كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
مهزومون حتى العظم: رسائل سعدالله ونوس
ما الذي يمكن أن نعثر عليه في رسائل سعدالله ونوس المتناثرة والمتقطعة أحيانًا، والمكتوبة على امتداد ثماني سنوات؟ ما الذي يمكن أن تخبرنا به سطور الرسائل؟ كيف تبدو صورته من قرب؟ كان أندريه جيد يتصور أن يجد (إلهًا) في رسائل دوستويفسكي، لكنه وجد إنسانًا بائسًا متعبًا ومريضًا!! وكان كافكا يفترض أن «الأشباح» تسكن الرسائل!! في رسائل سعدالله لا توجد أشباح ولا آلهة. ثمة إنسان شقيٌّ ووحيد يفترسه إحساس مرير بالغربة؛ غربة سرية يعانيها ويرعاها داخله كأنها حقيقته الوحيدة. إنسان حبيس صورته وسجين مراياه، وحيد أمام نفسه طوال الوقت. يفرغ ما في جوفه ويغوص في دخيلة نفسه. يلاحق وساوسها وهواجسها وتشققاتها، منتهيًا إلى حقيقة وحيدة وواحدة، أن الكتابة هي الفعل الإنساني الوحيد القادر على لملمة شظاياه، ومصالحته مع نفسه!!
عندما صدرت مجلة «قضايا وشهادات» 1990م برئاسة تحرير (سعدالله ونوس وعبدالرحمن منيف وفيصل دراج) خصص العدد الأول لطه حسين «العقلاتية.. الديمقراطية.. الحداثة» كتب سعدالله افتتاحية العدد، مشيرًا إلى التعارض الجذري بين موقف ثورة يوليو وموقف طه حسين، أو التعارض الجذري بين سؤال الثورة وسؤال التنوير، وتهميش ثورة يوليو (ضيقة الأفق)!! لفكر طه حسين ودوره وفاعليته كمثقف!!…«وحين كان يفترض أن يزدهر مشروع طه حسين ويتنامى في الممارسة الثقافية والنضالية، دفع إلى زاوية مهملة فخفت صوته وخبا ضوؤه»!!
افتتاحية سعدالله الحادة، دفعتني إلى كتابة مقال «يوليو وطه حسين خصومة زائفة» تعقيبًا على مقاله، وإنصافًا لعلاقة طه حسين بثورة يوليو. نشر المقال بمجلة اليسار المصرية سبتمبر 1990م، وكان يرأس تحريرها حسين عبدالرازق، ثم قامت «قضايا وشهادات» بإعادة نشر المقال في العدد الثاني للمجلة!
في الرسائل يتوقف سعدالله أمام مقالي باليسار، وأمام تعقيب لي آخر حول افتتاحيته في رسالة سابقة، مؤكدًا أنه لا يفتعل خصومة بين طه حسين وثورة يوليو، ولكني أنا من يتعمد افتعال الخصومة معه!!
في ضريح عبدالناصر..!
في زيارته للقاهرة في أثناء مهرجان المسرح التجريبي الدورة الأولى، الذي كُرم فيها في سبتمبر 1989م وجهت الدكتورة هدى وصفي (مدير المهرجان) دعوة للغداء لعدد من المسرحيين، وحين وقفنا ننتظر بقية المدعوين أمام البوابة الرئيسة لحديقة الحيوان بالجيزة، أشرت لسعدالله إلى السفارة الإسرائيلية الواقعة في ذلك الوقت بإحدى البنايات على الرصيف المقابل! ما إن شاهد العَلَمَ الإسرائيلي على سطح المبنى يرفرف في سماء القاهرة، حتى انتفض وتقلص وجهه، وأخرج من حقيبته قرصًا مهدئًا وتناوله، مقررًا الابتعاد من فوره!! اقترحت دعوته إلى مكان آخر بعيدًا في مصر الجديدة فمضى صامتًا!! في الطريق توقفت أمام ضريح عبدالناصر بكوبري القبة، سألته إن كان لا يمانع في الزيارة فوافق، وبالفعل سجل في دفتر الزيارات كلمة شديدة العاطفية عن يوم وفاة عبدالناصر، وحال اليتم التي شعر بها، والحزن الذي أصابه!!…في اليوم التالي وبحس صحافي (متأخر بالطبع)! ذهبت إلى الضريح لنسخ كلمة سعدالله ونشرها.. وعندما أخبرته بذلك غضب بشدة، وأخبرني بضرورة عدم احتفاظي بنص ما كتب، وأنه لا يريد النشر!!
وفي الرسائل يمكن أن نلاحظ ما وراء هذا الغضب، إذ إن عبدالناصر إحدى المراجعات الكبرى في حياة سعدالله ونوس.. فعلى امتداد السنوات بحث طويلًا عن رؤية خاصة (غير أبوية) للتاريخ ووقائع، متخليًا عن كل يقين مطمئن!!
شعبوية منحطة
المهدئ نفسه وحبة الدواء نفسها، فتح سعدالله حقيبة وتناول حبوبه وهو يشاهد مسرحيته «الملك هو الملك» إخراج مراد منير على مسرح السلام في أثناء زيارته للقاهرة في يناير 1990م. وصادف أن المسرحية تعرض للموسم الثالث لها. قلت له: إن المسرحية قد تبدو مختلفة عما سبق وشاهده (عندما عرضت في مهرجان دمشق المسرحي 1988م) بسبب غياب بطل العمل صلاح السعدني، وقيام أحمد بدير بأداء شخصية (أبو عزة المغفل) مكانه!! وبالفعل خرج بدير عن النص كثيرًا، وبالغ في الإضحاك بعيدًا من النص وبعيدًا من الشخصية. في منتصف الفصل الأول، أخبرني سعدالله أنه لا بد أن يغادر! وفي الطريق لإيصاله إلى الفندق أخبرني بصوت ضيق وغاضب ثمة فارق بين «الشعبية» و«الشعبوية المنحطة» التي قدمها الممثل!! وكان محقًّا تمامًا!!
مصر بتسلم عليك
ينشغل سعدالله ونوس بسؤال الجدوى والمسؤولية، مسؤوليته بوصفه مثقفًا، ودوره ووظيفته.. ومسؤوليته الذاتية في محاولات الفهم والمراجعة وتأمل مصيره ومصيرنا، وسط تراكم من الخيبات والهزائم.. منذ هزيمة 67 وانكسار المشروع الناصري.. إلى انكسار المعسكر الاشتراكي.. هشاشة القوى السياسية وضعف قدرتها على المقاومة.. وحرب الخليج وما أصابتنا به من عري كامل.. وكانت صرخاته الموجعة: «أننا مهزومون حتى العظم.. حتى الجيل الرابع أو الخامس، وأقصى حدود الإيجابية، أن نقبل الهزيمة، لا أن نراوغها.. لقد انهزمنا دون عزاء.. دون تظليلات.. وكان من قبيل تحصيل الحاصل أن ينهزم الجسد.. بعد ذلك لم يفاجئني السرطان»!!
مع تفاقم المرض ازدادت وحدته وانعزاله وصمته، وازدادت رحلته إلى الأعماق.. أغلق أبوابه في كثير من الأحيان، محاذرًا الانغماس في فوضى العلاقات اليومية والعلاقات الاجتماعية، مانحًا نفسَه الفرصة كاملة للانطلاق داخل ذاته وملاحقة خفاياه.. بتفاقم المرض والتعب والإرهاق قلَّت قدرته على الكتابة، وقدرته على التواصل.. وتباعدت الرسائل وتراجعت سطورها.. ثم اكتفى سعدالله بالتواصل بين الحين والآخر هاتفيًّا.. وحين التقيته عابرة في باريس، وأنا في طريقي إلى «أفينيون» وهو يتلقى فحوصاته وعلاجه في عام 1994م كان ذلك في منزل المخرج السينمائي السوري عمر أميرلاي، وكانت فايزة شاويش زوجة سعدالله.. وكانت بدايات النهاية أو منتصفها أو هي النهاية كاملة.. وحين أخبرته أن «مصر كلها بتسلم عليك» بكى.. فلم يعد يحتمل المجاز.. توجعه المودة، بقدر ما يوجعه الألم.
مقتطفات
العزيزة عبلة
سألتك مرة عن الكتابة.. فأجبت وكأنك تردين على لوم «أنا لا أكتب إلا حين يكون لدي مزاج للكتابة» ومن المؤكد أن سؤالي لم يكن يعني اللوم، ولم يخطر في بالي أن الكتابة واجب ينبغي ألا تتهاوني في تأديته.. وأنا أكثر الناس معرفة بصعوبة الكتابة، وبعدم ضروريتها حين تكون تعذيبًا، وإرهاقًا للنفس.. ولكن ما قصدته في الواقع هو هذه الكتابة – البوح، التي تطهر الروح، وتجعل المرء أقل تعاسة، عنيت الكتابة كعلاقة داخلية يخلو فيها المرء إلى نفسه وهواجسه ومشاعره، بعيدًا من، أو في مواجهة العالم الخارجي بما ينطوي عليه من فظاظة أو ابتذال.. هذه الكتابة الشبيهة بالاستحمام، والانغمار في مياه دافئة.. ولا يهم هنا أن تأخذ الكتابة شكلًا موضوعيًّا (أي قابلًا للنشر) أو ذاتيًّا كالمذكرات واليوميات والرسائل وسواها.. وفي الحالين ليس مهمًّا مصير الكتابة، بل فعل الكتابة، وحتى هذا فإني لا أريد أن يفعله المرء إذا كان لا يحقق له اللذة والراحة!
سعدالله
العزيزة عبلة
سيطول علاجي.. البارحة زارني طبيب لبناني يعمل في أميركا، كنت على اتصال معه منذ عودتي من فرنسا، وقد وجد نتائج العلاج مرضية حتى الآن، واقترح عددًا من الجرعات الإضافية، كي يصل المجموع إلى تسع جرعات..
ذكرت ذلك لأقول، وكلما طال علاجي، زاد غوصي في دخيلة نفسي، ورقت صلتي بالعالم الكثيف حولي.. طبعًا ليس الغوص في النفس جديدًا علي، لكنه زاد كثيرًا بعد المرض.. ومن الغريب أن نفْس المريض هي بالدرجة الأولى جسدية، إنها خلجات ومخاوف وآلام واستجابات وذكريات وأماني الجسد بالذات.. هل أحاول الإجابة عن سؤالك حول حسية أعمالي الأخيرة؟.. إطلاقًا.. فالجسدية التي تستغرقني إنها شيء آخر، يختلف تمامًا عن تلك التي برزت في أعمال هذا العام، على حد تعبيرك، وهي غامضة بالنسبة لي غموضها بالنسبة لك.. من الغريب، ولعلك لاحظت ذلك على التليفون، كلما حاولت الحديث عن أعمالي الأخيرة أشعر بالسخف، وبأني أعبر بكلاشيهات مكررة عن حالات هي أشد غِنًى وجدة.. هل قلت غنية وجديدة؟.. صدقيني لست متأكدًا من غناها أو جدتها.. حاولت أن أعيد قراءة «الطقوس» لكي أجيب على أسئلتك، فأصبت بالخيبة، ولا أستطيع أن أقرأ أكثر من بضعة مشاهد، وشعرت أن حبي لها قد تبخر.. كانت فترة الكتابة غنية وجديدة! نعم.. هذا يمكن أن أؤكده. وقد قلت لك مرة: إني أمارس حرية جديدة، كانت مغلولة في داخلي، وكنت أستكشف نفسي والعالم حولي.. كنت أجازف.. تمامًا كانت كتابة مجازفة، وكنت أنبش مخزوني، وأستكمل (أو هذا ما يخيل إلي) تظهير الجوانب الخفية من رؤيتي المركبة للإنسان والعالم…
سعدالله
العزيزة عبلة
في القاهرة كنت أملأ دفترا كاملًا.. كنت أكتب كل يوم.. أما هنا فإني لم أكتب حرفًا واحدًا.. وهذه الرسالة تتثاقل دون إضافات مهمة.. كانت لجنة التحكيم رديئة، ووزعت الجوائز بناءً على ترتيبات سياسية ودبلوماسية ونفسية والجميع له حساباتهم ولهم مصالحهم، وأعتقد دون مبالغة أن نتائج التحكيم ستسهم في دفع المسرح العربي خطوة أخرى نحو الرداءة.. نودي على اسمي بين المكرمين.. إني سخيف ومضحك.. صفقوا لي بحرارة.. إني سخيف ومضحك.. وقفت على المنصة.. إني سخيف ومضحك.. أعلنوا قرارات لجنة التحكيم.. إني سخيف ومضحك.. بدأ الفائزون يعتلون المنصة، ويتناولون جوائزهم وأنا متعب من الوقوف.. إني سخيف ومضحك.. امتلأت القاعة «أكل وشرب ونفاق وأكاذيب».. إني سخيف ومضحك، وقف الوزير وبدأ يتكلم بركاكة عن أهمية تكريم الفنانين ولا أحد يصغي إليه وسط صخب الملاعق والأحاديث والدخان، بدأ النداء على المكرمين سهير البابلي.. إني سخيف ومضحك.. وتتالت الأسماء. الجو خانق وأنا لا أكاد أجد الهواء اللازم للتنفس.. سعدالله ونوس.. إني سخيف ومضحك.. تناولت الميدالية والحقيبة، والتقطت الصور التذكارية مع سيادة الوزير.. إني سخيف ومضحك.. خرجت جريًا، عدت إلى الفندق، وذهبت إلى المطعم، أكلت لقيمات، صعدت إلى الغرفة ورميت الميدالية والحقيبة.. إني سخيف ومضحك.
سعدالله
العزيزة عبلة
كنت أهيئ نفسي أيضًا لأن أشرح لك وقع ما سمته الثورة المضادة ذات الأساس الموضوعي «البيريسترويكا» على تفكيري وعلى توازني الداخلي.. في الحالين كنت أفقد الجدار الذي أتكئ عليه سياسيًّا، ووجوديًّا أيضًا.. وفي الحالين كان عليَّ أن أعود مع نفسي، ووسط مرارة فظيعة ويزيدها فظاعة تعالي الأصوات الشامتة، واحتفالات قوى اليمين والظلام بالنصر.. أقول أن أعود إلى نفسي إلى البدء، وإلى التساؤل.. لماذا؟.. وأين الخطأ؟ وكم كنت نزيهًا في مواجهة هذا الخطأ؟ وإلى أي حد تواطأت؟ وإلى أي حد بسطت التاريخ؟ وإلى أي حد في اتكالي اليقيني المطمئن، أستجيب إلى بقايا لاهوتية إيمانية مستقرة في نسيج لا وعيي؟
لا أريد بعد اليوم ذلك اليقين المطمئن.. في الحالتين كان ثمة خطأ دفعنا ثمنه غاليًا، ولأني أكثر نضجًا من الاعتقاد أن الخطأ مؤامرة، أو سوء حظ أو قدر غامضٌ، فإن علي أن أتقصى هذا الخطأ في التاريخ، وليس في مجال آخر.. إني أتشدق كثيرًا بضرورة وأهمية الوعي التاريخي.. لكن الوعي التاريخي ليس شعارًا، ولا تحيزًا أيديولوجيًّا.. إنه ممارسة، إنه نقد وإعادة نظر متواصلة، إنه باختصار فك ارتباط نهائ ي مع اللاهوت والإيمان المطمئن.. وبالتالي مع المقدس بكل أشكاله.. هل يفضي ذلك إلى ضرب من العدمية؟ الاحتمال وارد، لكنه لا يلغي الاحتمال الآخر، أن يعيش المرء، مستقلًّا، وأن يكتب وعيه نقديًّا، وأن يجد إمكانية منفذ أو إشارة إلى تاريخ أفضل أو إخفاقات أقل..
سعدالله
العزيزة عبلة
كل شيء قاتم ومبتذل ومسف!.. المهرجان يؤذن بالانتهاء.. شاهدت كل العروض.. ضحالة وتدهور.. لا إبداع ولا هموم حقيقية.. وإننا نعود القهقرى..
منذ فترة طويلة لم أشعر بمثل هذه الوحدة الداخلية.. وحدة فيها تقزز فيها خوف، وفيها حزن أيضًا كان ينبغي أن آتي.. ولكن من المؤكد أنها آخر مرة في حياتي!.. سأعود إلى قوقعتي وحياتي اليومية وأوهامي التي أنسجها وحيدًا في غرفتي وبين كتبي، هناك يبدو للعالم كثافة وتبدو للأفكار أهمية، وتتخذ الثقافة بعدًا مصيريًّا.. أما هنا فلا شيء إلا الكذب والفساد وموت الأمل.. إلى هنا تعني كل هذه المظاهرات والمهرجانات والمؤتمرات، وحتى لقاءات وسهرات المثقفين والفنانين.. أتعرفين ما نحن في مجتمعاتنا؟!.. إننا -نحن المثقفين- سلطة ظل شاغلها الأساسي أن تصبح سلطة فعلية، أو أن تنال فتاتًا في السلطة الفعلية.. إننا قفا النظام ولسنا نقيضه أو بديله، ولهذا ليست لدينا أطروحات جذرية، ولا آفاق مختلفة، والمراوغة تطبع عملنا، وتشكل جوهر سلوكنا.. ياللخيبة!.. وياللحزن!!
سعدالله
العزيزة عبلة
قرأت مقالك في «اليسار» حول تقديمي لعدد طه حسين ولا أدري إن كنت أنا الذي أفتعل الخصومة أو التوتر بين ثورة يوليو وطه حسين، أم أنك أنت التي تفتعلين الخصومة معي!! لن أكرر هنا الوثائق المفعمة بالدلالات، ولن أعيد التأكيد بأن طه حسين حين كتب في يناير 1923م وهو الشهر الذي حلت فيه الأحزاب والحياة البرلمانية «لن نرضى من الثورة إلا بأن يتسع سلطان العقل، حتى يغزو بالمعرفة نفوس المواطنين، وبأن يعظم سلطان العقل حتى لا يخشى رقيبًا حين يعلن ما يرى خطأً كان أم صوابًا»..«والعقل الحر هو الذي لا يقبل دكتاتورية مهما يكن لونها، ومهما يكن غرضها، ومهما يكن أسلوبها في الحكم».. لم يكن يلقي الكلام على عواهنه، إنما كان يعبر عن مخاوف حقيقية، وعن رفض صريح لمفهوم الضباط الأحرار عن المجتمع المدني والديمقراطية.. وفي حين أن الفكرة التي أردت أن أعبر عنها هي مدى الضرر الذي لحق بالثورة ولحقنا معها؛ لأنها لم تتبنَّ الإنجازات الفكرية التي تحققت قبل قيامها، ولأنها لم تدرج تراثًا غنيًّا بالمواجهات والسجالات في برامجها، وتلك كانت مشكلة الأحزاب الشيوعية أيضًا!!.. فإنك قدمت المسألة وكأنها هجوم عدواني وموتور على ثورة يوليو ومنجزاتها العظيمة.. هل أجهل ما قامت به ثورة يوليو؟.. يقينًا لا.. ولكن هل ينبغي في غمرة حماستي لثورة يوليو وما مثلته أن أتجاهل ما لم تقم به؟!.. هل ينبغي أن أعفيها من المسؤولية لأنها لم تتخذ الاحتياطات الكافية كي لا تنهار منجزات الديمقراطية الاجتماعية بمجرد غياب قائدها.. هل ينبغي أن أنسى أن الثورة أنفقت نصف عمرها في معارك على اليمين وعلى اليسار، وأنها لم تحسم خياراتها السياسية والاجتماعية إلا تدريجيًّا، وتحت وطأة الضغوط التي أنضجت الوعي.. أينبغي أن أنسى أن الشرائح المثقفة التي كان يمكن أن تدافع عن قرارات 61 وميثاق 23 كانت تتعفن في السجون؟.. أينبغي أن أنسى أن برامج التعليم كانت سطحية وغير عقلانية، وخالية إلى حد كبير من التراث الفكري الذي بنيناه طوال قرن عاصف بين 1850 و1950م.
ولكن لا.. إنك تعرفين القصة أكثر مني.. وتعرفين أن ثمة أخطاء، وثمة سلبيات، وأن انتماءنا إلى الثورة ودفاعنا الحقيقي عنها، لا يكون بالدفاع عن الأخطاء والإغضاء عن السلبيات.. والمسألة ليست إيمانًا دينيًّا!.. إننا نكتب وبكثير من المشقة، لكي ندافع عن المستقبل، وليس لنحرق البخور حول الماضي!.. أريد ثورة يوليو، ولكن دون ما ارتكبته من أخطاء، ودون تنظيمها الفردي والبوليسي والشعائري.. أريد تلك الاندفاعة الحية.. أريد تلك الإرادة الوطنية الصلبة لبناء الاستقلال ومقاومة التبعية.. أريد تلك الرؤية الوحدوية الثاقبة.. ولكني أريد مع هذا كله الأسباب التي تغير الإنسان، وتكسبه الوعي والحرية، وتجعله مقاتلًا في سبيل هذه المكاسب وحاميًا لها!
سعدالله
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق