كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
باكرًا، اقتحمت «التابو»
خيرية السقاف إحدى الأديبات الرائدات في المشهد الثقافي السعودي، وقد كرمها مهرجان الجنادرية لعامه الثاني والثلاثين بوسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى، وهي المرة الثالثة التي تكرَّم المرأة في هذا المهرجان. إن هذا التكريم ليس عشوائيًّا فهو في المقام الأول تعبير عن رؤية التحول الوطني «2030م» التي تحدثت عن تمكين المرأة ودعم مساهمتها في جميع مجالات الحياة. وهو في الوقت نفسه تكريم لنساء الوطن جميعهن وتقدير واعتراف بحق الرواد في الاعتراف، وبدور المرأة المثقفة في مسيرة الحركة الثقافية في المملكة العربية السعودية.
لم تكن مسيرة خيرية السقاف سهلة، فهي استطاعت أن تضع بصمتها في وقت كانت المرأة فيه لا تزال تبحث عن مكان لها. لقد بدأت مسيرتها الصحافية في ستينيات القرن الماضي، وكانت أول امرأة تكتب زاوية يومية في الصحافة اليومية، وأول امرأة تكتب مقالة أدبية إذاعية، كما كانت أول امرأة تشرف على ملحق نسائي يصدر عن صحيفة يومية، وفي منتصف الثمانينيات عينت مديرة تحرير في صحيفة الرياض لتكون أول امرأة تشغل هذا المنصب الصحافي في الجزيرة العربية. هي أيضًا أول وكيلة نسائية على مستوى الجامعات السعودية، وأول عميدة في مركز الدراسات الجامعية للبنات في جامعة الملك سعود. تلك المسيرة يمكن أن تلخص مسيرة امرأة كانت من الأوائل والرواد في المجالين الإبداعي والأكاديمي. وفي مجال الإبداع كانت رائدة في مجال القصة القصيرة الفنية في المملكة، وذلك من خلال مجموعتها القصصية «أن تبحر نحو الأبعاد» التي عالجت فيها قضايا المرأة وأدخلت الرجل إلى العالم القصصي، ودخلت في مناطق ما يعرف بـ«التابو» من دون هجوم أو مساس بالقيم، فتُرجم عدد من أعمالها إلى خارج الحدود بوصفها تمثل صوتًا نسائيًّا له حضوره في الساحة الثقافية، صوتًا يعكس واقعًا ثقافيًّا واجتماعيًّا ويمثل جزءًا من المجتمع العربي رغم خصوصيته المحلية.
لعل الدور الأبرز لخيرية قد ظهر من خلال فن المقالة ومن خلال مسيرتها الصحافية التي تمتد إلى عقود. تقول عن نفسها: «أسهمت في النقلة الأولى للعمل الصحافي النسائي من مجرد الكتابة الذاتية إلى مواقع الحدث، وحرفية المهنة. عندما أشرفت على العمل الصحافي النسائي، ثم غدوت أول مديرة للتحرير، أفرغت وقتي لإعداد أول جيل من الفتيات في العمل الصحافي الميداني». وبهذا تطرح الكاتبة قضية مهمة لا تقتصر على مجرد المساهمة في الكتابة بل في نقل الدور النسائي إلى موقع الحدث ومجال الفعل الصحافي الميداني معززة بذلك مساهمة المرأة ودورها في المجال الإعلامي.
جمال العبارة وأهمية الفكرة
في الوقت نفسه استطاعت أن تخط لنفسها مسارًا مختلفًا في كتابة المقالة الصحافية، يحاول المواءمة بين جمال العبارة وأهمية الفكرة، مؤكدة أن مقالتها ليست للقارئ السريع الذي يريد من المقالة أن تكون وجبة جاهزة تغريه بنكهتها المصطنعة، فتقول: «أنا لا أجيد صياغة الطبخة السريعة، ولا أطعمها بنكهة الوجبات. لذا أقف عند أبجديتي، أتأملها، أنسجها بميسم دقيق، أنحتها من منجم عميق، وأجتاز بها للذواقة وحدهم». والمطلع على مقالاتها يمكن أن يلحظ هذا الأمر بسهولة، فهي تختار الكتابة بلغة أدبية تتطلب من القارئ الوقوف والتأمل. وفي ذلك تراوح عناوين مقالاتها بين العناوين الشعرية والعناوين المباشرة التي تحيل إلى فكرة المقال وإلى موضوعه بصورة واضحة. ومن النوع الأول يمكن أن نرى عناوين نحو: في المرآة- الخانات الفارغة فيه- على سطور أبخرتها- العصا بين الوتد والجسر- بجوارك أيتها المليحة السوداء». ومن النوع الثاني يطالعنا: الإعلام- ماذا في حال غياب السائق الخاص- عذرًا فالمخالفات كثيرة- التعليم والصياغات البراقة، وغيرها.
تشير هذه الثنائية في طبيعة العناوين إلى طبيعة المقالة عند خيرية السقاف، فهي تقدم في مقالاتها خبرة تأملية في الحياة والبشر بلغة أدبية تجعل القارئ يعيد النظر ويتأمل في عدد من المفاهيم التي يؤمن بها ويمارسها في حياته اليومية. وتقدم في الوقت نفسه انتقادًا هادئًا لبعض الظواهر والقضايا المجتمعية كالفساد والتحرش وإشكاليات التعليم وغيرها. ويمكن ملاحظة هذا المنحى التأملي في بعض العبارات التي ترد في أثناء المقالة كما في مقالة «في عبوري عن الفساد» حيث يمكن التوقف عند بعض العبارات نحو: «فحيث يكون الإنسان تكون الأخطاء، وهي تتفاوت نادرة بمدى كفاءته، ودائمة بقدر قصوره وبحجم ارتكابه لها»، ففيها نوع من التأمل في الطبيعة البشرية دونما محاولة للهجوم أو الإدانة غير المبررة، وبذلك يتحمل الإنسان مسؤولية أفعاله، ويمكن للنظام وللتشريع بعدها أن يقوما بدورهما. وإذا كانت العبارة التأملية جزءًا من المقالة السابقة فإن مقالات أخرى تنحو منحى تأمليًّا شاملًا وتبنى على مقدمة تأملية واضحة، فعلى سبيل المثال تقول في مقالة «في الميزان»: «حيث لا قاعدة لا تقوم أعمدة/ ودون رواسي تميد الأرض/ وبلا ماء ينتفي البحر والنهر والعين والبئر/ وبدون ألفة يتفكك الكون/ وبلا شمس يتسرمد الليل/ وبدون لغة مشتركة لا تتعارف الشعوب». وتتوالى مثل هذه الجمل القصيرة، والمقدمات المنطقية لتأخذ الكاتبة بيد القارئ صوب فكرتها الأساس، ومن ثم يكون مهيأً للاقتناع بها، وبأن «النقيض لا يمكن أن يوجد دون نقيضه»، وكما توجد التناقضات في الحياة، وكما يحتاج أحدها إلى الآخر كي يوجد ويكون أيضًا يمكن أن يوجد الادعاء والتناقض بين البشر وفي طبيعتهم، ومن ثم لا بد من قبول الاختلاف وحقيقة ضعف الإنسان، وقبول مبدأ أنه لا يمكن أن يتماثل البشر، وأهمية عدم توقع تشابه البشر في سلوكهم وأخلاقهم. وأمثلة أخرى كثيرة تمارس فيها خيرية الكتابة للإنسان وعنه، وعن أصحاب القلوب الكبيرة، والمنافقين والمتطفلين والمخادعين والمتناقضين، وباختصار عن الحياة الإنسانية في كل ملامحها ونماذجها، في تأمل هادئ وعميق من دون محاكمة أو انتقاد مباشر، بل تأخذ القارئ بهدوء صوب فكرتها ومن ثم الاقتناع برؤيتها.
إلى جانب هذه الرؤية التأملية يمكن للقارئ أن يتوقف عند اللغة الأدبية التي تعطي نوعًا من الرمزية لبعض المقالات؛ إذ تبنى المقالات على فكرة غير مباشرة ورمز يعطي نوعًا من التكثيف ومزيدًا من الإيحاء، ومن ذلك ما يمكن أن نجده في مقالة «إنه الدرس»؛ إذ تُبنَى على رمز أساسي هو العصا التي يستخدمها الأب بصمت لمآرب أخرى، كما تقول الكاتبة في لغة تناصية مع القرآن الكريم، لتكون رمزًا للقيم التي يغرسها الأب في أبنائه ولطريقة في التربية تعلَّموا فيها من أخطائهم وأحسُّوا بقيمتها بعد أن أصبح لهم أبناء بدورهم. وبعد أن يدرك الأبناء رمزيتها تختفي ليحل مصباح محلها وليكون بدوره رمزًا لإنارة العقول واكتشاف الطريق. ويمكن أن نجد تلك الرمزية أيضًا في مقالة «بجوارك أيتها المليحة السوداء» حين يكتشف القارئ أن المليحة ما هي إلا الكعبة المشرفة التي يتوافد إليها البشر على اختلاف أجناسهم وألوانهم، وبجوارها يغسلون قلوبهم وأرواحهم. وتتجلى تلك الرمزية أيضًا في رمز أثير عند الكاتبة ويتكرر في عدد من مقالاتها وهو رمز «نوارة» التي تصير رمزًا لكل الأمهات، بما يحمله هذا الاسم من الإيحاءات بالنور والجمال، نور الشمس ونوار الزهر، ومن ثم يختصر الرمز كل الأمهات وتتكثف معه اللغة في شعرية عالية تتحول إلى نوع من البوح الشاعري الذي ترسل الكاتبة من خلاله رسالة حب إلى كل الأمهات اللاتي غادرن واللاتي لم يغادرن.
سمات قصصية
وتتجلى لغة خيرية السقاف الأدبية ونزعتها القصصية في مقالات أخرى تحمل سمات قصصية، نحو «على سطور أبخرتها»، ومنذ عتبة النص الأولى والعنوان الشعري الذي يحيل فيه الضمير إلى مجهول ينكشف لاحقًا في القراءة أنه يحيل إلى القهوة، منذ هذا العنوان تبدأ ملامح القصصية في العمل الذي يبدأ من لحظة تداعٍ عاطفي وفكري، وعبر تيار الوعي وتتالي الأفكار، واللغة الشعرية المكثفة يتهيأ المشهد بصريًّا ليعطي القارئ ملامح المكان «الشوارع المستطيلة بانحناءاتها تتلولب داخل المدينة الفارهة العتيقة/ قليل وتعبر الحافلات بأبواقها التي عهدها الواقفون على الرصيف/ الجالسون في الانتظار على المقاعد الخضراء المستطيلة..». وعبر هذا التداعي المشهدي تتكامل ملامح المكان وتنفتح على ملامح الحياة في مدينة ليست عربية، ويتابع القارئ تفصيلات صباح يوم عمل عادي في جو قاسٍ مغلف بالبرودة الشديدة، وعبر التقاط هذه التفاصيل تتداعى الذاكرة إلى مشهد مقابل لمدننا التي تزدحم بالعربات الخاصة، وجدية أبطال المشهد الأول في أعمالهم وحياتهم في مقابل الاستهتار وتضييع الوقت في مدننا؛ ليقف السؤال ويظل معلقًا في تداعيات امرأة تحتسي قهوتها بهدوء في جلسة صباحية.
من خلال ما سبق يمكن القول: إن خيرية السقاف ترسخ أساسًا لنوع من المقالة الأدبية الذي تتوازن فيه اللغة مع التأمل وتناول قضايا الحياة اليومية. وهكذا يمكن أن نلحظ بروزًا واضحًا للغة الشعرية المكثفة في عدد من المقالات ولا سيما تلك التي يغلب البوح عليها، وتميل فيها إلى التأمل، ومن ذلك ما نراه في مقالة «في غربتها» حين تقول: «لولا ذلك الطيف المتدلي من عريشة الحلم إليها/ لفض شتاء المدن عن نحيب يطول في غربة الشوارع/ ذلك الطيف المادّ كفيه يمسح وحشتها/…/ تلك المدن المطلة على سطور العتبات وقد بصمت دعسات العابرين بها/ وتشبثت/…/ ذلك الطيف الكبير الذي تدثرت بخطوطه كفاها…». وتتوالى اللغة التي تعتمد على التكثيف والانزياح اللغوي، وكثافة الصورة الشعرية التي تتلاءم كلها مع بوح امرأة تعيش حالة الغربة ومن ثم تكثيف الحنين، والتمسك بأمل بعيد أو طيف أكثر بعدًا ليعيد إليها الأمل بالحياة.
إن خيرية السقاف ليست مجرد أكاديمية وأستاذة جامعية وإدارية، وليست كاتبة صحافية ومديرة تحرير، وليست قاصة أو شاعرة، وليست كاتبة مقالة أدبية واجتماعية وتأملية، إنها ذلك كله مجتمعًا. إنها الريادة والإبداع الأدبي وروح المثابرة التي جعلت امرأة تشق مسارًا طويلًا منذ الستينيات حتى الآن لتحفر اسمها امرأة مبدعة ومثقفة سعودية كتبت وطنها كما كتبت نفسها والنساء معها. بذلك يأتي التكريم حلقة في سلسلة ريادتها ونموذجًا للاعتراف بمكانة المرأة وإبداعها وبأن الرواد يستحقون الاعتراف بهم في حياتهم، وبأن نموذج المرأة المبدعة هو نموذج مشرف تجلى في امرأة أرادت أن تكون فحفرت بصمتها وسجلت اسمها في سجل فخر وحكاية إبداع.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق