كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
مواقع أثرية في شمال غرب شبه الجزيرة العربية في ضوء الاكتشافات الأثرية
شهدت شبه الجزيرة العربية في بدايات الألف الأول ق. م. دلائل على وجود مجتمعات بشرية، في شمالها الغربي، مرتبطة بنشأة الممالك اليمنية القديمة إلى الجنوب منها، ممثلة في ممالك سبأ ومعين وقتبان وحضرموت وأوسان بصفة رئيسة((أستاذ تاريخ وحضارة مصر والشرق الأدنى القديم، وعميد كلية الآثار الأسبق، جامعة القاهرة، جمهورية مصر العربية. راجع لمزيد من التفصيل شاهين (علاء الدين)، «تاريخ الخليج والجزيرة العربية القديم»، منشورات ذات السلاسل، الكويت، 1418هـ/ 1997م، 193-229:))، وتدشينها للعديد من طرق التواصل البري، وبخاصة ما بين بلاد الشام واليمن عبر شبه الجزيرة العربية، فيما عرف بالطريق البري الشهير- الذي تردد صداه تاليًا في نصوص القرآن الكريم: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ}– خاصة ما ارتبط بتجارة اللبان والمر (البخور)، والدور الرئيس الذي ترتب على تدجين الإنسان للإبل والسفر عبر فيافي الصحراء أوائل الألف الأول قبل الميلاد، في أغلب الآراء((عن تدجين الإبل راجع مايكل ربنسكي، «الأصول المبكرة….» ترجمة علاء الدين شاهين.)).
وكشفت أعمال المسح الأثري من قبل البعثات الأثرية بقايا تراثية تعكس ملامح لبعض أشهر تلك المواقع في شمال غرب شبه الجزيرة العربية في الألف الأول قبل الميلاد، وبخاصة ما ارتبط بواحة العلا (الخريبة)، مدائن صالح (الحجر)، وأدوماتو (دومة الجندل) بصفة جوهرية. وسوف تلقي هذه المقالة الضوء على هذه المواقع الثلاثة بصفة أولية، وفي مقالات تالية سنتناول مناطق أثرية أخرى من تاريخ المملكة العربية السعودية.
العلا (الخريبة): تقع العلا في الشمال الغربي للمملكة العربية السعودية، وتبعد من المدينة المنورة مسافة 300 كيلومتر، وتعد من الأماكن الاستثنائية الزاخرة بالتراث الطبيعي والإنساني. وتُعَدّ محافظة العُلا أول مواقع السعودية المسجلة في لائحة اليونسكو للتراث العالمي عام 2008م. وفي العلا وادٍ من الواحات الخضراء، وجبال شاهقة من الحجر الرملي، ومواقع أثرية وثقافية قديمة يعود تاريخها إلى آلاف السنين، وإلى حضارات سكنت المنطقة ومنها حضارتا دادان ولحيان.
أبانت أعمال الكشف الأثري في موقع العلا عن آثار من العصر البرونزي الحديث إلى العصر الحديدي. وزار المكان العديد من المستشرقين وعلماء النقوش والآثار الأوربيين من بينهم موسل (1910م) وريكمانز (1967م)، كما زارته بعثة من معهد الآثار بجامعة لندن (1968م) وبعثة جامعة تورنتو الكندية (1969م).((«مقدمة عن آثار المملكة العربية السعودية»، إدارة الآثار والمتاحف، الرياض، 1975م، ص97؛ شرف الدين (أحمد حسين)، «مسالك القوافل التجارية في شمال الجزيرة العربية وجنوبها»، دراسات تاريخ الجزيرة العربية، الكتاب الثاني: «الجزيرة العربية قبل الإسلام»، الرياض، 1984م، ص 16. الجدير بالذكر أنه تأسست الهيئة الملكية لمحافظة العلا بمرسوم ملكي في يوليو 2017م للحفاظ على العلا وتطويرها، وهي منطقة لها أهمية طبيعية وثقافية بارزة في شمال غرب المملكة العربية السعودية. تتبنى خطة الهيئة الملكية لمحافظة العلا على المدى الطويل نهجًا مسؤولًا ومستديمًا وحساسًا للتنمية الحضرية والاقتصادية، يحافظ على التراث الطبيعي والتاريخي للمنطقة، ويجعل العلا موقعًا مرغوبًا فيه للعيش والعمل والزيارة ويشمل مجموعة واسعة من المبادرات في مجالات الآثار، والسياحة، والثقافة، والتعليم، والفنون، مما يعكس التزامًا بتلبية التنويع الاقتصادي، وتمكين المجتمع المحلي، وأولويات الحفاظ على التراث في برنامج رؤية المملكة العربية السعودية 2030. راجع: https://www.jusur.com/articles-and-interviews)) ويوجد بها عدد من المقابر المنحوتة في الجبال نحتًا هندسيًّا بارعًا إلى جانب العديد من النقوش الدادانية واللحيانية والمعينية والثمودية والنبطية وآثار للعيون وبقايا القلاع والسدود((«مقدمة عن آثار المملكة العربية السعودية»، الطبعة الثانية 1420ه/ 1999م، وكالة الآثار والمتاحف، الرياض، ص 68.)).
مدائن صالح (الحجر): وهي من أشهر مواقع الآثار التاريخية في المملكة العربية السعودية، وتشهد على حضارة عريقة ضاربة في القدم.((العسال (منا محمد)، «الحجر «مدائن صالح» دراسة جيومورفولوجية وجيوأركيولوجية لسياحة بيئية مستدامة»، مجلة بحوث كلية الآداب، جامعة المنوفية، المجلد 31، العدد 121 (إبريل 2020)، ص 2473- 2528.)) وتعود التسمية إلى النبي صالح وقومه ثمود. وقد عُرفت في القرآن الكريم؛ فجاءت بوصفها مدينة منحوتة من الجبال والصخور((«مقدمة عن آثار المملكة العربية السعودية»، ص 72. يعد أول موقع أثري، ضمن الإطار السياسي للمملكة العربية السعودية، يدرج في قائمة التراث العالمي. كان يسمى في الماضي الحجرة، وهو أكبر موقع مُصان لحضارة الأنباط جنوب البتراء بالأردن. ويحوي مقابر ضخمة مُصانة جيدًا، تعود واجهاتها المزخرفة إلى القرن الأول قبل الميلاد وصولًا إلى القرن الأول الميلادي. وتعتبَر مقابره الضخمة البالغ عددها 111 مقبرة (وقد زُين 94 منها بالزخارف)، وآباره المائية، مثلًا استثنائيًّا عن الإنجازات المعمارية للأنباط وخبراتهم الهيدرولوجية. https://whc.unesco.org/ar/list/1293)). وقد كشفت أعمال المسح الأثري وبعض أعمال البعثات الأثرية أخيرًا عن بقايا أثرية مهمة وملامح معمارية مميزة للمنشآت الجنازية، في المكان، أوضحت صلات وتأثيرات حضارية مع المراكز الحضارية المجاورة. وقد عُثر في هذا المكان، وفي موقع العلا، على بقايا تماثيل بشرية من الحجر منحوتة بإتقان، وقد ربط جوسين وسافيناك بينها وبين معبد لحياني في المكان، وتعكس تشابهًا مع ما نعرفه عن التماثيل المصرية من القرنين الثالث والأول قبل الميلاد((الأنصاري (عبدالرحمن) وأحمد غزال وجفري كنج، مواقع أثرية وصور من حضارة العرب في المملكة العربية السعودية، الرياض، 1984م، ص 10؛ مهران (محمد بيومي)، تاريخ العرب القديم، الجزء الثاني، الطبعة الحادية عشرة، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية 1994م، ص 301؛ Saleh, A., “some monuments of north western Arabia in Ancient Egyptian style,” Bulletin of Faculty of Arts, Cairo University 28 (1970), pp. 1-31; figs 1-6; fig. 9. أكدت الهيئة الملكية لمحافظة العلا أن توقيع اتفاقية تعاون بين المملكة وفرنسا لتطوير المواقع التراثية والتاريخية في محافظة العلا يأتي تجسيدًا وانعكاسًا لالتزام المملكة الراسخ بحماية الإرث العالمي والنهوض به وإدراكها لأهمية تطوير السياحة المستديمة والتراث الثقافي مع شركائها من بيوت الخبرة حول العالم وتعزيز سبل التعاون مع الشركاء كافة في مختلف القطاعات من خلال تنفيذ مشروعات متنوعة تحقق الأهداف المنشودة. وأوضحت الهيئة في بيان صادر عنها اليوم أن الاتفاقية تشمل، العمل على المشاركة في وضع التصورات المستقبلية لمشروع تطوير ثقافي وتراثي وسياحي طويل الأمد، لحماية وتطوير المواقع التراثية والتاريخية لمحافظة العلا تحقيقًا للتحول المستديم في المحافظة لتمكين الزوار المحليين والإقليميين والدوليين من التعرف إلى ثراء إرثها الثقافي والتاريخي والطبيعي وإرث المملكة بشكل عام، وعلى الحضارات العربية والقيم المحلية تماشيًا مع أهداف رؤية 2030 الرامية إلى دعم جهود بناء اقتصاد مزدهر. وأشار البيان إلى أن فرنسا تعد شريكًا مميزًا لما حققته من نجاحات باهرة وكبيرة في مجالات السياحة والضيافة وحفظ التراث والآثار ومجالات الفنون. https://www.rcu.gov.sa/ar/media-gallery/articles)).
ورد ذكر الموقع باسم «مدائن صالح» في كتابات دوتي عام 1876م، ثم تلاه في التسمية العديد من المستشرقين. وكان البلوي الأندلسي، الذي زارها عام 737هـ، في طريقه إلى مكة، أول من سمَّاها «مدائن صالح». وزار المكان الرحالة الفرنسي تشارلز هوبر عام 1880م وتحدث عنها بإسهاب في كتابه «رحلة إلى بلاد العرب» المنشور في باريس عام 1891م. كما زار المكان في أوائل القرن العشرين جوسين وسافيناك، لحساب الأكاديمية الفرنسية؛ لجمع النقوش، ونشرا ما جمعاه في كتابهما الضخم بعنوان: «البعثة الأثرية العربية» (Mission Archelogique Arabie) عام 1909م، وبالمثل ذكرها عبدالله فلبي في كتابه « أرض مديان» (The land of Median) المنشور في لندن عام 1959م((Parr, P. J. , “Archaeological sources of the early history of North west Arabia, “ Studies in the history of Arabia, Vol I, part I, University of Riyadh Press, 1979, p. 37.)).
ومن بين الاكتشافات المهمة في الآونة الأخيرة: العثور على نقوش آرامية تمثل أقدم خط آرامي حتى الآن، في مدينة الحجر، تعود إلى الألف الأول قبل الميلاد. ويشير الدكتور سليمان عبدالرحمن الذييب، عضو في البعثة الاستكشافية في مواقع العلا، إلى أن هذا النقش معاصر لمملكة سبأ التي تُعَدّ أقدم مملكة في شبه الجزيرة العربية((https://mirdad.app/articles/526)).
أدوماتو (دومة الجندل)
يمثل موقع أدوماتو (دومة الجندل)، فيما يعرف باسم مملكة قيدار العربية، مجتمعًا حضاريًّا مميزًا انتفع بما حبته الطبيعة في المكان من واحة فيها مياه جوفية وأرض صالحة للزراعة، كما انتفع من أعمال التجارة؛ لوقوعه على الخط التجاري البري الرئيس لمراكز ممالك اليمن القديمة وتجارتها مع بلاد الشام.
وكشفت أعمال التنقيب في المكان عن ملامح مميزة لحضارة العصر الحديدي وما يليه إلى القرن الثالث قبل الميلاد. وتعكس البقايا الأثرية المبكرة في المكان وجود دلائل على استقرار بشري فيه بدأ من العصر الباليوليثي (العصر الحجري القديم)، واحتمالية العصر النيوليثي (الحجري الحديث) وانتشرت في المكان النمط المعماري المعروف باسم الدوائر الحجرية المرجح من العصر الخالكوليثي (الحجري النحاسي) مشابهًا لمثيله في الأردن وصحراء شبه جزيرة سيناء المصرية((شاهين (علاء الدين)، تاريخ الخليج وشبه الجزيرة العربية، ص 278- 279.)).
وقد تعددت الإشارات النصية إلى المكان في المصادر النصية من الحضارة الآشورية في صراعها ضد المكان والمناطق المجاورة وبخاصة من عهد تجيلالات بليسر (745- 727 ق.م). وتردد بعض أسماء الملكات العربيات في المكان مثل الملكة زبيبة وسمسي، والتأثير السلبي في المكان نتيجة تطبيق الآشوريين لسياسة الترحيل البشرية وما نجم عنها من تغيير ديموغرافي في المكان((شاهين (علاء الدين)، تاريخ الخليج وشبه الجزيرة العربية، ص 280.)). ولعل أهم ما عثر عليه في المكان ما ارتبط بالحضارة النبطية وما كشفت البعثة من جامعة تورنتو الكندية برئاسة ونيت من نقوش نبطية، ومن عمارة لمعبد نبطي في المكان.
المنشورات ذات الصلة
الآثار في السعودية… منذ أول بعثة أجنبية للتنقيب إلى قائمة التراث العالمي
بدأت أنشطة البعثات الأثرية الأجنبية على أرض المملكة العربية السعودية في أوائل الخمسينيات من القرن العشرين، وكان لشركة...
باحث سعودي يعيد بني إسرائيل إلى جنوب غرب الجزيرة العربية كتابه لا يخلو من ملاحظات ويقينية غرائبية
فاتحة بين يدينا كتاب جديد، يطرح موضوعات قد استقر الأمر عليها دهرًا، حتى حرك مياهها كمال الصليبي بأطروحته «التوراة جاءت...
0 تعليق