كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
المعرفة.. والافتتان بالذات التاريخية
ترتبط القوة بالمعرفة التي تعدّ ممارسة غير محددة باشتراطات تكبح الكثير من طاقتها الذاتية، أو الداخلية، غير أن المعرفة أيضًا هي غرور الذات لهزيمة الفناء، وهي في أحد أشكالها التقدير المثالي للحياة، وتمثيلها الخالد؛ ولهذا تُترجم المعرفة إلى خطاب، أي الشكل الأمثل لتجليات الإنسان الذي يتميز عن سائر المخلوقات بالرغبة في السيطرة الكاملة على الطبيعة، والكون، والظرف، غير أن هذا النهج يصطدم بحاجز القيم، فثمة قيم ينبغي للمعرفة أن تنطلق منها، كما أنه ليس هنالك من معرفةٍ حقيقية، أو مشروعة في حال نزعت القيم عنها، وإلا سوف نعاني تشويهًا مجتمعيًّا، أو أخلاقيًّا، ومن هنا تكمن أهمية قراءة جدلية المعرفة في ضوء منتجها، ونعني المثقف والعالم، والفيلسوف المنتمي إلى كيان أمة ما، حيث يحرص كلٌّ على توافر الحد الأدنى من القيم في ممارسات الإنسان بهدف اكتساب القوة والهيمنة.
والقيم عبارة عن منظومة تُعرف بعلم القيم أو الأكسيولوجيا Axiologie، فلا جرم أن يوجد الفلاسفة والمصلحون والمبدعون بدءًا من سقراط وأرسطو مرورًا بالغزالي، وابن القيم، وأبي حيان التوحيدي، وليس انتهاء بكانط، وديكارت وهيغل… وجلهم جاء من أجل تكريس قيم معينة، قوامها الإفادة من البعد المعرفي على الرغم من أن ثمة –أحيانًا- إشكالية، وبخاصة حين تتصل المعرفة بالقوة أو الضعف، كما الهيمنة أو التابعية، فعلى سبيل المثال فقد قرأ هيغل حاضر الأمة الألمانية المتداعية في ضوء إعجابه بنابليون بونابرت، فقدّم الدولة على الفرد، في حين قدّس نيتشه القوة، ورأى في الأخلاق ضعفًا، وهكذا تتأسس إشكالية المعرفة العربية التي تبدو منزوعة القوة، فلا قيم تحركها سواء أكانت سلبية أم إيجابية، من منطلق أن مفهوم القيم نسبي، لا مطلق.
منذ أن وُجدت الحياة نشأت المعرفة بوصفها مصدرًا لمقاومة القبح المتمثل في الجهل الذي يمكن أن يتحول إلى موضوع قائم بذاته، ولكنها تعني أيضًا نبذ الضعف، ومع ذلك، فإن هذا المسوّغ يبدو مجالًا أقرب إلى التأويل المقنّع… فالقبح أو الضعف أمران نسبيان، فثمة إمكانيات أخرى لمعانٍ يمكن أن تطفو هنا وهناك، بحيث نرى القبحَ جمالًا، أو العكس، في حين أن الضعف تجسيد للسلم، أو المغفرة، إذن ليست المعرفة السعي إلى الخير المطلق، كما أنها ليست خطابًا عبثيًّا، أو منصات قيمية، لكون القيم لا يمكن أن تُشكّل مجالًا توافقيًّا بين البشر، فالعدل البشري محض أسطورة، ولا سيما أننا لا نمتلك الإمكانيات عينها، ولا الظرف ذاته، فكيف يمكن أن تحتفي المعرفة بعدل قيمي لا يمتلك أسسًا عقلية؟ ولا يمكن أن يكون مجالًا للمساواة، لكوننا نختلف في الاحتياجات!
فيض من الوهم
توجد المعرفة في العالم العربي بوصفها «مظهر المعرفة» أو فيضًا من الوهم، فالعقل العربي لا تحركه المعرفة من منطلق تمثّل قيم كالقوة، أو العدل، أو المساواة، إنما من منطلق توافرها بوصفها شكلًا حضاريًّا نمارسه، ولكن بلا موجهات، في حين أن الذات الجمعية بوصفها «روحًا» – متقدة حسب التعبير الهيغلي عندما تحدث عن التاريخ الفلسفي- يكسوها مشهد الضعف، أو البقاء في مجال اللامعنى للأشياء، وإذا كانت ما بعد الحداثة قد أجهزت على المرويات الكبرى كافة، فإنه ليس ثمة مجال لما يمكن أن يقال… سوى فائض من السرد المجاني والعبثي لزمن لا يمتّ لذواتنا بصلة، لكوننا قد خرجنا منه معرفيًّا وقيميًّا، ولكننا عابرون فيه بوصفنا منتجين لظواهر المعرفة بهدف الاستهلاك، لا الإنتاج.
لقد أصبح العقل العربي، بعد أن اكتشف الآخر تاريخه الخاص، مفتونًا باستعادة متتاليات نصية، ومحاولة اكتشاف تفوقه. تلك المعرفة «المُستجلبة» أو المعرفة « المستعادة»: الأولى معرفة مستعارة من العقل الغربي، مقبولة تقنيًّا، مرفوضة قيميًّا، في حين أن الثانية معرفة مجترّة، شارحة، نعيد اكتشاف ذاتنا فيها، وأعني الموروث بوصفه مجالًا معرفيًّا بيد أنه مقبول قيميًّا، ومع ذلك فلا يمكن له أن يقودنا إلى تمثّلات القوة، فلا جرم – إذن- أن نعيد اكتشاف ذاتنا في مصنفات ألف ليلة وليلة، والمقامات، وكتب أبي حيان التوحيدي، والجرجاني، والجاحظ، وكتب التراجم والأعلام، وغيرها كثير، وكأن ثمة قناعة بأن هذا المسلك يمكن أن يأتي لنا بفيض من الاحترام الذاتي، فالعقل العربي يمارس وعيه في ضوء معرفة منجزة، ومن هنا تكمن مشكلة العقل العربي، لكونه يعاني من سلطة ما (سياسية- ثقافية- نصية)، وهي أفقية متعالية «العقل الغربي»، وسلطة عمودية «العقل التراثي»، والحقيقة أن السلطة الداخلية، أي المعرفة بوصفها دينامية داخلية مولدة، هي التي تؤلمنا؛ لأننا غير قادرين على توليدها.
ولعل قصور العقل العربي يكمن في افتقاده لمعنى التحرر والانطلاق، بمعنى انتقاد هرمية ما، أو القدرة على صوغ منظور خاص بالعالم، في حين أننا لم نضف شيئًا للعقل الكوني سوى أننا نمارس زيف التفكير، وهذا يطول إنتاجنا في العلوم الطبيعية والتطبيقية. كل ما سبق يتبدى ممارسة الحياة الجمعية للعقل العربي الذي تشابه في هذا الشيء بوجه خاص، على الرغم من أننا مختلفون في أبسط الأشياء… أو كما يقول إميل سيوران: «نحتمل بعضنا بعضًا لأننا جميعا مُدّعون»…أو… زائفون ومع أن تاريخنا فيه كثير مما يفرقنا، ولكن فيه الكثير مما يجمعنا…بيد أننا لم نكترث إلا بما يجعلنا ذاتًا / مفردة) لا أممًا مفكرة.
مفتونون بذواتنا
يرى معجم ويبستر أن تعريف الإبداع يتصل بالقدرة على امتلاك القوة للخلق… والابتكار، وفي معنى آخر هو أن تبتكر بلا تقليد، وهذا ما يقترب من التعريف المعجمي العربي كما يقول ابن منظور، فالإبداع من الجذر الثلاثي بدع… أي أنشأه وبدأه… وحين نختبر الإبداع العربي المعاصر الآتي من لدن العقل، سنجد أنه مرتهن بالكلية إلى إعادة ما ابتكر الأسلاف، ولكن عبر الشرح والتفسير، ومحاولة تحميله ما لا يحتمل من تطبيقات ورؤى، لا تؤدي في معظم الأحيان غرضًا سوى لغة فوق اللغة، ولا لغة جديدة هنا. وهكذا أمسى الإبداع والمعرفة فعلًا من الوجود الزائف، أو خلق ماهية فوق الماهية المنجزة، وهي في الأغلب تكون لغوية بامتياز، ولكننا في عصر أمست فيه اللغة مجالًا لا أكثر، أي لغة قابلة لأن تمسي مكشوفة، وفارغة، وبذلك فقدنا شيئًا من الغموض، مع أننا نعد غامضين بالقدر الذي نعتقد. وما مساحات القراءة غير تسلية لمن لا يعترفون بالجدب الثقافي، وبأننا لم نعد ننتظر شيئًا… كما أن العالم لم يعد ينتظرنا، فهو يتقدم إلى الأمام وهو مؤمن بقيم ما كالديمقراطية، والقوة، أو التفوق، في حين أننا ما زلنا مفتونين باللغة… بوصفها أعجوبة لا يمتلكها سوانا.. إننا مفتونون بذواتنا التاريخية، أو بمنجز لا نتقن منه إلا كتابة تعليقات على هوامشه، إننا مشغولون بالوجود، ولكن ماهيتنا الجديدة قلقة، ليس ثمة إدارة حرة تبعًا لآراء سارتر الذي فرض على العقل واجبات إلزامية.
لا ريب في أن من أهم ملامح هامشية العقل العربي ذاك الشيوع لاجترار معرفة انقضت أزمنتها، وهكذا فالعقل العربي الآني، غير متحقق، فقط ثمة مسوغات الوجود لكون الحاضر في حكم الارتهان لواقع خارجي فرض علينا، ولذلك لجأنا إلى معرفة واحدة فقط السعي إلى أرشيف من الرموز التي تحيل إلى ملامح ماضٍ، وهو ينتج نمطًا من الحياة والحضارة التي عبرت هذا المكان. ولكن الشيء غير المفهوم أو المحزن أن تنتشر هذه الممارسة بين شعوب أو دول قائمة في التاريخ أو الوجود منذ قرون، وهو ما يعني أن ثمة عقمًا في الإنتاج أو الإبداع. وفي الحقيقة نعاني إشكالية تحديد قيمنا، وتحديد ماهيتها، وتوجهها، وبالمحصلة فإننا لم نعد نملك شيئًا، أو لم نعد نملك ذلك العقل الدينامي الحيوي الفاعل، فليس هنالك من مستقبل، ولا شيء يمكن أن نضيفه…
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق