كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
تلازم ووعي مقاوم.. تسريد الحرب في الرواية السودانية
مدخل: تهدف هذه الكتابة إلى تقديم قراءة مزدوجة عن الحرب وتأثيرها وكيفية تناولها داخل متن السرد السوداني على مستوى النصوص الروائية، وعلى المستوى التخييلي والاجتماعي- المعرفي، كما تحاول في الآن ذاته رصد واستكناه مواقف السراد -كُتّاب الرواية- السودانيين وتبيان حجم تفاعلهم أو تورطهم في الحرب الدائرة الآن في السودان ما بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع. أتناول بالقراءة عملين روائيين رأيت أنهما قدما تشريحًا فنيًّا وسرديًّا دقيقًا لتأثيرات الحرب في السودان، سواء تلك التي ارتبطت بالحروب السودانية القديمة أو ذات الارتباط المباشر بالحرب الدائرة الآن. ومن خلال هذا الرصد أرمي إلى مقاربة القدرة الرؤيوية التي استبطنتها هذه الأعمال، وتمظهرت إما في شكل موقف تحذيريّ/ تَنَبُّئِيّ من نشوب الحرب الكبرى، أو طرح أسئلة مفتاحية تتعلق بالإشكالات المجتمعية المتولدة عن أثر الحروب السودانية السابقة، وكان من الممكن عن طريق الإجابة عنها، تلافي كثير من التعقيدات المجتمعية والثقافية التي قادت إلى الوضع الكارثي الذي يواجهه السودان الآن.
واخترت ثلاثة من كتاب السرد السودانيين كشفت مواقفهم المعلنة إثر الحرب الأخيرة عن التورط المباشر في وقائع الواقع المتشابكة والمعقدة التي تتفوق أحيانًا على الخيال نفسه، مثلما حدث في الحرب الأخيرة بكل تداعياتها المحزنة. كما أطمح من وراء هذا الاختيار بناء رؤية تخييلية لما يمكن أن ينتجه مخيال هؤلاء الكتاب إن أتيح لهم إنتاج أعمال سردية- روائية وقصصية أو سيرية-و تتناول تداعيات ما يمكن أن نطلق عليها حرب الخرطوم، المتوجة لكل الحروب السودانية السابقة لها.
تأسيس نظري
«إن الحرب في الحقيقة ليست سوى الإفصاح عما ترمي إليه السياسة. إن إخضاع السياسة لوجهة النظر العسكرية لغو؛ لأن العامل السياسي هو الذي يقرر الحرب، ويرى أنه يجب أن نسعى إلى الحرب بكل ما لدى الأمة من طاقات، ثم الدخول في معركة متكافئة. إن الميل لسحق العدو أمر ملازم لفكرة الحرب، والنصر أليس سوى مرادف للإبادة؟».
ما المراد بأدب الحرب؟
هل هو كل كتابة أدبية تناولت بشكل من الأشكال صورة أو ملمحًا للحرب أو المعركة أو القتال؟ هل الكُتاب معنيون ضمن مشروعاتهم الإبداعية بملاحقة ومتابعة آثار الحروب والكتابة عنها بصورة يقصد منها الدفع المعنوي أو الإعلامي… إلخ.
الحرب بما تمثله من هاجس إنساني ظلّ يؤرق البشرية في كل مراحل تاريخها الممتد لملايين السنين؛ وبما تمثله دومًا من تهديد لاستمرار هذه البشرية وجودًا على سطح هذا الكوكب بصورة آمنة؛ وبما تعنيه أبدًا من تهديد لكل القيم النبيلة والخيرة والإنسانية. تحت كل هذه المعاني أو المسلمات يصبح من حق الإنسان مقاومة ومدافعة هذا الشيء الكارثي الذي نسميه حربًا، معركةً، قتالًا،… إلخ.
انطلاقًا من هذا التأسيس يصبح لزامًا على الكاتب -المثقف، المبدع- اتخاذ موقف تجاه هذه الفكرة الانهزامية، بالوقوف ضدها، وبالانحياز لكل ما يمكن أن يحقق السلم والأمن ويجتث الحروب من جذورها. هذا الموقف من الكاتب أو المثقف يرتبط ارتباطًا عضويًّا بالكتابة والمنتوج الأدبي أو الإبداعي، بمعنى أن مقاومة ومحاربة التشوهات الإنسانية والانحرافات المجتمعية -الحرب أسطع صورها- هي أساس من هموم الكتابة والإبداع بصورة عامة؛ وهذا يعني أن الهم التاريخي المجتمعي والإنساني أحد الشروط الأساسية التي تنبني عليها الكتابة الإبداعية. هذا، على الأقل، بالنسبة لما أكتبه وأتبناه ضمن مشروعي الإبداعي. فكتابة لا تحفل بالمتغيرات المجتمعية وما يعتريها من تفكك وانحلال- نتاج ظواهر في ظاهرها الغموض والانبهام وفي بروزها المباغتة، وإن كانت تتكون ببطء وفي غفلة من الجميع- هي غير جديرة بالتوقف عندها؛ على الأقل تحت الظرف التاريخي الراهن، محليًّا وعالميًّا؛ إذ كيف يمكن أن تُكتب وموت مجاني مجنون يحاصر الجميع؟
يجب عدم الفصل بين ما هو إبداعي وما هو اجتماعي «سياسي- تاريخي». هذا يستدعي أيضًا إيضاح أن هذا الدمج أو هذا الحمل المزدوج للهمّين الإبداعي والاجتماعي يحدده ويشرطه في حالة الكتابة الإبداعية، الأدبية، مدى توافر الأدبية والإبداعية في هذا المنتوج الإبداعي؛ فليس كل كتابة اتخذت من الحرب -مثلًا- مدخلًا للإبداع هي كتابة إبداعية، كما ليس كل كتابة اجتماعية تدثرت بدثار الأدب هي كتابة إبداعية، وهذا معلوم بالضرورة للمشتغلين بالأدب.
ثمة ملاحظة أخيرة تتصل بالمعنى المراد لمصطلح «أدب الحرب» وهي أن هذا المصطلح يتحدد خلال هذه الكتابة بمنأى عما أصطلح على تسميته بالأدب المعنوي أو الأدب التعبوي؛ إذ إن هذا المصطلح- ضمن هذه الكتابة- يعمل على شجب الحرب وإدانتها إطلاقًا دون موقعتها تحت أي تسميات إجرائية أو تبريرية.
حرب الخرطوم
دفعت حرب الخرطوم الأخيرة، أو حرب الخامس عشر من إبريل 2023م، كثيرًا من الباحثين والصحافيين إلى محاولة بحث الأسباب الحقيقية لاشتعالها، ومن ضمن الوسائل التي لجأ إليها هؤلاء الباحثون والصحافيون التنقيب في الرواية والسرد السودانيين، في محاولة جادة لالتقاط تفاصيل تفسيرية أنتجتها هذه الأعمال السردية، ولا سيما أن انشغال كتابها في السنوات الأخيرة كان منصبًّا بشكل ملحوظ على تناول موضوع الحرب سواءٌ تنقيبًا في المتن التاريخي السوداني، أو إسقاطًا على واقع الحروب السودانية الكثيرة بعد تكون الدولة السودانية الحديثة. وبالطبع أطولها الحرب التي دارت بين شمال السودان وجنوبه -قبل الانفصال- لأكثر من خمسين عامًا قُتِلَ خلالها أكثر من مليوني شخص. يقول الصحافي والباحث الإعلامي يوسف حمد: «هناك تقارب ورفقة ما بين بداية الحرب الأهلية في جنوب السودان (1955م) وتاريخ ظهور الرواية السودانية في ستينيات القرن الماضي، وكلما تطورت واحدة أمسكت بيد الأخرى حتى وصلنا إلى حرب دارفور الشرسة والحرب التي اندلعت حاليًّا». وكأنما يريد يوسف حمد أن يقول هنا: إن ترافق الرواية السودانية للحرب السودانية بدا وكأنه حالة وعي مصادم ومقاوم لهذه الحالة الاحترابية منذ بداية اندلاعها العنيف في خمسينيات القرن المنصرم.
عشرات الأعمال الروائية والقصصية السودانية كان محور موضوعاتها الأساسي هو الحرب، سأشير هنا إلى بعضها قبل أن أعود وأركز على العملين المختارين للقراءة التطبيقية. من الأعمال المهمة التي تناولت الحرب بصورة مباشرة أو بجعلها ثيمة مخفية يستحيل قراءة العمل دون الإحالة إليها نجد أعمال كل من: أحمد حسب الله الحاج «فاشودة»، منجد باخوس «جمجمتان تطفئان الشمس»، عاطف عبدالله «قصة آدم: فوق الأرض- تحت الأرض»، الهادي علي راضي «فريق الناظر»، عماد البليك «قارسيلا»، أحمد حمد الملك «الحب في زمن الجنجويد»، أسامة الشيخ إدريس «النهر يعرف أكثر». وغيرها من الأعمال القصصية والروائية المهمة.
نماذج تطبيقية
العملان المختاران في هذه القراءة قدما شكلين من كتابة الحرب: الأول يعبر عن الحرب في التاريخ السوداني، والثاني يسائل أعنف وأطول الحروب في السودان وأكثرها تأثيرًا في مسيرته الحديثة. وجاء النموذجان في قالب روائي يستوعب التحولات التاريخية والاجتماعية العميقة التي أحدثتها هذه الحروب. كما أنهما وفقا إلى حد كبير في تقديم رؤية سردية متقدمة عن الحرب وفظائعها وتأثيراتها المجتمعية والسياسية والتاريخية، فهما بالتالي يصلحان تمامًا لعرضهما وفق المنهجية المتبعة في هذه القراءة.
النموذج الأول: رواية صقر الجديان
قدم القاص والروائي محمد سليمان الفكي في هذه الرواية صورة مرعبة لبشاعة الحرب وقدرتها على تدمير الفرد، والجماعة، والأمم والدول. فمن خلال سرد قصة صحافي التحق بالقوات الشمالية المحاربة في جنوب السودان، بهدف إعداد تقارير صحافية لصالح صحيفة القوات المسلحة الرسمية؛ نقترب بشكل مؤلم من مآسٍ وفظاعة أسوأ حرب شهدتها إفريقيا خلال القرن العشرين.
نجح كاتب هذه الرواية/ الإدانة، في نقل (الألم) من صورته التخيلية الأدبية ليقترب في معناه من المحسوس الموجع إلى درجة الغثيان. فقراءة هذا العمل هي تجربة مؤلمة للنفس والجسد ناتجة عن التعذيب والخوف والرعب والفقدان المتدرج للعقل، وكل ما يمكن أن تسببه الحروب البشعة من آلام للفرد (الجندي، المواطن، الأسير)، حتى الحيوان الهائم في غابة التوحش التي تماثل -للمفارقة- الجنة في مقابل وحشية الإنسان الذي في سبيل اللاشيء يمضي لإبادة كل أثر للحياة.
رمزية صقر الجديان (شعار دولة السودان) وعنوان الرواية ولقب إحدى الشخصيات الرئيسة، تأتي ملتبسة وشعرية وغامضة تتداخل مع التوحش والذكاء والجنون الذي يدمغ الرواية من بدايتها إلى نهايتها. إنه عمل بديع، لكاتب جبار.
النموذج الثاني: رواية شوق الدرويش
أثارت رواية شوق الدرويش للروائي السوداني حمور زيادة كثيرًا من الجدل حين صدورها، ومبعث ذلك الجدل تلك المنطقة التاريخية الحساسة التي اشتغلت عليها الرواية، وهي حقبة المهدية. فالرواية عبر ثيمات متداخلة عدة (الحرب، المهدية، الرقيق، الغزو الأجنبي)، تناولت جانبًا من التاريخ السوداني يكاد يكون غير مطروح بصورة كافية، أو تنتابه كثيرًا من جوانبه العتمة والتشويش، سواء من المؤرخ السوداني (المهزوم) أو المؤرخ الأجنبي (المنتصر). وعلى الرغم من أن الرواية عمل فني بحت لا يخضع للمراجعات العلمية والأكاديمية كما يحدث للكتابة التاريخية المتخصصة إلا أن شوقَ الدرويش وكاتبَها لم يَنجوَا من تُهَم التخوين وتزييف التاريخ…
في مدخل رواية شوق الدرويش يقول الراوي: «أتتهم الحرية على بوارج الغزاة وخيولهم في سبتمبر 1898 مع دخول الجيش المصري للبلاد انكسرت دولة مهدي الله». ربما وجد بعض نقاد الرواية في هذا المفتتح مدخلًا لتصنيف الرواية بأنها عمل ضد المهدية/ الوطن، لكن «هل كان الراوي يقصد هنا تحرير السودانيين من حكم المهدية- الوطني- الذي اتصف بالعنف والعسف؟ هل المقصود وفقًا لسياق النص تحرير سجناء سجن الساير سيئ السمعة بغض النظر عن جنسية السجناء وموقعهم الاجتماعي، سادة كانوا أو عبيدًا، وطنيين أو أجانب؟ أم هل المقصود بالتحديد هم العبيد، الذين يتمحور نص الرواية بشكل أساسي حولهم، متخذًا من شخصية «بخيت منديل» مرتكزًا أساسيًّا لتبئير السرد»؟ ما يعنينا هنا أن هذا المفتتح يشير بوضوح إلى الحرب العنيفة التي تعرض لها السودان في نهاية مدة حكم المهدية التي اتصفت بدورها بكثرة الحروب، حتى إنه بإمكاننا وصفها بأنها كانت لحظة حكم حربي ممتد منذ البداية إلى النهاية. حروب طويلة ومتعددة امتدت تأثيراتها حتى اللحظة الراهنة (الحرب الدائرة) متمثلة في شكل الاصطفاف غير المحسوس الذي حاول بعضٌ الترويج له، بأن حرب اليوم لا تختلف في ملامحها عن حروب المهدية الوطنية، أو بمعنى آخر «أولاد البحر ضد أولاد الغرب»، أو «الجلابة ضد الغرابة»، أبناء شمال السودان ضد أبناء غرب السودان!
يقول الكاتب محفوظ بشرى عن رواية شوق الدرويش: «على الرغم من التوتر والحساسية التي تعتري تناول هذه الفترة نظرًا إلى الاختلاف بين من يرونها ثورة وطنية طردت الاستعمار التركي، لكن تم تشويهها من قبل المؤرخين الأجانب. والفريق الآخر الذي ينظر إليها بوصفها حقبة من الإرهاب والقتل والترويع بسبب التطرف الديني وذلك بالاستناد إلى الروايات الشفهية المحلية وما سطره الناجون من الأسرى المصريين والأوربيين. لكن زيادة نجح في شوق الدرويش في استخدام أكثر المراجع التاريخية عن تلك الفترة فجمع منها التفاصيل والقصص التي أعاد استخدامها بسيناريوهات خدمت هدف الرواية الأساسي: سرد قصة الإنسان في تحولاته الوجودية التي لا يقيدها زمان أو مكان». المقطع السابق يعطي فكرة شبه كاملة عن أحداث الرواية، والأثر الذي أحدثته في تلك الحقبة (الإرهاب والقتل والترويع) حسب سياق الرواية، إضافة إلى الأثر الاجتماعي الممتد تاريخيًّا حتى وقتنا الحاضر محمولًا على سيرة بطل الرواية المسترق/ الحر مثلما تروي سيرته الروائية، وما تمثله بالتالي من سيرة للعتقاء وأحفاد المسترقين في المجتمع السوداني الحديث (الدولة الحديثة) ومدى تأثيرهم وتأثرهم بالتحولات التي صاحبت تاريخ الدولة الوطنية.
تفكك رواية شوق الدرويش المجتمع في العهد المهدوي، وتقدم صورة كاشفة لشكل العلاقات التراتبية لأفراد هذا المجتمع المقهور، وتبرز خلال ذلك وجهًا بشعًا للمهدية؛ تتحكم فيه الدولة الدينية القابضة والمتشددة، وتحرك مفاصله الحروب المتوالية بكل عنفها وعسفها، وما تطرحه من ظلم على هامش فظاعتها الميدانية داخل حواضر وقرى السودان الكبير: «اجتاح الدراويش الخرطوم عند الفجر. انهد السد فطاشوا بأنحائها. انتشروا كالجراد (…) قبل أن ينتصف النهار وصلوا. تحطم الباب وعبروا جثته إليهم. ذبحوا الأب بولس. أمسك به أربعة منهم وقطع خامس عنقه وهو يكبر الله».
تلخص رواية شوق الدرويش في أحد جوانبها واحدة من أهم السمات التي لازمت الدولة السودانية في حقبتيها الوطنيتين (المهدية وما بعد الاستعمار)، وهي سمة الحروب الداخلية العنيفة التي تواجهها الدولة القابضة ضد مواطنيها بمختلف مكوناتهم السياسية- الاجتماعية، وبتوصيفات إدانة وتخوين مختلفة (متمردين، مارقين، مخالفين، خونة،… إلخ). وبناءً على هذا التلخيص يمكننا القول: إن هذه الرواية، أشارت بشجاعة إلى مكمن الخلل في البنية السياسية للدولة السودانية القابضة، قديمًا وحديثًا، وإننا وفقًا لهذه الإشارة لا يمكننا محاكمتها سياسيًّا أو تاريخيًّا لكن بالإمكان أن نأخذ بها كسؤال سردي مقلق ولافت دفع كثيرين إلى النبش في التاريخ السوداني قديمه وحديثه.
روائيون في مواجهة الحرب
استندت في هذا المبحث على مقال أخير تناولت فيه علاقات صناع الخيال بالحرب الدائرة الآن في السودان، محاولًا رصد مواقفهم ككتاب ومثقفين مؤثرين، وكيفية تفاعلهم مع ما جرى ويجري. كما حاولت ربط ذلك ببعض منتوجاتهم السردية (الروائية)، التي توضح بصورة مسبقة موقفهم من الحرب بشكل عام.
بركة ساكن
كتب الروائي عب العزيز بركة ساكن في حقبة التسعينيات، قصة قصيرة مرعبة، وكانت الحرب مشتعلة، أقسى الحروب وقتها وأطولها؛ حرب الجنوب. في نهاية هذه القصة وبعد تجربة فانتازية يتعرض جندي مسكين للموت متفجرًا بلغم بعد أن ظن -وظننا- أنه وصل أخيرًا إلى بَرّ الأمان؛ أمام بوابة قيادته العسكرية، في صورة خيالية مبهرة تقارب ما يحدث الآن أمام بوابة سلاح المدرعات أو سلاح المهندسين أو غيرهما من القواعد العسكرية المحاصرة في الخرطوم «عاصمة الحرب».. القصة اسمها «حذاء ساخن»؛ حذاء يطأ لغمًا فيتطاير جسد مرتديه إلى أشلاء متناثرة.
لبركة ساكن أعمال أخرى قصصية وروائية غارقة خيالًا في الحروب والدماء، تنذر انفعالًا من حال الدمار الذي ينتظرنا. ولبركة أيضًار-بركة الواقعي- موقفه المباشر المصادم الذي أعلنه لحظة اندلاع هذه الحرب. والكاتب الواقعي منتج الخيال، بلا شك يرى في سطوع ذاكرته وظلام أقبيتها ما لا يراه الآخرون، قد تتفق معه أو تختلف لكنه من موقعه هذا «الواقعي- الخيالي»، أراك رؤيته المحذرة التي تغلب -ضمنًا- كِفّة على الأخرى. حذّر بركة من اجتياح الجنجويد «الدعم السريع» للسودان بأجمعه وليس الخرطوم فقط، ودعا إلى مقاتلتهم وقتل طموحاتهم «الخيالية»! لكنه في الآن نفسه طالب بإيقاف الحرب! وبإدانة كل المتورطين فيها ومحاسبتهم سواء من الجيش أو من الدعم السريع.
كيف كان حضور صانع الخيال هنا؟ هل أرعبه خياله منتج «مسيح دارفور» مما سيأتي؟ أم إن خياله منتج ما سيأتي هو الذي أرعبه واستدعاه للتورط في حرب «الانحيازات» و«الاصطفافات» التي أُقحم فيها إقحامًا؟
عزت الماهري
فوجئ الأصدقاء «الإسفيريون» لكاتب ومنتج الخيال عزت الماهري، بأنه هو نفسه يوسف عزت المستشار السياسي لقائد قوات الدعم السريع! مكمن المفاجأة تأتى من كونهم لم يتصوروا مطلقًا أن خالق عوالم وشخصيات النص السردي البديع «جقلا نشيد الرمل» سيتورط إلى هذا الحد في السياسة إلى أن يعتلي فوهة البنادق والمدافع ممثلًا لإحدى الفئتين المتقاتلين! هذا «خيالي»! ربما صرح بعضهم إلى بعضٍ بهذا أو أسرُّوا به إلى أنفسهم. فما يدور من قتال الآن وبكل تداعياته الغرائبية لم يكن متوقعًا لأكثرهم، وأن يكون صديقهم -منتج الخيال- جزءًا من هذه المخيلة الغرائبية أو المقتلة المرعبة أيضًا لم يكن شيئًا متصورًا. فأي خيال أنتج هذه الحرب (العبثية)، أو أي مفاعل للتخييل أنتج شخصياتها الفاعلة والمنفعلة بها تأثيرًا، والمحركة لها في لهيب النيران؟ أهو الخيال الجمعي «الباطن»، اللامنظور، المخفي بـ«الغباش» و«عكرة» الماء وصرير الريح في البوادي؟!
عبدالحفيظ مريود
انخرط الروائي والقاص والسيناريست عبدالحفيظ مريود (صانع الخيال متعدد المشارب)، في كتابات نقدية متصلة بالحرب المحتدمة في السودان، منتقلًا بشكل صادم لزملائه ورفاقه القدامى (في العمل وربما التنظيم)؛ من مربع مناصرة القوات المسلحة إلى نقدها بعنف والانحياز الواضح إلى قوات الدعم السريع، مسندًا موقفه هذا على «خطاب الهامش» وأيديولوجيته ورؤيته لـ«سودان الغد» ضد «سودان 56». هل أبصر «خيال» مريود ما لم يبصره الآخرون؟ أم إن الأمر لا يتعدى محاولة حالمة لبناء «بلد من خيال»؟
أخيرًا.. ما الخيال؟
يمكننا تقريب معنى الخيال كالتالي: «نشاط إنساني ينجز التأمل الذاتي بعيدًا من الواقع وقريبًا منه، وفيه تتجسد قدرة العقل أو النفس البشرية على اختراق الغوامض التي يمثلها مأزقها الوجودي». فهل اخترق إنسان السودان غوامض مأزقه الوجودي وأنتج حربه التي لا تبقي ولا تَذَر أملًا في سكون «رحاها» حتى يبصر جنته المحلومة أو المتخيلة… تلك التي تقع عند الضفة الأخرى للحرب والموت والدمار، ضفة السلام والأمن والطمأنينة؟
قد يبدو هذا خياليًّا و«عبثيًّا» فـالخيال مثلما يقول ناصر السيد النور: «مفردة مثيرة للغموض والدهشة، لكنها تظل محفزًا مستمرًّا في التجربة الإنسانية ومصدرًا للارتقاء بالحالة الإنسانية في أفقها المعرفي والبحث المستمر عن حلول لمشكلات الواقع. وأنماط الحياة والعلوم والمعارف تكونت في الخيال وتم إنجازها لاحقًا في العالم المادي». وفي تعريفه للخيال الروائي يضيف الناقد ناصر السيد النور: «لا يتحكم الخيال الروائي في بنية النص الروائي وحسب، بل ينتج الشكل الروائي ويظل حاكمًا لمساره وما يتطور عنه من أحداث متصورة خيالًا بالاستناد إلى بنية معرفية كتابية سردية. فالنص الروائي بوصفه فضاءً يتفاعل فيه الخيال واللغة مازجًا بين رؤية سردية تقرأ أحداثًا عبر شخصيات مجسدة بالمعني السردي في الشخصية الروائية، ورؤية تخييلية سردية مخططة من أجل تشييد عالمٍ ما، فالفضاء بالتالي جزء جوهري من الفعل الذهني لإعادة تشييد العالم ما دام الخيال لا يمكنه إلا أن يصور الأشياء التي تبدو امتدادًا فضائيًّا فسيحًا مخصبًا جماليات الواقع».
ما الذي (رآه) روائيو وقصاصو السودان قبل هذه الحرب مقترنًا بحروب السودان الماضية؟ وأي روائي- قاص منهم لم يستلهم حرب الجنوب، حرب دارفور، حرب النيل الأزرق، حرب جبال النوبة، حروب القبائل المتناحرة هنا وهناك في نص من نصوصه؛ مباشرة، أو تشكل الحرب خلفيته المغذية للأحداث والبانية للشخوص والمصاير المتخيلة خلقًا! فهل تكوَّن في ذاكرة أحدهم مشهد ما من مشاهد الخرطوم المحترقة الآن؟
هوامش مرجعية:
– سيد نجم، «أدب الحرب، الفكرة، التجربة، الإبداع»، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1995م.
– منصور الصويم، «أدب الحرب، شهادة»، اتحاد الكتاب السودانيين 2010م.
– يوسف حمد، صحيفة إندبندت عربية، العدد1417، 2023م.
– محمد سليمان الفكي الشاذلي، رواية «صقر الجديان»، دار الوتد 2020م.
– منصور الصُويّم، «مأزق الأسود.. ثيمة الرق في الرواية السودانية»، ورقة بحثية، ملتقى الرواية تونس 2019م.
– محفوظ بشرى، «حمور زيادة يسير على أشواك الدولة المهدية»، مجلة العربي الجديد 2014م.
– حمور زيادة، رواية «شوق الدرويش» ص 250.
– منصور الصويم، «السودان.. حرب الخيال ونقيضه»، موقع ألترا سودان: ultrasudan.ultrasawt.com
– Mansour El-Soumaim، Writers Select: New and Inventive Voices in Sudanese Literature، Writers Select: New and Inventive Voices in Sudanese Literature – ARABLIT & ARABLIT QUARTERLY.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق