كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
هوانغ سوك – يونغ: الغضب هو الجحيم الذي صنعناه بأيدينا
يُعدُّ الكاتب الكوري الجنوبي هوانغ سوك – يونغ واحدًا من أكثر الكتاب الآسيويين شهرةً في عالمنا المعاصر. وهو فضلًا عن موهبته الأدبية، ناشط لا يعرف الكلل في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان. حُكم عليه بالسجن في كوريا الجنوبية؛ بسبب خرقه «قانون الأمن الوطني»، بعد أن قام برحلاتٍ غير مخوَّلة إلى كوريا الشمالية. كان هدفه من تلك الزيارة تعزيز الانفتاح بين الكوريتين ودعمه. وطوال مسيرته الأدبية والحياتية، كان هوانغ يدافع دفاعًا قويًّا من أجل علاقاتٍ أفضل بين حكومتيْ بيونغ يانغ وسول.
حصل هوانغ على أفضل الجوائز الأدبية وأرفعها في كوريا الجنوبية، كما رُشِّح للقائمة القصيرة لجائزة Femina Etranger Prix الأدبية الفرنسية، الرفيعة المستوى، الخاصة بالكُتاب الأجانب. ولد هوانغ سوك – يونغ في تشانغ تشوان، منشوريا في الرابع من يناير عام 1943م، خلال حقبة الحكم الياباني. بعد التحرر من الاحتلال الياباني، انتقل إلى مسقط رأس أمه بيونغ يانغ، وسكن هناك مع أقارب أمه. في عام 1947م انتقلتْ أسرته إلى «الجنوب» ونشأ في يوونغ ديونغبو. ترك هوانغ مدرسة «كيونغ بوك» الثانوية في عام 1962م، وابتعد من المنزل كي يتجول في الأقاليم الجنوبية. عاد إلى المنزل في أكتوبر، وفي نوفمبر تلك السنة حاز جائزة «المؤلف الجديد الأدبية» التي تمنحها مجلة «ساسانغغي» عن قصته القصيرة المعنونة «بالقرب من حجر الوَسم». عاش هوانغ حياته متنقلًا من مكانٍ إلى آخر بحثًا عن عمل، وزاول العمل اليدوي والمهن المتعلقة بالمعبد حتى عام 1970م حين فازتْ قصته القصيرة «الباغودة» في «مسابقة جوسون إلبو الخاصة بالكاتب الجديد»، وبدأ مسيرته الأدبية بشكل جاد. وشارك في حرب فييتنام. وفي عقد السبعينيات من القرن العشرين، نشر هوانغ سوك – يونع سلسلةً متصلةً من الأعمال الأدبية أصبحتْ ذائعة الصيت فيما بعد، من مثل «بعيدًا من المنزل»، و«تاريخ السيد هان»، و«الطريق إلى سامبو»، و«حلم بالحظ الوافر»، وأصبح مؤلفًا من الطراز الأول في العالم الأدبي الكوري. وفي أثناء عقد السبعينيات انهمك في العمل السري لدى «مجمع غورو الصناعي»، وساهم في حركة المقاومة من خلال عضويته في «جمعية الكتاب من أجل الحرية المتحققة» فيما كان يدبج روايته الملحمية «جانغ غلسان».
في ثمانينيات القرن المنصرم أكمل روايته «ظل الأسلحة» التي سلَّطتِ الضوء على نظام العالم الرأسمالي في أثناء حرب فييتنام. فعل هذا كله فيما كان يعمل بلا كلل من أجل تنظيم القتال الساعي إلى نشر الحقيقة المتعلقة بـ«حركة دمقرطة غوانغ جو» إضافة إلى مجموعة متنوّعة من حركات المقاومة الأخرى. بعد أن زار هوانغ «كوريا الشمالية» في مارس 1989م، لم يعد قادرًا على العودة إلى كوريا الجنوبية وطلب اللجوء بوصفه مؤلفًا زائرًا في «أكاديمية برلين للفنون». في عام 1991م واصل حياة المنفى في نيويورك. وبعد عودته إلى كوريا الجنوبية في عام 1993م، حُكم عليه بالسجن سبع سنوات، وأُطلق سراحه في عام 1998م، بعد مضي خمس سنوات. وعقب ذلك، أظهر سنةً بعد سنة أن روحه الخلاقة لن تموت من خلال نشره لعدد من الآثار الأدبية: «الحديقة القديمة» (2000م)، و«الضيف» (2001م)، و«شيم تشيونغ» (2003م)، و«الأميرة باري» (2007م)، و«نجمة المساء» (2008م)، و«حلم غانغنام» (2010م)، و«أشياء مألوفة» (2011م)، و«خرير الماء الشحيح» (2012م)، و«الغسق» (2015م). مُنح هوانغ جائزة «مانهيي للأدب»، وجائزة «لي سان للأدب»، وجائزة «ديسان الأدبية»، وجوائز أخرى سواها. آثار هوانغ الرئيسة تُرجمتْ ونُشرتْ في أنحاء العالم، ومن بين هذه البلدان: فرنسا، والولايات المتحدة، وإيطاليا، والسويد.
حلم أن يصبح كاتبًا
حصل هوانغ على شهادة البكالوريوس في الفلسفة من «جامعة دونغغوك»، وكان قارئًا نهمًا وراوده حلم أن يصبح كاتبًا منذ سنوات صباه. يقول في إحدى المناسبات: «في السنة الرابعة من دراستي الابتدائية، كتبتُ شيئًا ما لـدرس الكتابة الإبداعية. واختيرت كتابتي لدخول المسابقة الوطنية، ونلتُ الجائزة الأولى. كانت قصة عن شخصٍ ما يعود إلى منزله بعد فراره إلى «الجنوب» إبان الحرب الكورية؛ كان عنوانها «يوم العودة إلى المنزل». بعد رجوعه إلى منزله، يجد بطل القصة أن قريته بأسرها تحولتْ إلى أنقاض في أعقاب الدمار الذي لحق بها في أثناء الحرب. كانت قصتي تصف وقتًا ما بعد الظهر الذي أمضاه وهو يصنف الأطباق وحاجيات الأسرة في منزله. كانت تلك هي أول مرة أتلقى فيها مديحًا من المجتمع الأوسع، وقررتُ أنني حين أكبر، بدلًا من أن أكون رجل إطفاء أو جنديًّا، سأكون [كاتبًا]، على الرغم من أنني لم أكنْ متيقنًا تمامًا ما معنى ذلك. أعتقد أن الكتابة شيء تفعله بمؤخرتك؛ لأنه يتعين عليكَ أن تقضي وقتًا طويلًا جالسًا إلى طاولة الكتابة».
الواقع، أعادت الجملتان الأخيرتان إلى ذاكرتي ما قاله أورهان باموق، الحائز على جائزة نوبل للآداب سنة 2006م، حين قال: «أجلس ساعاتٍ طويلةً إلى طاولة الكتابة، حتى كادتْ الطاولة أن تصبح جزءًا من جسمي». كتب هوانغ سوك – يونغ للمسرح، وقُتل عدد من أعضاء الفرقة المسرحية حينما كانوا يمثلون في إحدى مسرحياته في أثناء انتفاضة كوانغ جو في عام 1980م. خلال هذه المدة الزمنية، انتقل هوانغ من كونه كاتبًا ملتزمًا سياسيًّا يحترمه الطلبة والمثقفون، إلى الإسهام المباشر في النضال. يقول: «حاربتُ ضد دكتاتورية بارك تشونغ – هِي. عملتُ في المصانع والحقول في تشولا، واشتركتُ في الحركات الجماهيرية في أنحاء الوطن… في عام 1980م اشتركتُ في انتفاضة كوانغ جو. ارتجلتُ المسرحيات، كتبتُ كراسات وأغاني، نسّقتُ مجموعةً من الكتاب ضد الدكتاتورية، وأسستُ محطة إذاعية سرية تحمل عنوان «صوت كوانغ جو الحرة». وعن عودته إلى سول في عام 1993م بعد منفاه الاختياري، يقول الكاتب الكوري الجنوبي: «يتعيّن على الكاتب أن يقيم في بلد لغته الأم». وخلال الأعوام الخمسة التي قضاها في السجن قاد ثمانية عشر إضرابًا عن الطعام احتجاجًا على القيود ومنها منع تزويدهم بأقلام الحبر والتغذية غير الكافية. منظمات كثيرة في بلدان العالم المختلفة، من بينها منظمة «قلم» الأميركية ومنظمة «العفو» الدولية حشدتْ جهودها من أجل إطلاق سراحه، وفي عام 1998م أُخلي سبيله خلال عفو عام جماعي قضى به رئيس الجمهورية المنتخب حديثًا آنذاك كيم – دايي – جونغ.
يعرّف هوانغ الواقع الكوري بوصفه «حالة تشرد على المستوى الوطني»، وبشكل مستمر كان يكشف سيكولوجية الناس الذين فقدوا «وطنهم»، الرمزي أو الحقيقي. الوطن في نظر يونغ ليس، ببساطة، مكانًا يولد فيها الناس ويترعرعون بل هو حياة مجتمع تضرب جذورها في الشعور بالتضامن. هذه الفكرة المتعلقة بـ«الوطن» هي أيضًا أساس لمحاولة هوانغ في كشف التناقضات الاجتماعية من خلال الأشخاص الهامشيين والأجانب. نزعات هوانغ الأدبية ترتبط ارتباطًا قويًّا بتجاربه الشخصية. «من أجل الأخ الصغير» (1972م)، و«ضوء الفجر الكاذب» (1973م)، و«علاقة مشبوبة العاطفة» (1988م)، هي قصص تدور حول مراهقة الكاتب، التي تتناول موضوعات من مثل رفض أحد الأبوين، وكراهية التنافس، والشعور بالإنسانية والتضامن اللذين يتقاسمهما الناس في هامش المجتمع.
يمكننا أن نقسم منجز هوانغ الأدبي ثلاثة أصناف: الصنف الأول يتعامل مع فقدان الإنسانية والخراب اللذين طالا الحياة بسبب التحديث، والحرب، والنظام العسكري. الصنف الثاني يعبّر عن الرغبة في العودة إلى حياة صحية وإنعاش القيم المتضررة. أما الصنف الثالث فهو الذي يشمل الرواية التاريخية.
بطلة النساء جميعًا
ثمة أشباح، وشامانات، وأرواح وأشباح أطفال ماتوا إثر إصابتهم بالتيفوئيد. الكلب هندونغي يسلك سلوك البشر. ثمة ساحرات، وعفاريت ومعابد مظلمة. تتحدث باري بنحو تخاطري مع تشيلسونغ، الجرو، ومع شقيقتها الصماء الخرساء التي تكبرها سنًّا. يمكنها أن تتكلم مع أقاربها الأموات. يمكنها أن تقرأ صحة زبونها أو زبونتها من خلال النظر إلى النقاط الوسطية المستخدمة في الوخز بالإبر في كعبَيِ القدمين، تلمع هنا وهناك بألوان مختلفة، بحسب المرض. بوسعها أن تقرأ الأرواح، بوسعها معالجة الأرواح. في سجلات الشامانية(*) الكورية، حكاية «الأميرة باري» هي حكاية «الأميرة المهجورة ». هي الطفلة السابعة والأخيرة للملك، ملك ليس لديه أولاد ذكور. الإلهة الشامانية، «الأميرة باري»، هُجِّرتْ عند الولادة لأنها أنثى. تسافر إلى العالم السفلي كي تبحث عن إكسير الحياة، وتولد ثانيةً في عالم جديد. كانت قد تحولت إلى إلهة، على غرار النوتي شارون عبر «نهر ستيكس»، تحمل الأرواح إلى العالم السفلي. إن مصير «الأميرة باري»، شبيه بمصير كثير من النساء عبر التاريخ: يتعذبن ويُتوقع أن يقمن بـ«الشيء المناسب». كثير من النسوة من أمثال «الأميرة باري» في عالمنا يتعذبن بسبب أفعال آبائهن وآمالهم، وعليهن أن يضحين لأن المجتمع لا يهبهن الحرية، ولا فضاءً يتحركن فيه. يتعذبن في الفخ الذي نصبه المجتمع لهن، ويُجبرن على أن يكنَّ مخلصات، جريئات أو حليمات. تهب باري حياتها الخاصة من أجل حياة الملك، بالضبط مثلما يريد الآباء من نسائهم. «الأميرة باري» هي بطلة النساء جميعًا: إنها تضحي وتتعذب كي تتغلب على القيود الدنيوية وكي تصبح إنسانةً خارقة. إنها تداوي العالم. وبوسعها أيضًا أن تتحدث مع الكلاب، وهذا شيء ممتاز وظريف.
مستندًا على هذا الأساس ما قبل البوذي العميق للأسطورة والحكاية، ينسج هوانغ حكايةً جميلةً، ممتعةً جدًّا، ومكتوبةً بعناية تأخذ بطلتنا، هي نفسها الطفلة السابعة، في رحلةٍ حول العالم. من «كوريا الشمالية»، أي البلد الدكتاتوري، الذي يمتاز بالقمع والاضطهاد، البلد الفقير والجائع، إلى البراري المنشورية للصين الحديثة في «جِيلين»، إلى مدينة – ميناء داليان ذائعة الصيت الواقعة في لياوننغ – يُقال: إن داليان هو أجمل الموانئ الطبيعية في شرق آسيا – ووراء المحيط صوب لندن، إنجلترا. تكبر باري كإنسانة تتعلم كيف تحب بإحساس لطيف، إحساس الجدة، وتداوي جروح العالم. هي نفسها، بوصفها رائية أو شامانية، يمكنها أن تقرأ أمراض الناس وتفهم ما هو الشيء الخطأ الذي حصل لهم، وتساعدهم على الشفاء. وخلال بحثها عن إكسير الحياة، تعثر عليه وتشفي جروحنا.
وفضلًا عن كل ما تقدم، لا يفوتنا أن ننتبه للأفق الإنساني العميق الذي يتجلى لنا ونحن نقرأ هذه الرواية، بحيث إننا لا نملك سوى أن نتعاطف مع بطلتها «باري» وهي التي مرتْ بظروفٍ غاية في القسوة؛ تفرُّق أفراد أسرتها، وفقدان جدتها التي كانت تروي لها الحكايات، فأرغمتها نوائب الدهر على التنقل بين المدن والقارات، عبرت الأنهر، وركبت السفن، وتعرّضتْ للقمع والابتزاز والاغتصاب والاحتيال، ونامت مع رجال غلاظ، ومقززين، لكنها ظلتْ تحلم بالماء الواهب للحياة، هذا الماء هو الذي سينقذ البشرية جمعاء من الآثار المدمِّرة للعولمة، التي كثفها الانفصال والصراع. وما نقصده بالانفصال هو رسم الحدود بين الدول والأمم، والقوميات، التي بدلًا من أن يسودها التعايش والمحبة والتسامح والتضامن، أخذت تتقاتل وتحتلّ كل أمة أرض الأمة الأخرى، وراحت تنهب ثرواتها، وتنتهك أعراضها، وتسلبها حقوقها الإنسانية وكرامتها، وتجهض أحلامها المشروعة، وتدمر مستقبلها وآمالها في العيش الرغيد.
نعم، في أثناء الرواية، وتحديدًا في الحوارات بين شخصياتها المتعددة الجنسيات نعثر على مشاعر التضامن والتسامح والمحبة والأخوَّة والإصرار على العيش على الرغم من الحروب البربرية وسياسة التجويع وغطرسة الجنرالات. يقول الجد عبدول، وهو إحدى شخصيات الرواية لـ باري: «لا أعرف ما هو هذا الماء الواهب للحياة الذي تتمنين الحصول عليه، إنما علينا أن يبكي أحدنا على الآخر حتى ننقذ أنفسنا. مهما تكنِ الأشياء التي نمر بها فظيعةً، فلا يمكننا أن نتخلى عن أملنا في العالم أو في الآخرين. «والحق، لا يمكننا أن نقصر الرواية على موضوع مركزي محدد؛ لأن هذا العمل الأدبي يرصد بامتياز أهم المشاكل التي يواجهها الإنسان المعاصر: التحديث، واللجوء، والهجرة غير الشرعية، والاغتراب، وأحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م وتداعياتها، والإرهاب، والظلم، وغياب العدالة، والجوع، والبطالة، وعدم تكافؤ الفرص، وتشتت الأسر وابتعاد الأولاد من أوطانهم الأصلية الحقيقية والرمزية، ومصادرة الحريات بشتى أنواعها، وقسوة الحروب وآثارها المدمِّرة، والظلم الذي تتعرض له النساء في المجتمعات الآسيوية، ومنها المجتمعات المحافظة والمتشددة. «لكن كلما جاء ذكر موضوع أوطاننا الأصلية، كان يبدو أنه، دومًا، ينتهي بالقتال والمجاعة والمرض والجنرالات القساة، المرعبين القابضين على السلطة. كان لا يزال هناك كثير جدًّا من البشر يموتون في كل زاوية من زوايا العالم، والبشر يعبرون حدودًا لا نهاية لها بحثًا عن الطعام، لمجرد أن يكون بمستطاعهم أن يعيشوا من دون التهديد المستمر للموت».
سفينة رمادية
لقد جمع الكاتب الكوري الجنوبي هوانغ سوك – يونغ حشدًا هائلًا من البشر في سفينة رمادية: «محملة ببشر من كل الأشكال والألوان، هم لاجئون بأسمال رثة، أمي وشقيقاتي، أشخاص من شتى بقاع العالم عانوا الجوعَ، عُذِّبوا، اضطهدوا أو ضُربوا حتى الموت، قُصفوا بالقنابل، أُحرقوا، أُغرقوا، عانوا أمراضًا لا علاج لها أو فارقوا الحياة بسبب قلوبٍ كسيرة». وفي روايتنا هذه شخصيات تنتمي إلى كوريا، والصين، وبنغلادش، وباكستان، وفييتنام، ونيجيريا، وبريطانيا، وتايلاند. وكان الكاتب يلمِّح بين الحين والآخر إلى أن البشر سواسية، ولا توجد اختلافات جوهرية بين شعب وآخر، أو بين أمة وأخرى. ويتساءل أيضًا: لماذا يتعين علينا أن نملك حدودًا بين دولةٍ وأخرى؟ ولماذا لا يكون العالم على غرار المبنى السكني الذي يجتمع فيه أناسٌ من جنسيات شتى تنتمي إلى زوايا العالم كافة؟
يتساءل أبطال الرواية عن السبب الذي يجعلهم يعانون ويتعذبون. لماذا هم موجودون على ظهر سفينة تمخر بحر الدم؟ «لماذا نحن هنا؟» ويسأل رجل غير مألوف مع قنابل يدوية مربوطة بحزامٍ إلى صدره عن مغزى موته؟ ومن وراء نسيج يغطي وجهها وتتمتم امرأةٌ مجللة ببرقع: ماذا يعني موتي أنا أيضًا؟ وعلى الرغم مما تخبر به شخصيات الرواية، ثمة جذوة الأمل الذي لا ينطفئ، وثمة حكمة ودفء إنساني يمنعنا التهور وانتهاك حقوق الآخرين والاعتداء على خصوصياتهم وعاداتهم ومعتقداتهم. تقول باري: «لماذا يواصل الله تعذيبي؟ لم أقترفْ أيَّ شيء خطأ. ما الاختلاف عندما يكون المرء مؤمنًا ولديه دين؟» فيرد عليها الجد عبدول: «الله يراقبنا، لكنه لا يتدخل في حياتنا. ليس له لون، ولا شكل، وهو لا يقهقه أو يبكي، وهو لا ينام ولا ينسى، ليس له بداية ولا نهاية، لكنه موجود هناك على الدوام. الوجع والعذاب هما نتيجتا أشياء خطأ ارتكبتها أيدينا من قبل. إن غرض الأشياء الجيدة والسيئة في الحياة هي أن تعلّمنا أن نغدو أناسًا أفضل، ولهذا السبب عليكِ أن تتغلبي على هذه المصاعب وأن تقدّري جمال الحياة. هذا هو ما يريده الله منا. سارعي، إذًا، وكُلي شيئًا ما واستعيدي قوتكِ!»
وها هو ذا يحدثنا عن الحنين إلى مسقط الرأس، والمنزل الأول الذي حدثنا عنه كثير من الشعراء والكتاب، العرب والعالميين: «في اليوم الذي رحلتْ فيه أمي وشقيقاتي تنحيتُ جانبًا ورفضتُ البكاء. كانت كل واحدة منهن تحمل رزمةً صغيرة من المؤن. وفيما كن يمضين في طريقهن واصلن النظر للوراء. كنَّ يتطلعن إلينا، بالطبع، لكنهن أيضًا، على الأرجح، كنَّ ينقشن صورة بيتنا المحبوب في أذهانهن. ما من واحدةٍ منا كانت تعرف أن هذه هي آخر مرة ترى كل واحدة منا الأخرى. في لحظةٍ ما بدأن يظهرن في أحلامي. كل واحدة منهن كانت تقف بجانب الأخرى: أمي، سووك، وجونغ، يتطلَّعن إليَّ من مسافةٍ ما، يبتسمن برقة ولطف ولا ينطقن بكلمة واحدة. ربما كانت هذه أشباحهن» وهذه السطور تطفح باللوعة والحنين والحزن، وهي تكتظ بهذه الأحاسيس التي لا يشعر بها إلا من غادر منزله، مسقط رأسه، مدينته قسرًا، غادرها من دون رجعة وإلى الأبد، وتدمع عيناه كلما يأتي ذكر الوطن الذي تنخره الأزمات والمصاعب، لكنه يظل عزيزًا، أثيرًا على القلب على الرغم من كل شيء.
غطرسة الأقوياء ويأس الفقراء
في نهاية الرواية، يرسم لنا الكاتب الآسيوي اللامع هوانغ سوك – يونغ صورةً بانورامية لما آل إليه عالمنا المعاصر بعد بدء الحرب على أفغانستان، وازدياد حدة التطرف وضيق الأفق وتنامي أعداد الإرهابيين في بقاع العالم كافة، «الغضب هو الجحيم الذي صنعناه بأيدينا نحن»، وهذا الغضب نفسه هو الذي أجج مشاعر الكراهية بين المسلمين المتطرفين وسواهم من الديانات الأخرى، وهو الذي حدا بالدول العظمى لأن تشنّ حربها على العراق. يقول الكاتب عن هذه الحرب: «هذه الحرب هي الجحيم بعينه، وسببها هو غطرسة الأقوياء ويأس الفقراء. نحن فقراء ولا شيءَ لدينا نعطيه، إنما يجب أن يكون لدينا الإيمان بأننا لا نزال قادرين على مساعدة الآخرين. هذه هي الطريقة الوحيدة التي يغدو فيها العالم أفضل حالًا».
ولا ينسى الكاتب الآسيوي المخضرم أن يتطرق إلى الخلاف بين الكوريتين والعداء المستديم بينهما، ناهيك عن الوضع العام في بلدان شتى في جهات العالم الأربع، ومنها الهند وباكستان وأفغانستان وبريطانيا ونيجيريا والعراق. كما يكشف لنا هذا العمل الروائي موهبة الكاتب الكوري وثقافته الموسوعية حين يحدثنا عن الطب الصيني التقليدي، والوخز بالإبر، والضغط الواخز، وعن شتى أنواع الزهور والأشجار والأزياء وألوان الطعام والشراب في كوريا والصين، كما يعرض لنا طقوس الباكستانيين وعاداتهم وأنواع الأطعمة التي يتناولونها والألبسة التي يرتدونها. كل ذلك نجده في أثر أدبي اختلط فيه الواقع بالخيال، وتسربتْ فيه الأحلام والرؤى إلى حبكة الرواية، بحيث يتعذر علينا أن نعرف متى انتهى الحلم ومتى بدأت الحقيقة. وهي، حتمًا، حقيقة مُرة، وقاسية، لأن بطلة الرواية «باري»، لا يريدها أبوها، لكونها الطفلة السابعة في الأسرة، وترميها أمها في الغابة، ولن تكون محظوظةً وسعيدةً في الأعوام اللاحقة، سيعاقبها المهرِّبون، ويستغلها الرجال القساة. نعم، حال «باري» هي حال الفتيات اللواتي يؤتى بهن من بلدانهن الأصلية كي يعملن في أوربا من دون رخصة عمل، ويُجبرن على ممارسة شتى المهن القذرة والوضيعة لإعالة أنفسهن، يتهددهن دومًا خطر التسريح من العمل والإبعاد إلى بلدانهن الأصلية.
إنما، في خاتمة المطاف، ثمة دومًا أناس طيبون، مسامحون، يحترمون الآخر، يحترمون عِرقه، ودينه، وثقافته، وأفكاره، وعاداته، وطقوسه، ولغته، ولا يعترفون بالحدود التي رسمها المستعمرون الطماعون أو الجنرالات المستبدون، والساسة المتغطرسون، ولا يترددون في التعبير عن مشاعر التضامن والمحبة والتسامح والتعايش والأخوة حيال الآخر المختلف عنهم جملةً وتفصيلًا. وهذه هي القيم التي آمن الكاتب بها ودافع عنها خلال حياته ومسيرته الأدبية ودفع ثمنًا باهظًا عنها، وأودع السجن، هو الذي عرفناه ناشطًا قويًّا في الدفاع عن حقوق الإنسان في الأدب والحياة على السواء.
كل ذلك جاء بجُمَل وعبارات موحية، عميقة الدلالات، مكتوبة بعناية ودقة نادرتين، وبأسلوب حديث أخَّاذ ناجم عن فهم المؤلف العميق لحقائق عصره وتناقضاته، وتعاطفه العميق والقوي مع أولئك الذين اجتُثوا من جذورهم وعاشوا عبر التهميش والحرمان في الظل الذي يرميه التحديث. وفيما هو يفعل ذلك أظهر هوانغ أيضًا فهمًا شاملًا للأزمات الإنسانية النفسية، والأفعال التافهة المتنوعة التي يقترفها البشر، وأشياءً كثيرة سواها. وعلى أي حال، يتعين علينا ألّا ننسى أن هذه الجوانب من أدب هوانغ ما كان لها أن تتحقق لولا إحساسه العميق بالجمال فضلًا عن أسلوبه وبنائه التجريبيين اللذين استخدمهما في قصصه، وكانا سِمتين بارزتين لأدبه منذ أن أمسك بالقلم وأخذ يدوّن القصص والروايات التي نالت التقدير والاستحسان من القراء والنقاد على السواء؛ بحيث قال عنه كنزابورو أوي، الكاتب الياباني الحائز على جائزة نوبل للآداب لسنة 1994م: «لا ريب، أن هوانغ سوك – يونغ هو أقوى صوت روائي في آسيا اليوم».
الهوامش:
* الشامانية : دين بدائي من أديان شمالي آسيا وأوربا يتميز بالاعتقاد بوجود عالَم محجوب، هو عالم الآلهة والشياطين وأرواح السلف، وبأن هذا العالم لا يستجيب إلا للشامان – م.
المنشورات ذات الصلة
خوليو كورتاثر كما عرفته
كانت آخر مرة رأينا فيها بعضنا هي يوم الجمعة 20 يناير 1984م، في غرفته الصغيرة بمشفى سان لازار في باريس، على مبعدة زهاء...
عن قتل تشارلز ديكنز
عشت الثلاثين عامًا الأولى من حياتي ضمن نصف قطر بطول ميل واحدٍ من محطة ويلسدن غرين تيوب. صحيح أني ذهبت إلى الكلية -حتى...
الأدب الروسي الحديث.. الاتجاهات، النزعات، اللغة
يشير مصطلح «الأدب المعاصر» إلى النصوص التي كتبت منذ عام 1985م حتى الوقت الحالي. إنه تاريخ بداية عملية البيرسترويكا،...
0 تعليق