لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير والاستنارة، فئة موجودة في كل المجتمعات والثقافات، ومتجذرة في تاريخ الشعوب والحضارات منذ القدم، وهي مطلب قائم ودائم ومتجدد، وصناعة ضرورية لكل مجتمع ولكل...
المقالات الأخيرة
شعر الأطفال وكسر النمط
ممَّا يؤخذ على القصائد الموجهة للطفل أنها تُكرِّس نمطًا معيَّنًا في الكتابة بحيث تتحوَّل جُلُّ القصائد إلى نَظْمٍ خالص لا شِعْر فيه، ولا مغامرة فنية تكسر هذا النمط إلا ما ندر. فأنت تقرأ هذا النوع من القصائد، وكأنك تقرأ قصيدة واحدة بطريقة واحدة. فموضوعات مثل: الأم، الأب، الربيع، المدرسة.. أصبحت موضوعات متكررة، ومتشابهة في طريقة إيصالها للطفل، فالأم مصدر الحنان والحب، والأب يشقى من أجلنا.. هذه معانٍ جليلة، ولكن لا بدَّ من مسحة شعرية تقوم على إدهاش الطفل وإثارة مخيلته، وهذه المسحة لا تتأتَّى بسهولة. فتلبُّس إحساس الأطفال بالأشياء ومعايشة خيالهم شرطٌ أساس في الكتابة للطفل، كأن يتناول الشاعر الأمَّ من منظور مخيلة طفولية بأنها شجرة كبيرة تأخذه أغصانها إلى الأعالي مع الطيور المغرِّدة والفراشات التي تداعب الأزهار، أو يتناول الأب بأنه طائر كبير يسافر به على البحار والجبال والوديان.
فالكاتب في يوم ما كان طفلًا وكان يتصوَّر الأشياء بمخيلته ويرسم لها قصَّة ويقيم معها حوارًا، من هنا فإن الطفولة منبع ثرٌّ في أن يستقي منها الكاتب الموضوعات، إما بالقيام بدور الطفل، أو بالعودة لطفولته هو.
وكسر النمط يأتي في صور عدة منها: طرق موضوعات جديدة، إدخال أدوات جديدة في عملية الإبداع. لكن الأهم من هذه الصور هو طريقة تناول الموضوع بأن تكون مختلفة عما سبق، بحيث تحمل نمطها الخاص بإيصال المتعة للطفل.
الخروج من دائرة التكرار
وإذا كان كسر النمط عاملًا مساعدًا في علاج كثير من القضايا التربوية والتعليمية، فهو كذلك في العملية الإبداعية بحيث يكسب المتلقي مزيدًا من المتعة ويفاجئه بنقله من حالة متوقعة إلى حالة أخرى لم تخطر على باله. وبالتالي، فإن ملل الأطفال من قراءة نصوصٍ متشابهةٍ لن ينتابهم وهو يقرؤون نصوصًا مختلفةً. ومن جهة أخرى، فإن لكسر النمط أثره في المبدع، فبمجرد التفكير في كتابة نص مختلف فإن ذلك حافز لتجدد روح الكتابة، وللتطلع إلى آفاق أخرى من الممكن أن تنفتح على صياغات جديدة للموضوع، كما أن كسر النمط له أثره أيضًا في القصيدة نفسها، وذلك حين ينتشلها من دائرة التكرار والمحاكاة إلى مستوى الإضافة والتنويع. وبالتالي، فإن الخيارات تكون مفتوحة للطفل في أن يتعدَّد تفاعله وتزداد متعته في اكتشاف صياغات مختلفة للموضوع الواحد؛ وهو ما يحفزه على التركيز أكثر والاستيعاب بصورة أفضل مما لو كانت الرتابة تتسيَّد القصيدة.
لنأخذ قصيدة «في بيتنا غيمة» للشاعر المغربي محمد عريج، وسنرى كيف انتقل بالموضوع إلى نمطٍ مختلف، يقول في بدايتها:
«تفضَّلي صديقتي الغيمةْ/ يا قدوتي في الحبِّ، والرَّحمةْ/ تفضَّلي.. تفضَّلي/ شرَّفتني في المَنزلِ/ هل تشربينَ قَهوةً، أم تشربينَ شايًا؟/ أم قبل هذا تشتهينَ أن تطيري/ بين ما في البيت من زوايا؟/ أن تدخلي دقيقةً لغرفتي الصغيرةْ/ لكي تسلِّمي على وسادتي الوَثيرةْ/
أو تجلسي في مكتبي/ فقربَهُ خزانةٌ مليئةٌ بالكُتُبِ/ وفوقَه كرَّاسةٌ صغيرةْ/ كتبتُ فيها قصصًا مثيرةْ/ عن النجوم اللامعةْ/ عن الطيور الرائعةْ/ وعن خرير الماءِ، والأشجار، والحقولْ/ وكل ما يمرُّ فوق الأرضِ من فصولْ».
(الغيمة) هنا موضوع أساس في النص، لكن الشاعر لم يتناولها بطريقة تعليمية معهودة كما في القصائد التي تتناول عناصر الطبيعة بأن تعدد فوائدها للطفل أو كيف تتكوَّن؟ بل حول الغيمة إلى صديقة تزور طفلة في غرفتها وتبدأ هذه الطفلة بأن تعرِّفها على تفاصيل دقيقة في المنزل، ويأخذها فرط الالتباس بالخيال بأن تعدَّ لها قهوة الضيافة أو شاي الحديث.
ثم يختم وتواصل الطفلة حوارها الأحادي مع الغيمة:
«تفضَّلي صديقتي الحَبيبةْ/ يا منبعَ الحنانِ يا طَبِيبةْ/ واقتربي من باقةِ الأَزهارْ/
فهي التي تُؤنسني في الدَّارْ/ لكنَّها عَطشانةْ/ وعطرُها عليلْ/ تحتاجُ منك قطرةً/
لكي تظلَّ حيَّةً/ في بيتنا الجميلْ».1
هنا يظهر دور الغيمة في إحياء الأرض، لكن هذا الدور لم يظهر وكأن الشاعر يعرِّف الأطفال بمهمة الغيوم بصورة مباشرة، إنما لجأ إلى أن يختم هذا التجوال الذي راحت الطفلة فيه بمخيلتها وهي تخاطب الغيمة إلى تلك الأزهار العطشى في المنزل؛ لكي تحن الغيمة عليها وتسقيها قطرة ماء، فتستمر فيها الحياة، ويظل البيت جميلًا بها.
ولكن لنا أن نسأل: هل كل كسر نمط يعد صالحًا للأطفال حين نكتب لهم قصائد؟
يشترط الناقد الدكتور علي الحديدي، في موضوعات الأطفال، التالي: «والشعر الذي يكتب للصغار يتحتم -لكي يكون شعرًا ناجحًا- أن تكون لغته شعرية، وأن يكون موضوعه ذا هدف ومغزى».2
الهدف والمغزى مطلب أساس قبل الدخول في تناول الموضوع نفسه، ولكي نضرب مثالًا على ذلك نأخذ قصيدة «أكل الولد التفاحة» للشاعر اللبناني حسن عبدالله الذي يقول فيها: في درس الإنشاءْ/ غمسَ الولدُ الهرَّةَ في الماءْ/ في درسِ الرسمْ/ رسمَ الولدُ الشمسَ، ولوَّنها بالفحمْ/ في درس التاريخْ/ لم يبصرْ جيشَ الفرعونِ الراكضِ في حقل البطيخْ/
وحين أتى وقتُ الراحةْ/أكل الولدُ التفاحةْ!3».
هنا كسر نمط أيضًا، فلا نكاد نعثر على مثل هذه الطريقة في قصائد الأطفال، صحيح أنها تعبِّر عن شقاوة طفل، ولكنها تعكس كآبة معتمة حتى إن الرسم الذي هو منطلق لأحلام الطفولة يتحول إلى صورة شمس ملونة بالفحم، كما أنها تعكس حالة من اللامبالاة لهذا الولد الذي يسخر من التاريخ وبعد الدرس يأكل غير مكترث بما صنع. إن القصيدة تطرح موضوع (الإهمال) وتتناوله بنمط مختلف قد يدخل الضحك على الطفل سخرية بهذا الولد الغريب. وقد يقول قائل: إن الإهمال حالة من أرض واقع الأطفال، وأراد الشاعر الإشارة إلى هذا الواقع الذي ليس كله تفوقًا وإبداعًا، فهناك الطفل المهمل، وعليه لا بد أن يعرف الطفل صفات المهمل كما يعرف صفات المتفوق. هذا القول لا غبار عليه من حيث المبدأ، ولكن بالعودة إلى القصيدة، فإن نمط الموضوع تأثيره سلبي في الطفل، وبالتالي فإن القصيدة لم تحدِّد موقفها من موضوع الإهمال، ولو تلميحًا، واكتفت برسم المشهد.
وعلى كلٍّ، فإن «التجارب الشعورية والعاطفية لدى الصغار مماثلة لتجارب الكبار، ولا تختلف إلا في مثيراتها وحوافزها.. غير أنه لا مكان في شعر الأطفال للمثيرات الحادة كالهوى المشبوب والرثاء، أو شعر المرارة والهجاء، أو الأسى الحزين، والكراهية المقيتة، أو القسوة المفرطة.. والإشارات الضمنية في شعر الأطفال يجب أن تكون محدودة وقليلة، حتى هذا القليل المحدود يتحتم أن يكون متعلقًا بالموضوعات التي تدخل في نطاق تجارب الصغار»4
ما نريد أن نعرفه من خلال هذا الكلام ليس الموضوعات التي تدخل في تجارب الصغار، بل كيف نُدخل الموضوع في تجربة الطفل، وكيف نجعله مقتنعًا به قبولًا أو رفضًا من دون التباس في إظهار موقف القبول أو الرفض.
- محمد عريج، في بيتنا غيمة، دائرة الثقافة، الشارقة، 2016م، ص: 10، 11، 12، 13، 14، 15. [↩]
- د. علي الحديدي، في أدب الأطفال، مطبعة العمرانية للأوفست، الجيزة، 1986م، ص: 199. [↩]
- عبدالله، حسن، فرح… شعر وأقاصيص شعرية للأطفال والفتيان، دار الساقي، ط1 2008م، ص: 52. [↩]
- د. علي الحديدي، في أدب الأطفال، ص: 199، 200. [↩]
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق