كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
بلاك ووتر.. حروب بلا كلفة أخلاقية
في عالمنا الرأسماليّ الذي تتقلّص مسافاته الجغرافية كل يوم، جرى تسليع كلّ شيء، ومن ذلك الحرب. خصخصة الجيوش هي إحدى معالم الحروب الحديثة، والخصخصة هنا تَعْني تسليم الشركات الخاصّة مهمّة صناعة جيوش صغيرة تعتمد في تكوينها على مقاتلين مرتزقة، لا يهمّ من أين أتَوْا، ولا أين سيذهبون، فالمال يمتلك كلّ الأجوبة هنا.
خطورة الجيوش المرتزقة تكمن في أنها عامل اضطراب آخر يضاف إلى المناطق غير المستقرة في هذا العالم، وهي تسهّل على الحكومات والسياسيين التدخّل وإشعال الحروب، بلا كُلفة أخلاقية، ومن دون توريط مواطنيها، أو تحمُّل عبء وثقل سياسيّ. أبعد من ذلك، يدفع هذا الأمر إلى الرغبة في وجود الحروب لوجود مَن يدفع. واستخدام الجنود المرتزقة ظاهرة قديمة، بل وسابقة على جيوش الدول الحديثة؛ إذ استخدمهم الملوك والبابوات في العصور الوسطى.
وقد اضمحلّت هذه الظاهرة مع حرص الدول الحديثة على المنطق السياسيّ في احتكارها القوة والعنف، لكن في العقدين الأخيرين نَمَتْ هذه الظاهرة بشكل غير مسبوق، وازدهرت هذه الصناعة في أزمات متنوعة اليوم؛ من حضور الجنود المرتزقة من جنوب إفريقيا لمواجهة بوكو حرام في نيجيريا، إلى مرتزقة شيشانيين؛ لدعم بوتين في أوكرانيا. وفَضْلُ العودة إلى منطق الجنود المرتزقة وإشعال الحروب، يعود تحديدًا إلى حربَيْ أفغانستان والعراق، حين مثّلت هذه الجيوش الخاصة ركيزة مهمة للحرب الأميركية، وقبل ذلك، إلى هجمات الحادي عشر من سبتمبر.
في العاشر من سبتمبر عام 2001م، وقبل هجمات سبتمبر بيوم واحد، وقف دونالد رامسفيلد، وزير الدفاع في إدارة جورج دبليو بوش؛ ليلقي خطابًا رئيسيًّا في البنتاغون، وأمام كبار القادة العسكريين، والمشرفين على عقود الدفاع الضخمة؛ انتقد رامسفيلد بيروقراطية سياسات البنتاغون وبطأها، وطالب بإجراء تحوُّل واسع في سياسات الدفاع يرتكز على القطاع الخاصّ. في اليوم اللاحق تمَّت مهاجمة البنتاغون في هجمات سبتمبر المشهورة، ووُضِعت خطة رامسفيلد فورًا في حيّز التنفيذ، وأصبحت تُعرَف بما يسمّى عقيدة رامسفيلد التي من ملامحها التركيز بشدة على القطاع الخاص، والاعتماد على القوات الخاصة والمقاولين، والتشديد على السرية، واستخدام أنظمة الأسلحة المتطورة. هذا الانطلاق إلى الصناعة وازدهارها من بداية العقد الماضي، أتى تتويجًا لنشاط فعليّ بدأ مع بداية التسعينيات؛ فديك تشيني وزير الدفاع آنذاك، والحليف الوثيق لرامسفيلد، كان قد شرع في قيادة الحملات لدعم الهدف ذاته.
مئة مليار دولار عائد سنويّ
من الصعب تحديد تعداد الجنود المرتزقة حول العالم، فلم تتوافر للحكومات والإعلام فرص جيدة لتحصيل المعلومات؛ بسبب الغموض وسياسات التكتّم الشديدة من أرباب هذه الصناعة .وراوحت تقديرات العائدات السنوية لهذه الصناعة بشكل واسع بين بضعة مليارات، وأوصلتها بعض التقديرات إلى مئة مليار، وفي العقد الماضي قُدّر تعداد المقاولين الأمنيين، وهي تسمية أخرى للجنود المرتزقة، ممن عملوا إلى جانب القوات الأميركية بثلاثين ألفًا في العراق، وسبعين ألفًا في أفغانستان.
بلاك ووتر، هي أشهر شركات الجنود المرتزقة. بعد مرور ما يقارب العقد على إنشائها في منتصف التسعينيات؛ أصبحت هذه الشركة فرس الرهان للحرب التي أعلنها جورج بوش على الإرهاب. مؤسس هذه الشركة إريك برنس، وهو من عائلة ثرية يمينية، لها تاريخ في دعم قيادات من الحزب الجمهوريّ، وقد غادر الولايات المتحدة الأميركية؛ بسبب المحاكمات والفضائح التي لاحقته مع شركته، واتّجه إلى العيش والعمل في الإمارات، والآن تزدهر أعماله في مناطق مختلفة؛ منها إفريقيا الوسطى.
إن تجربة وجود الجنود المرتزقة في العراق كانت تجربة مريرة، لا تزال تتواصل تداعياتها؛ ففي العام الماضي تمَّت محاكمة أربعة أعضاء من منظمة بلاك ووتر في الولايات المتحدة الأميركية، بأحكام تراوحت بين المؤبد والثلاثين عامًا؛ لقتلهم 14 مدنيًّا عراقيًّا. وأول مرة سمع العالم بالجنود المرتزقة، كان بسبب كمين الفلوجة المشهور عام 2004م الذي قُتل فيه أربعة من مرتزقة بلاك ووتر، وقد استشرى العنف في العراق بعد تلك الحادثة. وصل الأمر إلى أن قال بعضهم في الغرب: إن الأمن هو أفضل صادراتنا إلى العراق بعد الاحتلال، وفي أثناء إدارة بريمر العراق، ثلاثون بالمئة من مال إعادة إعمار العراق ذهب إلى شركات الجنود المرتزقة.
على مدى سنوات، تتبّع الكاتب روبرت بينغ بيلتون الجنود المرتزقةَ في عدة أماكن في العالم، وحاول أن يكون محايدًا وهو يضع الحقائق حولهم أمام القارئ في كتابه» المُصرَّح لهم بالقتل»، ويتضح من حالات عدة كيف أن الخطّ الفاصل بين العمليات السرية والعمليات الإجرامية ليس موجودًا؛ إذ إنها عمليات سرية قابلة للإنكار من الحكومة الأميركية، ومن هذه المنظمات؛ لأنها أعمال قذرة. لقد صدرت مذكرات تحميهم من الاعتقال والمحاكمة، وفرّوا بجرائم مهولة يضيق المكان هنا بذكرها. وكشفت تحقيقات فيدرالية عن وجود (كواتم) صوت من ضمن أسلحة الشركات الخاصة، وهذا سلاح اغتيال هجوميّ لا يحتاج إليه من يزعم الدفاع، ووصل الأمر بأحد الجنود المرتزقة أن أدار هو وزملاؤه سجنًا كاملًا، يديرون فيه عمليات التعذيب والسجن تحت مرأى ومسمع المسؤولين الأميركيين في أفغانستان.
إن الدعم الأميركيّ لهذه الشركات غير القانونية حسب قوانين أميركا نفسها ساهم في عولمتها وتمدُّدها، وأصبح أهل القوة والمال يتساهلون اليوم في مسألة استئجار قوات خاصة، فالعروض وافرة، ويحرص دائمًا أرباب صناعة الجنود المرتزقة كثيرًا على تعديل صورتهم، والملاحظ أن مستنقعات الأزمات خلقت حالات حاجة متجددة لهم؛ لذلك فإن الجنود المرتزقة اليوم يتمددون، وينتصرون على شعار سياسيّ يقول: «لا للمرتزقة» كان قد ساد قرونًا.
خطر تمدد الحروب
إن ضعف بعض الدول العربية، ونشاطها كمناطق أزمات، يضعها في قلب هذا الخطر الرأسماليّ المطالب بتمدّد الحروب. إن من مخاطر شركات الجنود المرتزقة أنها تهدّد استقرار الدول، وتجدّد الأزمات، ولا يوجد فاعل واضح خلف هذا التهديد من الممكن محاسبته والقبض عليه. ودائمًا ما تعزّز الأنظمة المُخفِقة هذا النوع من الصناعة، عبر حرصها على جلب أجهزة أمنية تعمل على حمايتها وحماية مصالحها بشكل خاص، عوضًا من تعزيز الجهة الأمنية للبلد بشكل عام.
الجيوش الوطنية الفاعلة، والوعي السياسيّ والأُمميّ، هو الحلّ أمام تسرّب لوثة الجيوش الخاصة الغربية، وهو الحلّ ذاته أمام معضلة مشابهة، وهي ظاهرة الجماعات المسلحة من خارج الدولة، فالجزء الأكبر من الأزمات وعدم الاستقرار العربيّ اليوم يعود إلى نشاط هذه الجماعات وقوتها. إن ازدهار هذه الصناعة للجيوش الخاصة، برعاية الدول الكبرى ودعمها، هو عودة إلى عقلية القرون الوسطى، حين كان مرتزقة المال هم القوة الضاربة التي تفعل كل شيء لمن يدفع.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق