كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
لا تَحزنْ على قُرطبة
1
لي مع قرطبة صورٌ عديدة. هي صور في الذاكرة، تجمعتْ عبر زيارات متدرجة عبر عقود. كنتُ في البداية زرتُها عند عودتي من باريس في صيف 1968م. آنذاك، كنت سافرتُ عبر القطار من الجزيرة الخضراء إلى مدريد، ومنها إلى باريس. وكنت استفدت، في شراء بطاقة السفر، من امتياز العائلة المتعددة الأفراد، بتخفيض يصل إلى خمسة وسبعين في المئة، على ما أذكر. لكن كان لي امتياز آخر، هو أنه كان بإمكاني التوقف في محطات القطار لقضاء الوقت الذي أريد في أي مدينة، ثم أستأنف السفر. بهذا فزتُ بزيارة أهم مدن الأندلس. واكتشافها ترك أثره في ثقافتي الأندلسية حتى اليوم.
قرطبة إحدى أكبر هذه المدن، إلى جانب كلٍّ من إشبيلية وغرناطة. أما المعلمة الكبرى المتبقية في قرطبة من الآثار الأندلسية فهي الجامع الأموي، الذي كان يحمل اسم «ميسْكيتا»، أي المسجد بالإسبانية.
تلك الزيارة تلتها زيارات لا أعرف عددها. كلما كانت الفرصة تسنح كنت لا أتردّد. قرطبة للمرة والمرات المتلاحقة. وكل زيارة تُهديني شيئًا مما لم أكن أعرفه من قبل، أو مما لم أكن انتبهتُ إليه، أو مما انتهى ترميمُه وفتحت أبوابه للزائرين. مثلًا، في سنة 2008م، شاركت في مهرجان «كوسمُوبويتيكا» العالمي للشعر. وخلال تلك الزيارة، افتُتحت مدينة «الزهراء» لأول مرة، فبادرت إلى زيارتها، صحبة صديقي إبراهيم نصر الله، الذي عرّفتُه عليها.
في شهر ديسمبر الماضي، دعاني فرع «البيت العربي» في قرطبة، لتقديم ديواني «كتاب الحب» بمناسبة صدوره مترجمًا إلى الإسبانية. وجدت في هذه الدعوة تكريمًا خاصًّا لي وللديوان؛ لأن عملي يتقاطع مع كتاب «طوق الحمامة» لابن حزم، ابن مدينة قرطبة. عندما كتبتُ هذا الديوان، أصبحتُ أعشق هذه المدينة الأندلسية أكثر مما كنت في السابق. فهي أيضًا مدينة ولادة وابن زيدون. بل هي مدينة ابن طفيل وابن رشد وابن باجة. وهي، قبل هؤلاء جميعًا، مدينة عبدالرحمن الداخل وزرياب وعاصمة الدولة الأموية. في ذلك العهد اشتهرت بأنها مدينة العلم. ذلك ما قاله عنها ابن رشد: «إذا مات عالم بإشبيلية فأريد بيعُ كتبه حُملت إلى قرطبة حتى تُباع فيها، وإنْ مات مطرب بقرطبة فأريد بيعُ آلاته حُملتْ إلى إشبيلية».
2
أسماء طافت بذهني وأنا أدخل المدينة من بابها القديم، وأمرُّ بالقرب من تمثال ابن رشد، ثم من تمثال رمزي لكل من ولادة وابن زيدون، وقد تلامست أصابع يديهما. مقر «البيت العربي» تحفة أندلسية، بترميم فائق البساطة والأناقة، مع تكييفه للأنشطة الثقافية الحديثة. غادرت البيت بعد انتهاء الأمسية، وأنا أحس بقوة المكان. أنا الآن في أندلس حديثة. البيوت والمتاجر والفنادق والمطاعم والحانات والمتاحف. مع صديقي، المستعرب الإسباني والمترجم فديريكو أربوس، استسلمتُ لمسار الزقاق الضيق المحاذي للمسجد. معًا وصلنا إلى قنطرة الوادي الكبير. المياه المتدفقة بقوة تمر تحت أقواس القنطرة. أحسست بعهود تقف هنا معي. وأنا أتأمل. بردٌ شديدٌ في منتصف الليل. مع ذلك ظللنا نستدعي أسماء وأعمالًا وحكايات.
في الصباح أشرقت شمس ربيعية. ضوء يسطعُ من جنبات الجامع. وقفتُ أمام أبوابه كما كنت دائمًا أقف. منذ تلك الزيارة الأولى في صيف سنة 1968م، كانت استأثرت بعيني كلٌّ من هذه الأسوار والأبواب. بإمكاني أن أبقى هناك واقفًا لساعات، أتأمل جمالية الزخارف المحيطة بالأبواب. هي وحدها كانت، خلال زيارتي الأولى، جديدة عليّ؛ لأن شكل الأبواب هو نفسه شكل أبواب الجوامع في المشرق والمغرب. لكن زخارف هذا الجامع شيء تختص به قرطبة. وها أنا، بعد زيارات للعديد من البلدان، أزداد يقينًا بأن هذه الزخارف متفردة في العمارة عبر العالم.
3
عند صحن الجامع حديقة من أشجار البرتقال والنارنج. حديقة واسعة، وعلى جوانبها سلسلة من الأقواس. في الركن الخلفي مئذنة، ترتفع، وقد تحولت في العهد المسيحي إلى برج للأجراس. ثم مدخل الجامع. أما النطق بتسمية «ميسْكيتا» الذي كان متداولًا آنذاك لم يعد اليوم كذلك. بنى عبدالرحمن الداخل الجامع الأموي سنة 785م ميلادية. لكن اتساع المدينة استدعى توسيعه عدة مرات. ثم مع سقوط قرطبة سنة 1236م ميلادية، خلال حروب الاسترداد، استلمت الكنيسة الجامع واقتطعت مساحة بداخله أحاطتها بشبابيك حديدية، أقامت في وسطها كنيسة. ورغم أنني لا أعرف التطورات التي عرفها الجامع بعد الاسترداد، فإني أفترض أن الكنيسة تركت داخل الجامع على حاله، باستثناء المساحة التي اقتطعتها. عندما زرته أول مرة تخيلتُ أن بناء الكنيسة حديث العهد؛ لأن الجزء الأهم في الجامع باقٍ كما كان. ثم كنتُ أسمع تسمية «ميسْكيتا» مثلما أقرؤها على تذاكر الزيارة. ولا أتذكر أن هناك من كان يخالف هذا الاستعمال.
في زيارة لاحقة لتلك الزيارة الأولى، وجدتُ تداول تسمية جديدة هي «المسجد – الكنيسة». وعندما كنت، هذه المرة الأخيرة مع فديريكو، أنتظر دورنا في الدخول وفوق رأسي قبعة تقيني من البرد، أمرني الحارس بنزع القبعة دون أن يبرر لي هذا الأمر. مباشرة عند المدخل، لاحظت آخرين أبعد مني يحملون القبعات فوضعت القبعة فوق رأسي. عندها فوجئت بحارس ثانٍ يوقفني بعنف، ويأمرني بنزع القبعة قائلًا لي: «إنك في الكنيسة». لم أترددْ، وأجبته بأنني في المسجد. فرد علي بحدة أكبر، وقد كادت عيناه تنفجران، إنها الكنيسة.
فهمت أن المسألة تتجاوز ما هو تنظيمي. نزعت القبعة ودخلت. بادرني فديريكو بقوله: «أرأيت ما معنى حكومة مدريد اليمينية؟ إنهم متطرفون ومتخلفون». هذا القرار موقف ديني، تتكلم من خلاله الكنيسة التي لا تتسامح مع حضارة الأندلس العظيمة، التي يجسدها هذا الجامع.
4
عندما تدقق في حركة السياح الذين يقصدون هذا المكان، قادمين من جهات مختلفة من العالم، تجدهم يتوجهون نحو أنحاء الجامع. يتوقفون، يتأملون، يلتقطون صورًا مع الأعمدة الشهيرة، ثم مع المحراب. لا أحد من هؤلاء يجيء لزيارة الكنيسة. عمارة الكنيسة لا ترقى لجمالية الجامع، بل هي تتنافر معها. وما كان استبد بي عند زيارتي الأولى هو الذي لا يزال يستبد بي وبالزوار حتى اليوم. لهذا الجامع هندسة معمارية تقوم على التساوي والتوازي بين الأعمدة والأقواس، التي تتناسق في طول الجامع وعرضه. عتمةٌ هادئة تملأ الفضاء، وأنا أتقدم ببطء كبير. لا يمكن أن ترغم جسدك على الحركة فيما هو جمال الأقواس، باللونين الأحمر والأبيض، يثبّت قدميك ويجعلك تنظر إلى الأقواس وحدها، من زوايا متعددة، وسط هذه العتمة الهادئة. قليلًا ثم قليلًا تتقدم. وها أنت أمام المحراب – المعجزة الفنية.
تُزيِّن المحرابَ وبابَ المنبر وبابَ مقصورة الخليفة أحجارٌ زجاجية ذات لون ذهبي، ومطعمة باللون الأحمر والأخضر والأزرق. جمالية هذه الزخرفة تتضاعف بفعل الأحجام المتوسطة للأبواب. لا تعرف بالضبط سر التوازن بين العناصر الزخرفية حتى يتضح الضوء الخافت المنبعث منها ومن أعلى القبة المخرمة. في وسط الأشكال الهندسية كتبت بخط كوفي آيات قرآنية واسم الإمام المستنصر. يتجمع الزوار في هذه المساحة الصغيرة من المسجد، وهم يشاهدون صامتين. عيونهم لا تتحرك. وأنا أرى وأعود لأرى. أركز النظر على دقة قياسات أشكال التزيين المعماري وعلى تساويها وتناغمها مع الألوان التي يتوجها اللون الذهبي مثلما تبثّ فيها الكتابة بالخط الكوفي حركية مركّزة. فهل جمالية الجامع الأموي أبعد من تعبيرها الديني؟ أم أن جمالية هذه العمارة الإسلامية تكتنز أسرارًا تعبيرية لا ندركها بما يكفي؟
5
من تسمية «المسجد» إلى تسمية «المسجد – الكنيسة»، حتى أصبحت تسمية «الكنيسة» تنفرد اليوم بهذه التحفة المعمارية الإسلامية. هي مراحل من محو الذاكرة. لا تحزن، أقول لنفسي. في أكثر من عمل معماري في العالم تحضر أقواس جامع قرطبة بلونيْها الأحمر والأبيض، وجميع السياح القادمين (من بينهم إسبانيون) إلى قرطبة لا يأتون إلا من أجل الميسْكيتا. وسيظلون ينطقون بتسمية الميسكيتا، حتى لو حرمته الكنيسة ودعّمتها الحكومة الإسبانية اليمينية.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق