر شيوعًا للعمل الاستعبادي في بداية تاريخ إسبانيا الحديثة، وهي حقيقة لم يُعترَف بها في تاريخ الفن في العصر الذهبي للرسم. إن وجود خوان دي باريخا في ورشة عمل فيلاسكيز يمثل القاعدة وليس الاستثناء.
إعادة تقييم
إنّ عَدّ العمالة الاستعبادية شرطًا أساسيًّا لإنتاج اللوحات في تلك المدة قد يساعد على إعادة هذه الأعمال الفنية إلى عالم السلع والبضائع. في محاولة منه لتأكيد هذه النقطة، قدم المعرض العديد من القطع الفاخرة الصنع، وهي عبارة عن حوض فضي وإبريق مصقول إلى جانب أعمال «فيلاسكيز» و«باريخا» وغيرهما من الرسامين الإسبان. يُمَثِّلُ وضعُ هذه البضائعِ إلى جانب الرسومات مستوى عاليًا من المهارة التقنية والبراعة المادية، وقد جاءت هذه الأعمال إلى الوجود عن طريقة العمالة الاستعبادية؛ إذ أشارت إحدى مقدمات مقالات الدليل إلى أن صائغي الفضة كانوا من بين الأكثر احتمالًا لامتلاك العبيد المهرة بمختلف الحرف اليدوية. إن إدراج هذه السلع الكمالية التي يسهل عَدّها سلعًا يؤدي إلى تسوية التسلسل الهرمي الجاهز بين الفنون الجميلة والزخرفية، إلا أن وجودها إلى جانب لوحات المعرض يثير تساؤلات أخرى تتعلق بالتقييم، فكيف ينبغي إعادة تقييم أعمال فيلاسكيز في ضوء مساهمة «باريخا» فيها؟
قد تقودنا مثل هذه التأملات إلى طرح أسئلة جوهرية حول قيمة أعمال «باريخا» وأسعارها. في سنة 1970م، حطمت لوحة «باريخا» لفيلاسكيز جميع الأرقام القياسية في عالم الفن بوصفها أول لوحة تباع بأكثر من مليون جنيه إسترليني، وبعد مرور عام أُعِيدَ بيعُها بمبلغ يتجاوز ذلك بكثير؛ إذ حصل عليها متحف متروبوليتان مقابل 5.5 ملايين دولار (ما يعادل 41 مليون دولار، بدولارات اليوم). من المؤكد أنه سترتفع قيمة أسعار الأعمال الفنية التابعة للقطاع الخاص بعد هذا المعرض. إن السوق مناسبة اليوم لعرض الأعمال والفنانين السود، ففي عام 2017م وبعد عقود من وفاته، أصبحت لوحة «جان ميشيل باسكيات» أغلى عمل فني أميركي حيث بِيعَتْ في مزاد علني بمبلغ 110.5 ملايين دولار. وفي هذا الوقت الذي يشهد عمليات إعادة التقييم الفني، كان هناك إقبال كبير على أوعية «ديفيد دريك» الخزفية، حيث حصل متحف «كريستال بريدجز» -وهو متحف يقع في أركنساس، أسسته وريثة «وول مارت أليس والتون»- على قطعة خاصة مقابل 1.56 مليون دولار سنة 2021م، وهو ما جعله رقمًا قياسيًّا في سوق بيع الخزف الأميركي ضمن مزاد علني. من المؤكد أن المتاحف مستعدة لدفع أموال ضخمة من أجل ضم أعمال الفنانين السود إلى مجموعاتها، وأن العديد من هذه الأعمال صارت تنفلت من أيادي القطاعات الخاصة لتدخل إلى قطاع المؤسسات الفنية العامة. يبدو أن استمرار العبودية في تحقيق أرباح مادية كبيرة حتى اليوم ليس بالأمر الغريب، فحقيقة استعباد الفنان تضيف الآن قيمة مادية كبيرة إلى عمله.
ماذا عن أعمال «باريخا»؟ وهل كان بالفعل رسامًا بارعًا؟ لقد علق كبير نقاد صحيفة نيويورك تايمز «جيسون فاراجو» على لوحات «باريخا» التي عرضت في معرض متروبوليتان قائلًا: «إنها نماذج رائعة رغم أنها لم تكن مهمة خلال عصر الباروك الإسباني». وأضاف: «برفقة فيلاسكيز سيبدو أي شخص آخر مواطنًا من الدرجة الثانية». ولكن ألن يكون هذا التقييم الجمالي في غير محله خصوصًا تحت ضوء الحقائق المترسخة في سيرة حياة «باريخا»؟ بالنسبة إلى القائمين على هذا المعرض الجواب هو لا. حتى هذه اللحظة نادرًا ما عُدَّت لوحات «باريخا» شيئًا آخر عدا أعمال فنية مثيرة للفضول، أي لوحات رسمها عبدٌ سابقٌ أو مجرد دليل على ممارسته الفنية، فيما يتوجب علينا الآن أن ننظر إليها بوصفها أعمالًا فنية متفردة في حد ذاتها.
باريخا في لوحتين
تعد لوحة «دعوة القديس ماثيو» عملًا عظيمًا حيث يبلغ ارتفاعها أحد عشر قدمًا، وعلى الرغم من أنه لا يعرف كثير عن ظروف وملابسات إنتاج هذه اللوحة، فإنه من المستبعد أن «باريخا» أنتج مثل هذا العمل الضخم تحت الطلب، أي أن شخصًا ما استأجره ليرسمها لأجله. لقد كانت سوق الفن الإسباني مفعمة بالحيوية في ذلك الوقت، ويرجع ذلك في جزء كبير منه إلى تدفق الفضة من المناجم الاستعمارية بأميركا الوسطى والجنوبية. تعدّ اللوحة كثيفة من الناحية التركيبية كما لو أنها استعراض لنغمات متناوبة نابضة بالحياة تحاكي الجواهر والظلال الكئيبة للفن الإسباني.
يجلس «ليفي»، وهو جامع ضرائب مع زملائه من الإسبان وهم يرتدون ملابس فخمة، محاطين بوسائل الرفاهية المعاصرة في مدريد، وهم يجلسون حول عريضة مغطاة بسجاد فارسي ثمين جدًّا، فيما يدخل «المسيح» بيمين اللوحة، وهو يومئ إلى «لاوي» ويدعوه إلى أن يتبعه، وعلى أقصى يسار اللوحة تتطلع إلينا شخصية ترتدي ثوبًا أرستقراطيًّا إسبانيًّا. إنه «باريخا» وقد استحضر نفسه هنا ضمن صورة ذاتية متكاملة تحاول الانفلات من اللوحة التي رسمها سيده السابق. إن وجوده في هذه الغرفة بسلوكه المتزن والواثق إضافة إلى موقفه غير الرسمي في اللوحة هو تأكيد لتأليفه لمجرياتها بحيث يقف حاملًا بيده ورقة تحتوي على توقيعه وتاريخ إنجاز اللوحة، وهو ما يشير إلى أنه حصل أخيرًا على الحق في تمثيل ذاته وتصويرها.
ومما يزيد من الأمر تعقيدًا هي تلك الاستنتاجات التي قام بها الباحثون الذين خاضوا في دراسة هذا الأمر منذ سنة 1888م حيث قارنوا بين لوحة «فيلاسكيز» وصورة «باريخا» الذاتية ليتوصلوا إلى أن ملامح العبد السابق «باريخا» تبدو في اللوحة الأخيرة أكثر أوربية؛ فقد صار الأنف والشفتان أضيق مما كانت عليه في اللوحة الأولى، كما تغير شكل البشرة إلى لون فاتح. فهل يُعَدّ هذا الأمر أسلوبًا استيعابيًّا وعنصرية ذاتية من «باريخا»؟ أم إنه مثلما اقترحت الكاتبة الباحثة «كارمن فراكيا»، هو تمثيل للتحول والتغيير الذي يُعَدّ موضوع اللوحة، أي تحول اللاوي اليهودي إلى متى المسيحي.
عندما عرضت لوحة «فيلاسكيز» التي صورت «باريخا» لأول مرة في روما، كانت محط دهشة الجميع بسبب مدى مطابقتها للواقع. لقد طُلِبَ من معايني اللوحة الأوائل مقارنة الرسمة بشكل مباشر مع الشخصية الأصلية حيث أمر «فيلاسكيز» «باريخا» بحمل صورته الخاصة إلى المشترين المحتملين؛ إذ كلف العبد بالترويج لذاته خلال جل مراحل هذا المشروع. ووفقًا لمصدر معاصر فقد «حظيت الصورة بإشادة عالمية لدرجة أن جميع الرسامين العالميين أجمعوا على أنه إن كانت كل الأعمال تبدو رسمًا، فإن هذه اللوحة هي مطابقة للحقيقة». ومع ذلك، تبدو الصورة الذاتية التي رسمها «باريخا» مختلفة قليلًا حيث لا توجد أي تفسيرات واضحة عن السبب وراء ذلك.
إن أي ادعاء بأن العبد السابق حول ملامحه إلى ملامح أوربية من خلال الصورة التي رسمها لذاته ينضوي على المخاطرة بوضع سيده «فيلاسكيز» الرسام الأكثر شهرة على الإطلاق بوصفه مرجعًا أساسيًّا لمظهر «باريخا» بدلًا من «باريخا» نفسه، فمن دون وجود صور إضافية لـ«باريخا» لا يمكننا أن نجزم بأي قرار نهائي بهذا الخصوص. من خلال التعامل السطحي مع الجسد وشكله فنيًّا كوثيقة مقروءة يمكننا استخلاص معلومات مهمة حول الهوية، وقد كان هذا هو جوهر مشروع التمييز العنصري.
أرشيف الفن الأسود
لقد كان تمظهر الجسد الأسود ضمن الفكر العنصري دليلًا على الدونية، إلا أن أعمال الفنانين السود وظهور الشخصية السوداء في الفن البصري يعد أرشيفًا مضادًّا يُظهر الكرامة والجمال والموهبة والمهارة. لقد كتب «دبليو إي بي دوبوا» سنة 1926م: «لن يصنف السود كبشر عاديين حتى يُعترَف بفنهم»، فيتوجب إدراج كل من الفن التاريخي والمعاصر ضمن هذا الأرشيف المضاد.
في ستينيات القرن الماضي وفي خضم قيام حركة الحقوق المدنية، بدأ منقب القطع الفنية ورجل الأعمال الخيرية «جون دي مينيل» رفقة زوجته «دومينيك شلمبرجير دي مينيل»، بتجميع سجلات الأعمال الفنية الغربية التي تصور الشخصيات السوداء، وقد عُدّ أرشيفهم آنذاك مشروعًا مناهضًا للعنصرية من خلال عرضهم أمثلة على الشخصيات السوداء في مجالات الرسم والنحت والفن الزخرفي مقابل المشروع السياسي العنصري.
إن مثل هذه اللحظات الفنية التاريخية هي توثيق للضغوطات الاستثنائية التي يُنتج الفن الأسود تحت ظلالها، فلا يمكن للأعمال الفنية الخاصة بالفنانين السود أو الشخصيات المرسومة السوداء أن تمر ببساطة؛ بل يجب أن تؤدي أحد الأدوار إما من خلال استخدامها حججًا للنضال ضد العنصرية، أو من خلال الإشارة إلى الطريق نحو المستقبل المتحرر. وإضافة إلى ذلك، يجب علينا أن نفهم أن الفن الأسود يُعَدّ مسألة تستحق التأمل الجمالي. في متحف متروبوليتان، تحاول المنسقة «فانيساك فالديس»، من خلال مقالتها في رواق المعرض تحقيق التوازن بين هذه المهام المزدوجة، وذلك من خلال دعوتنا لقياس شخصية وأعمال «باريخا» جنبًا إلى جنب مع مقالات المؤرخ وأمين أرشيف الثقافة السوداء «أرتورو شومبورغ» التي تناولت «باريخا» وتاريخ الفن العام ومدى أهمية الفن الأسود، وقد ناقش «شومبورغ» المقاربات الفنية لــ«باريخا» التي تشكل أرضية مشتركة بين مطالب الحركة السياسية للسود واستحالة كمالية فنهم.
ولد «شومبورغ» في بورتوريكو عندما كانت لا تزال مستعمرة إسبانية لينتقل بعد ذلك إلى نيويورك سنة 1891م حيث بدأ في تجميع الكتب والوثائق التي تشهد على التاريخ الفني والأدبي والسياسي للإنسان الأسود. لقد كانت أفكاره بالغة الأهمية؛ حيث أشار إلى أنه لا يكفي أن تُبسَط أسماء الفنانين والكتاب والقادة السياسيين السود القدامى والاحتفاء بهم فقط؛ فمثل هذه المحاولات كانت «تصحيحًا مبالغًا فيه مثيرًا للشفقة، وزيادة في الثناء بشكل يبعث على السخرية»، فقد «حُوِّلَت الاعتذارات إلى سِيَر ذاتية». وبدلًا من ذلك، سعى «شومبورغ» إلى إنشاء أرشيف من شأنه أن يمثل حجرًا أساسًا للتعامل مع الماضي الأسود بوصفه طريقًا نحو مستقبل متحرر.
لقد كان «باريخا» من بين الفنانين الذين ركز عليهم «شومبورغ»، فقد وصفه في مقالاته بأنه عضو مهم في مدرسة الفن، وناشط إبداعي يمتلك أسلوبًا له أبعاد وطنية وعالمية. ومن خلال التعامل مع مهنة «باريخا» بوصفها مسألة بحث جاد في التاريخ الفني، أكد «شومبورغ» أن حياة الفنان وعمله كان لهما القدر نفسه من الأهمية تمامًا مثل حياة جل الرسامين الغربيين الآخرين رغم أن بغضهم كان يحمل معاني ومواقف خاصة اتجاه الإنسان الأسود. يواصل متحف متروبوليتان للفنون بمدينة نيويورك العمل في هذا المشروع الجذري بهدوء، معتمدًا على أبحاث «شومبورغ» حيث يعرضها جنبًا إلى جنب مع أعمال «باريخا»؛ لكونها مصدرًا موثوقًا للتفسيرات المعاصرة التي تخوض في إنتاجات الفنان الأسود.
يعد دليل المعرض مدخلًا أساسيًّا للتقليد التاريخي الغربي لدراسة الفنانين، وهي نصوص مخصصة لحياة ومسيرة الفنان، ويعد هذا الدليل الأول من نوعه بتضمنه قائمة متكاملة لأعمال باريخا. تعدّ مثل هذه النصوص ضرورية لعكس التفاعلات الواردة بين الفن والفنانين وللبحث المعمق والدقيق الذي حظي به الرسامون على شاكلة «فيلاسكيز». تبقى مقاربتي النظرة البسيطة والانفتاح على التجربة الجمالية أمرين جوهريين في هذا المجال، وقد صبت مجهودات معرض متروبوليتان في هذا الصدد بشكل متكامل ومن مختلف النواحي.
عندما حصلت مكتبة نيويورك العامة على أرشيف «شومبورغ» سنة 1926م، استخدم الأخير جل عائدات هذا المشروع ليسافر عبر المحيط متوجهًا نحو أوربا ليصل إلى إسبانيا سعيًا وراء لوحة «نداء القديس متى» حيث أمضى وقتًا طويلًا في الجلوس والتمعن في عمل «باريخا».
المصدر: مجلة «ذي نايشن» The Nation الأميركية.
المنشورات ذات الصلة
التشكيلية السعودية غادة الحسن: تجربتي بمجملها نسيج واحد... والعمل الفني كائن حي وله دوره في الحياة
تصف الفنانة التشكيلية السعودية غادة الحسن، المتلقي الواعي بأنه شريك للفنان بتذوق العمل الفني وتحليله وإضافة أبعاد أخرى...
تجربة التشكيلي حلمي التوني خريطة رؤيوية لمسارات محددة نحو بلوغ الحياة الحقيقية... وقنص جوهرها الصافي
على امتداد رحلته الثرية في حقول الفن المتنوعة، تمكّن التشكيلي المصري البارز حلمي التوني، الذي ترجّل عن دنيانا في...
سعد يكن.. وراء الفراشة، بألوانها الضاجة بالحياة، تختبئ الفاجعة السورية
ولد الفنان التشكيلي سعد يكن في مدينة حلب 1950م في حي الفرافرة، من أسرة تركية الأصل. شارك في أكثر من مئة معرض جماعي في...
0 تعليق