كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
«جدار أزرق» لجمال القصاص.. تمجيد الجمالي وتخييل المعرفي
بدت التجربة الشعرية للشاعر المصري جمال القصاص منفتحة على أسئلة مختلفة، تخص الشعر والحياة معًا، تسد الفراغ المصطنع للحد الفاصل بينهما، فتحمل معها وعيها الجمالي ابن التجربة الحياتية المحضة، والمجاز الآسر، وتتمركز في بنية الشعر العربي بوصفها تعبيرًا عن نفس مختلفة، وصوت بدا طليعيًّا منذ ديوانه الأول «خصام الوردة» (1984م)، فخلق بصمته الأسلوبية الخاصة منذ البداية، وصيغه الرائقة، وحسه الجمالي الذي لا يعرف صخبًا زائفًا، وإن حوى توترات داخلية مكتومة تحيل النص إلى حال من السؤال المتجدد والمفتوح على قسوة الحياة وألمها وأشواقها المكسوة بالأسى والانكسار.
يكتب القصاص نصًّا ممتدًّا، يستقي عوالمه من الحياة ذاتها، ويجعل مادته الخام من حكايات ناسه وشخوصه، وذواته المختلفين، التي ترتبط دومًا بجدل خلاق مع الذات الشاعرة، فتصبح أنسها وألفتها، وإخفاقاتها وعذاباتها اليومية أيضًا، ومجلاها العصي على الموت/ العصي على النسيان. وفي ديوانه «جدار أزرق»، الصادر في القاهرة حديثًا عن (منشورات بتانة)، يحمل جمال القصاص قصيدته فوق ظهره ويمضي، لا يلوي على شيء، ولا يعبأ بشيء سوى الجمال والحرية: «معذرة أيها الحارس/ لا تسألني من أين يولد النهر/ لست سبورة الغيم/ لست الشمس/ بالكاد أحمل قصيدتي فوق ظهري وأمضي».
يحيل عنوان الديوان «جدار أزرق» إلى عالم الحوائط الشخصية في الفيس بوك، ويبدو الدالان المكونان لبنية العنوان موسعين للمعنى، فاتحين لأفق الدلالة، ليصبح جدار الشاعر هنا نابضًا بالحياة، وليس حائطًا أصم، فتتسق حيويته مع زرقته الدالة على الصفاء والحساسية الشديدة، حيث ينتمي اللون الأزرق إلى مجموعة الألوان الباردة، كما تبدو إحالاته الشعورية نافذة بعمق صوب الروح. يتشكل ديوان «جدار أزرق» من اثني عشر نصًّا شعريًّا، تتبع إستراتيجية في البناء الشعري، إذ تبدأ القصيدة بمقطع يجمل القول الشعري، ينتهي نهاية مفتوحة صوب تنويعات شعرية جديدة، ولا يأخذ هذا المقطع المركزي المجمل ترقيمًا، ثم يتلوه مجموعة من المقاطع الشعرية المتنوعة التي تُفَصّل القول الشعري، وتنفتح معها الرؤية الشعرية على أفق دلالي وجمالي وسيع. وتأخذ هذه المقاطع ترقيمًا عدديًّا (1، 2، 3،…) وقد تحوي القصيدة الواحدة 21 مقطعًا مرقمًا كما في النص الأول «لست مطمئنًّا لشيء»، أو أحد عشر مقطعًا كما في «أن تعبر النهر وحدك»، أو اثني عشر مقطعًا كما في «في حضن نيزك صغير». وهكذا. يعد المقطع المركزي بمثابة افتتاحية للنص الشعري، ويوظف الشاعر فضاء الصفحة الورقية توظيفًا معبرًا، حيث يأخذ المقطع الافتتاحي شكلًا بارزًا في الخط المكتوب، تتلوه المقاطع المرقمة التي تأخذ شكل الخط المعتاد في الكتابة الورقية. ويتكئ الديوان على هذا الجدل الخلاق بين المجمل والمفصل، المتن والتنويعات، وتتسع الرؤية الشعرية بتعدد المقاطع وتنوعها الخلاق، فكل مقطع يمنح الرؤية الشعرية بعدًا جديدًا، وبما يشكل جدارية القصيدة / جدارية النص.
عالم مدهش
في «لست مطمئنًّا لشيء» ليس ثمة سمات خارقة يسبغها الشاعر على الذات الشاعرة، ومن ثم يتخلص من حمولات المجانية، غير أنه يقدم عالمًا مدهشًا تختلط فيه الأسطورة بالواقع، بدءًا من الاستهلال الشعري: «لا أعرف نساء دلفي، ولا حاملات القرابين في وادي الملوك، لم تسقط واحدة منهن في حجري، الماء لم يكن طازجًا وهن يعزفن للشيطان حتى يصب النبيذ دفعة واحدة، وينام خلف الأريكة». ثم تبدو الذات الشاعرة الممسوسة بعقدة الفيضان، مسكونة في الأساس بروح مصرية خالصة، توظف المجاز جيدًا وبلا افتعال: «لن أنتظر أن تهذب هذه الساعة شاربها الأخرق/ أو تبول على نفسها». كما يصنع الشاعر صورًا بصرية متواترة، تعتمد في جانب منها على حكمة مكتنزة، وهي ليست الحكمة بمعناها الكلاسيكي، بل هناك نسق تتجادل فيه الخبرتان الجمالية والمعرفية فتنتجان القصيدة التي تصبح استجابة جمالية ومعرفية لذات تقاوم القبح بالجمال، والكراهية بالمحبة، وترى في الجسد درجًا للروح، وفي الروح خلاصًا وارتقاء. إنها ذات شعرية يمكن تلمس ملامحها السيكولوجية، حيث تنشد عالمًا بلا حروب، بلا ادعاءات، أما معجمها الشعري فتتواتر فيه مفردات دالة وكاشفة عن روح تحتفي بما هو إنساني وحر ونبيل، هنا يجد المتلقي دوالَّ مثل: «الأطفال/ الحرب/ المدرسة/ الحليب/ الأم». ويتوزع حضور الإشارة إلى اسم الشاعر ذاته في الديوان عبر أكثر من نص، وبصيغ متعددة، فتارة يأتي «جمال القصاص»، وتارة أخرى يأتي «ابن القصاص» تبعًا للمسار الشعري للقصيدة.
وعبر جدل الخبرتين المعرفية والجمالية تتحقق عناصر الإدهاش في قصيدة جمال القصاص، التي تنحو صوب كسر أفق التوقع لدى قارئها، من قبيل «معنى أن تعبر النهر وحدك/ أن تقيسه بمساحات المطر/…». تحمل القصيدة الثانية «أن تعبر النهر وحدك» عنوانًا أتى ذكره في القصيدة الأولى ضمن متنها الشعري، لكنه هنا يحمل ظلًّا تأويليًّا آخر، ولذا فإنني أشير إلى أن الجدل بين نصوص الديوان قائم دومًا في ديوان مبني بعناية، لنصبح أمام خليط من الدقة والفوضى الجمالية، البناء والهدم، حيث ثمة عالم تتجاور فيه جماليات متنوعة، تقف على عتبات عالم ما بعد الحداثة الشعري بامتياز، فتصبح جماليات التجاور والتنوع هوية شعرية لنص القصاص. في «أن تعبر النهر وحدك»، ثمة أنسنة لمعنى القصيدة، بلا معاظلات وأسئلة مجانية عن الشعر وجدواه، فالشاعر هنا يبعد ببون شاسع عن خطى الدجال، وتتواتر الصور الشعرية بتنويعاتها البيانية والبصرية والمركبة، حيث يتعاطى الشاعر هنا مع مفهوم الصورة الشعرية بوصفها مجلى للعالم، كونًا قابلًا للتأويل، وليس محض أدوات تقنية وبلاغية تتأسس عليها القصيدة.
يبني جمال القصاص نصه على مجموعة من التقنيات اللافتة من بينها آلية البناء على المفردة، حيث يخلق صورة مركبة من عناصر مختلفة اعتمادًا على دالّ بعينه، وبما يفضي إلى اتساع المعنى، وانفتاح مدارات التأويل لنص متجدد باستمرار. للنحت اللغوي حضور بارز في نص القصاص، وبما يتسق مع معجمه الشعري شديد الخصوصية، الذي تتجاور فيه لغتان إحداهما لغة كلاسية سامقة، ابنة المجاز المحلق، والأخرى لغة تداولية تستمد جماليتها من السياق الشعري الذي توضع فيه، فتكتسب معنى جديدًا، ويصبح هذا العادي أداة للتخييل الشعري: «الساعة الحائطية مهذبة على غير العادة/ عقرباها أحس أنهما يطبطبان على كتفي/ يعتذران عن خطأ ما». تهيمن بنية السؤال على نص «الفتاة الهزيلة المنمقة»، ويبتعد النص من التقرير والتنبؤ، فكل شيء محض سؤال، والتغير سمة حياتية تصيب كل شيء، حتى العلاقات الإنسانية، ويحضر الإيروتيكي هنا أيضًا ويصبح أداة لرؤية العالم، يكتبه الشاعر عبر تفعيل قدر عارم من المجاز، فيحيل الأشياء إلى مرموزات أبعد وإن لم تفقد وهج التعبير الجمالي عن الجسد، والمرأة، والعالم. ثمة حضور في ديوان «جدار أزرق» على مستوى البنية الشعرية لمقلوب الشكل الذي قدمه الشاعر في ديوانه «السحابة التي في المرآة»، كما نجد أيضًا إحالة إلى ديوانه «نساء الشرفات»، حيث نسوة الشاعر اللاتي يطلعن من الشرفات يعضضن أظافرهن!
تجاور نيتشه وسقراط وهيراقليطس
يتجاور في «جدار أزرق» نيتشه وسقراط وهيراقليطس، فينفتح النص على المعرفي بلا افتعال، وبلا إحالات مجانية، ففي «أجرب عبودية أخرى» يحضر نيتشه بوصفه علامة على نسبية العالم، ومن ثم يمثل استدعاؤه في النص ضربًا للأبنية الجاهزة التي ثار عليها الشاعر في نصه: «الحياة فكرة لا متناهية الصغر/ لا متناهية الكبر/ في شقوقها أكتشف عورة المطلق/ أجعل نيتشه يمشي حافيًا فوق شوارب المنهج/ هذا لا يمنع أنه فيلسوفي الأمهر/ باسمه يمكنني أن أمنح هايدغر بداهة السقوط». وتتسرب الإحالات المعرفية هنا على نحو دالّ وغير متعاظل، فتشير إلى الفكرة الجوهرية لدى صاحبها. ويستخدم الشاعر جملًا شعرية دالة للتعبير عما يريده ولفتح أفق الدلالة (عورة المطلق/ حافة السقوط)، فليس مطلوبًا منه مثلًا أن يحكي قصة هايدغر، أو معنى الوجود الأصيل والوجود الزائف لديه… لكن يجعل المعرفي في متن الجمالي. في «عاريات فوق الرصيف» ثمة نزوع إيروتيكي يتكئ على المجاز، كما تحيل التناصات هنا إلى طرق مختلفة في التعبير الجمالي عن المرأة والعلاقة معها، حيث نجد حضورًا للمتنبي وأبي نواس وأدونيس وصلاح عبدالصبور والذات الشاعرة أيضًا، فتتعدد زوايا النظر في نص يغاير بنيته أحادية الصوت، منطلقًا صوب بنية بوليفونية تتعدد فيها الأصوات، وتتقاطع، مشكلة بنية شعرية متجانسة. يوظف الشاعر تقنية كسر الإيهام في «بؤس رجل يملك أربعة أقنعة»، حيث الإيحاء بواقعية النص الشعري، وإزالة الحائط الوهمي بين النص ومتلقيه. في «توا خرجت من المصح» نجد جدلًا بين مساحات زمانية مختلفة، يتقاطع فيها الماضي بالحاضر، ونرى روحًا شفيفة وأسيانة، تناهض القبح بمجداف عتيد، ويوظف الشاعر هنا تقنية الاستباق في استهلاله الشعري الدال: «سأفصّل كفني بيدي، سأجعله دافئًا ووثيرًا كأغنيات الحصاد».
تهيمن بنية درامية على قصيدة «ما لون هذه الشجرة»، حيث ثمة نزوع حكائي، ومحاولة فنية لتخليق صور كلية الطابع، تضع قدمًا في الواقع، وأخرى في المجاز، ويعد الحلم هنا إحدى التقنيات المركزية التي يعتمدها في نصه، وعلى الرغم من تواتر الصور هنا فإنها لا تنحو صوب التجريد، بل تتنسم دومًا عبق الحياة وعنفوانها. تتسرب إشارات سياسية على نحو أكثر بروزًا بدءًا من نص «أبعد من خطى الدجال» حيث يقف الشاعر الحقيقي موقف الشاعر، ويقف غيره مع الدجال، كما يتجادل السياسي والفني في قصيدة «الدبابة في الميدان»، ونصبح أمام بنية شعرية منفتحة على واقعها، تعرف التنوع والأداءات اللغوية المتعددة، وتكسر الإيقاع اللغوي الثابت «الثورة كانت هنا يا أولاد …». في النص الأخير «حزمة أنفاس كتبتها الريح»، تكتسي العزلة بطابع روحي، وتبدو خلاصًا من كل شيء، ليختتم الشاعر قصيدته/ ديوانه بمقطع طويل مثلما بدأ، في تفعيل للبناء الدائري، ولإستراتيجية بناء شعري تخص صاحبها.
وبعد.. عن قسوة الحياة ومأساويتها، عن تعقدها اللانهائي، عن خيباتنا وهزائمنا، ومسراتنا القليلة، وبهجاتنا الخاطفة، عن عالم يقف في قلب الكراهية، تقاوم قبحه ووجوده الزائف، متكئة على روافد جمالية متعددة وتصورات فكرية تتجدد بتجدد الشعر واتساع العالم، يأتي جدار أزرق للشاعر جمال القصاص خطوة إضافية وضافية في مسار صاحبها ومسار الشعرية العربية الراهنة.
المنشورات ذات الصلة
«جوامع الكمد» للشاعر عيد الحجيلي… عوالم شعرية بسيطة
يثير ديوان «جوامع الكمد» (الدار العربية ناشرون) للشاعر السعودي عيد الحجيلي مجموعة من الأسئلة القصيرة المتعلقة بالذات...
«حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس التخييل المرجعي للذاكرة
تأخذ رواية «حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس -منشورات المتوسط- أذهاننا إلى زمن الحرب، إنها إحالة إلى الزمن، ولم...
السيد الجزايرلي في ديوانه الجديد بصير يتلمس عبر التصوف حنينه إلى الوطن
العلاقة بين التنبؤ والشعر قديمة ووطيدة منذ قصة وادي عبقر، والقول بأن لكل شاعر عفريتًا من الجن يلهمه أشعاره، مرورًا...
0 تعليق