كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
«مستقبل الماركسية» لأندرو ليفن هل اقتناع المناصرين سيبعث فيها الحياة؟
لم تهز العالم أزمة أيديولوجية بقدر ما فعلت الماركسية حين ارتبكت في عقر دارها عندما تداعت المنظومة الاشتراكية فيما كان يسمى بالمعسكر الشرقي الذي يمثل الدول المنضوية تحت نطاق الاتحاد السوفييتي سابقًا، وبسبب ذلك اندفع سيل التحليلات والمراجعات والأبحاث التي نقدت وعارضت وحلّلت؛ فظهر المتشفون في أزمتها، والمدافعون عنها باستماتة؛ لكن الشيء الذي لا يستطيع الجميع تجاهله أن الماركسية باقية في جميع أنحاء العالم إذ إن بقاءها تمثل في الأحزاب والتيارات السياسية التي تشارك في كثير من الدول ضمن الأنساق التي تشكل النظم الديمقراطية وغيرها؛ ولعل أهم ما يطرحه كتاب مستقبل الماركسية لـ«أندرو ليفن» ترجمة زين العابدين سيد محمد وإصدار دار أروقة للدراسات والترجمة والنشر؛ أهم ما يطرحه الكتاب التساؤل التالي: هل هذا الاقتناع لدى المناصرين للماركسية في النهاية سيبعث فيها الحياة؟ فمستقبل الماركسية يعتمد على الظروف السياسية المحيطة التي توجد في سياقها وأن السمات التاريخية للماركسية هي التي حملت في فرضياتها المستقبل.
يتوزع الكتاب في جزأين وستة فصول هي: بعد مقدمة الجزء الأول «بعد الثورة»، و«اليسار الأخير»، و«ألتوسير»؛ ثم مقدمة الجزء الثاني التي خُصصت للماركسية التاريخية؛ ثم الفصل الرابع الذي جاء بعنوان: التحول، ثم الفصل الخامس تحت عنوان: التحول التحليلي، وأخيرًا فصل الميراث. ينصب الهم البحثي في الكتاب على كثير من المعطيات والفرضيات التي منها التساؤل التالي: أين موقع الماركسية اليوم من التغيرات العالمية؟ ثم إلى أين يسير بنا الطريق؟ وما مصير الحركات العقائدية التي آمنت بالماركسية ومنهج الماركسية؟ ويلقي الباحث الضوء على تيارين سياسيين واضحين في الماركسية المعاصرة، ثم على اثنين من الاتجاهات المعاصرة: اتجاه اعتمد على عمل (لويس ألتوسير) ورفاقه والاتجاه الآخر هو الماركسية التحليلية، وقد عدّ الباحث ماركسية ألتوسير بمثابة نواة لإنعاش الفكر الماركسي.
استعرض الكاتب في مقدمة الجزء الأول الانعكاسات الطبيعية والتفسيرات البيئية والسياسية لها، ورسم في الجزء الثاني رؤية السياسة والفكر التي ظهرت بعد الثورة الفرنسية، ومن هنا أراد تحديد الرؤى الواسعة وأراد من خلال ذلك –أيضًا- تحديد المكان الذي تقف عليه الاشتراكية في هذه الرؤية الواسعة وطرح للمناقشة ما يميز الماركسية من الاتجاهات الأخرى للفكر الاشتراكي، وعلى وجه التحديد الزعم بأنها اشتراكية علمية (على أساس أنها ضد فكرة اليوتوبيا) أحيانًا في رأي البعض ويبدو هذا الجدل جليًّا في الجزء الثاني من الكتاب، ولا سيما في الفصول الخاصة بالماركسية التحليلية؛ إذ عُرضت بعض الأفكار التي ناقشت فكر اليسار الجديد الذي ازدهر في منتصف الستينيات.
في فصل ما بعد الثورة، تكاد تكون الثورة الفرنسية هي المحور الرئيس فإذا كانت الأيديولوجيات الثلاثة في القرنيين الماضيين: الاتجاه المحافظ والاشتراكية والليبرالية تمثل السمة الرئيسة فإن ذلك لم يكن ليتطور وبخاصة الاشتراكية لولا هذا الحدث الثوري ويقصد المؤلف الثورة الفرنسية. أما الفصل الثاني المخصص لليسار الأخير فيلقي الضوء على اليسار الجديد الذي بدأ مع نهاية خمسينيات القرن العشرين ونضج مع دخول عام 1968م؛ إذ ظهر فيه أناس على قدر من الحكمة والتعقل ويرون أن المستقبل القريب يحمل في طياته احتمالًا بأن يصبح شعار «السلطة للشعب» حقيقة واقعية، وهناك اليوم من يعد اليسار الجديد هو بداية لتحقيق المستقبل.. أما الفصل الثالث «ألتوسير والفلسفة»؛ فرصد تأثير فلسفة ألتوسير في المشهد السياسي والفكري في فرنسا وخارجها. وكان كتاب ليفن «دفاعًا عن الماركسية» الأكثر شهرة بين كتبه؛ إضافة إلى كتاب «قراءة رأس المال». ومما لا شك فيه أن ألتوسير عُرف بالفكر المادي في الفلسفة ولذلك ادعى أن الثورة المعرفية (التحول الإبستمولوجي) أظهرت الديالكتيك المادي الذي قصد من خلاله طريقة جديدة للفهم.
في الجزء الثاني من الكتاب يضع المؤلف مقدمة يتحدث فيها عن معارضته للمصادر الهيغلية وكذلك المصادر الماركسية نفسها؛ فالماركسية التي اعتنقها الماركسيون على حد تعبيره كانت نتاجًا لفكر هيغل، ومن دون شك أن لها جذورًا قبل هيغل، فاللاهوتيون البروتستانتيون الذين سعوا إلى تأسيس شرعية إيمانهم يقولون: إن كنيستهم على مدار التاريخ الكهنوتي سبقت الفكرة الماركسية للتاريخ. أما الفصل الرابع الذي تحدث عن التحول فإنه يستند إلى ألتوسير الذي حدد التحول بنظامين مختلفين: علم الاجتماع الماركسي (المادية التاريخية) ونظرية هذه النظرية (المادية الجدلية) Dialectical ومن ثم يقسم التحول الإبستمولوجي فكر «ماركس» إلى حقبتين طويلتين أساسيتين: الحقبة الأيديولوجية قبل التحول والحقبة العلمية بعدها في عام 1845م. وفي الفصل الخامس الذي عُنون بالتحول التحليلي أكد المؤلف فيه أن الماركسية التحليلية في واقع الأمر ظاهرة أكاديمية؛ لكنها لم تكن التيار السائد المسيطر على الماركسيين الأكاديميين المعروفين، إنما يمكن وصف المتحدثين بها بأنهم خلفاء ألتوسير. الفصل السادس والأخير هو فصل الميراث ويقدم فيه ليفن تفسيرات عامة عن الموضوعات السابقة ويتساءل –كما هي عادته في الكتاب- هل سيسير اليسار القادم تحت لواء الماركسية؟ منتقدًا التجربة السوفييتية التي رأى فيها وصمة عار؛ لكنه شدد على ألا تطوي يد التجاهل فكر ماركس بحيث لا يُدرَس، كأنه نتاج تاريخي فقط.
ولعل ما قد يلاحظه القارئ هو اتخاذ النموذج اليساري في أميركا مثالًا للتفسير، وفي أغلب الأحوال تفنيد التوعك السياسي الذي ظهر في النظرية، وما رافقه من خوف من اليوتوبيا فهو يقول: إن ثمة سببًا معقولًا للخوف من التفكير اليوتوبي في بعض جوانبه، وقد يكون في أغلب الأحوال، ولكن ليس في كل النواحي الفكر اليوتوبي هو العلاج، وقد يكون هو العلاج الوحيد المتاح بسبب حال الإعياء التي يمر بها الفكر السياسي في وقتنا هذا، فإذا كان لليسار مشروع موحد فإنه من باب أولى يجب التركيز على الماركسية فقط؛ لأنها الحال الأكثر أهمية والأكثر تأثيرًا لأنها تفترض دائمًا وجود رابطة متكاملة، لتنظيم الشؤون الإنسانية وتفسيرها لكيفية الخروج من الوضع الحالي.
المنشورات ذات الصلة
«جوامع الكمد» للشاعر عيد الحجيلي… عوالم شعرية بسيطة
يثير ديوان «جوامع الكمد» (الدار العربية ناشرون) للشاعر السعودي عيد الحجيلي مجموعة من الأسئلة القصيرة المتعلقة بالذات...
«حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس التخييل المرجعي للذاكرة
تأخذ رواية «حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس -منشورات المتوسط- أذهاننا إلى زمن الحرب، إنها إحالة إلى الزمن، ولم...
السيد الجزايرلي في ديوانه الجديد بصير يتلمس عبر التصوف حنينه إلى الوطن
العلاقة بين التنبؤ والشعر قديمة ووطيدة منذ قصة وادي عبقر، والقول بأن لكل شاعر عفريتًا من الجن يلهمه أشعاره، مرورًا...
0 تعليق