كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
السيرة الأخيرة لجوادي*
على زمن الشعر أن يتنزّلَ في سير راحلتي، من خيام القبيلةِ
حتى شطوط «الكاريبيّ»، إني انتظرتُ جنون تبدّيهِ عامين
حتى تجمّد في الروح شوقُ المياهْ.
على زمن الشعر ألا يخون الصداقةَ،
يا طالما أربكتني اشتعالاتُه في دمي،
ومشيتُ على النار منتشيًا خلفهُ،
حين يصفو
ويا طالما بتُّ في حضنهِ عاريًا،
كصبيٍّ يفاجئه العشق من عُنُقٍ يتبدّى على النافذة!
إلى « كوستاريكا»: وضعتُ على ظهر هذا الجواد جراحي، وعِقْدًا من السحرِ يعصمني من حنيني إلى البيتِ،
هل سوف أُشفى من الذاكرةْ؟
من تراجيع أغنيتي في الطفولةِ
قرب المياه التي تتحدّر من جبلٍ قرب باب السماء،
بلا لغةٍ
فتكون خلاسيةً مثل أسرار قلبي،
ومكشوفةً كحديثي عن الحبِّ بين الصبايا،
اللواتي أدرّبهنّ على المشي خلف قطيع الشياهْ.
سأمضي،
وما كنتُ يومًا أجيد السباحة من دون أمّي،
ولكنني سأجرّبُ، كيف يكون الجواد رفيقًا، وظلًّا صديقًا،
وإن راحَ يعدو كما الريح خلف الطرائد،
دون اتجاهْ.
يقول جوادي: لماذا تركت البنادق في مهجع البيت نائمةً،
فأقول له: سوف نمضي إلى بلدٍ سرّح الجُنْدَ والبندقيةَ،
حتى بنى جنّةً من رحيق الموسيقا،
وزيّنها ببياض الحمام!
يصيح الجواد: أتتركني دونما عملٍ أيها الوغدُ،
ماذا سأروي لأحفادي القادمين؟
فيا خجلي! هل أحدِّثهم أنني سرتُ في البرِّ والبحرِ،
لا بندقيةَ للصيد، أو للدفاع عن النفس والمعصية؟
إلى كوستاريكا، حملت جراحي وتعويذتي،
وتركتُ جوادي على أرض جيرانكم في الشمال القصيّ،
أتيتُ
وفي الكفِّ عشرون نصًّا من الشعر،
دوّنتها بالإشارةِ،
خارج قيد القواميس والمرجعيات،
ها أنذا فاقرؤوني بأعينكم
مثلما تبصرون حديث «الفراشات» في زرقة الضوء
أو ترسلون إلى جسدٍ لاهبٍ في الحديقة، أغصانَ أشعاركم
والهدايا القليلةَ من فتنة الصمت
والاشتهاء!
أنا.. لم أقل للقصيدة، كوني كما يشتهي نبضُ قلبي
ولكنني قلتُ صيري: كما تتفتح وردةُ أنثى
على النافذة.
وطيري كما يتلامعُ ريش العصافير عند الظهيرة
في نهر « تاركوز»،(1)
رِفّي كهمس العشيق على وجه «آنا أسترو»(2) وهي تنشد أشعارها
في هوى «سان خوزيه»(3)، أرضِ المخيّلةِ البكرِ،
أرضِ الندى والسلام.
وسيلي غناءً بحاناتها،
بين لحن الكمنجات
والفاتناتِ، وبرق السّهام!
أنا
لم أقل للقصيدة كوني إناءً من الحزنِ، لكنني
قد ربطتُ الجواد غريبًا على البحر،
ثم أفضتُ إلى النهر،
أبحثُ عن حُلُمٍ خبّأتْهُ القناديل، لي،
من ربيع العنبْ.
وعن فرحٍ أشعلته الميادين
في رقص «بونتو جوانتكسكو»،(4)
حيث لا شيء في الكون إلا هديل الطبول
وحُمّى الطربْ.
سأبحثُ عن زهرة «البُنّ»، تلك التي عطّرت قريتي في الصباحات
فتنةُ فنجانها،
وابتساماتُها في المساء.
وتلك التي يتعشّقها الناسُ في وطني،
مثلما تعشقون النبيذ وأحلى النساء.
أحبُّ المدينة نافرةً كالجيادِ
وخضراء كالفرح العائلي.
أحب الشواطئ فاتحةً صدرها للغريب،
ومترعةً بابتسام الطفولة
والجسدِ الناحلِ.
ولي شغفٌ فادحٌ كالغواية
أن أتملّى الطيور البهيّة في «كوركوفادو»(5).
لأبني هنالك عشًّا لقلبي،
ونهرًا لروحي،
وأغنيةً في رثاء جوادي.
على زمن الشعر أن يتبدّى كما قمر
دامع في الغروبِ، يئنُّ على الساحلِ.
وداعًا جوادي
فبعد غدٍ، سوف أحملُ ما يتبقى من الوشمِ
في صفحات كتابي
وما سالَ من قُبـَلِ الورد والشعر فوق عروقِ قميصي
وأمضي
بدون سلاحٍ
وحيدًا
وحيدًا
إلى ما سيُشبِهُ وعدَ الفراديسِ للأرضِ
في الزمنِ المقبلِ!
(*) هذه القصيدة كنتُ هيأتها كتحية احتفائية لمدينة «سان خوزيه» في مهرجان الشعر العالمي بكوستاريكا عام 2016م، الذي كنت مدعوًّا له.
(1) نهر يجري في الوادي الأوسط الذي تنام على جوانبه مدن كوستاريكا.
(2) شاعرة ومسرحية وممثلة شهيرة في كوستاريكا.
(3) العاصمة.
(4) أشهر رقصاتهم الشعبية.
(5) محمية كبيرة للطيور في سان خوزيه فيها أكثر من 350 نوعًا من الطيور.
المنشورات ذات الصلة
برايتون
... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر...
في طريق السفر تخاطبك النجوم
مغامرة صغيرًا كنتُ، صغيرًا جدًّا رميتُ صنارتي إلى البحر اجتمعت الأسماك معًا، رأيتُ البحر! * * * صنعتُ طائرة ورقية بسلك...
بين صحوي وسُكْرها
رغمًا ترددتُ.. لم أسكَرْ ولم أَصْحُ! في كأسكِ البرءُ أم في كأسكِ الجرحُ؟ قصّت جناحي بأفْق الحبّ أسئلةٌ ...
0 تعليق