كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الغربة وتناسل الحكايات (2)
وكل غريب للغريب نسيب. قال أبو حيّان التوحيدي، الذي كان غريبًا بين الغرباء.
عرف الصبي اللاجئ أنه مختلف، حين طلب المعلّم من التلاميذ الغرباء أن يرفعوا أصابعهم، وأدرك حقيقة الغرباء، وهو ينصت إلى حكاياتهم المسائية في غرف مستأجرة، ويعيش أقدارهم المتحوّلة إلى حكايات. سأذكر لاحقًا تناسل الحكايات التي تأتي بها الحياة المتغيّرة، وتعمل «النظريات الأدبية» على معالجتها بصيغ ثابتة.
كنا في تلك البلدة المعلّقة في الفضاء غرباء، لم يتوقعوا ما وصلوا إليه، وأنسباء جاؤوا من قرى الجليل المتجاورة، الغريبة الأسماء حينًا: الجاعونة، فرْعِم، المغار، الجِشّ، والأليفة الأسماء حينًا آخر: عين الزيتون، التي اسمها يدل على ما فيها، والصفصاف بنساء جميلات تقصدهن القرى المجاورة، ولوبيه التي اعتقد أهلها أن كثرة سكانها تجعلها مدينة. وكثيرًا ما تصوّرت هؤلاء الغرباء بشرًا حُشروا في موقع ضيق مرتفع، يدفعهم خارجه، يسقطون أو يتعلقون بالهواء.
كان النهار المدرسي يأتينا بألقاب غير مستحبة وبحكايات صادمة، في انتظار أمسيات الغرباء، التي يحتشدون فيها كبارًا وصغارًا، وينشرون حكايات عن ماضٍ قريب، مدركين، أن في استذكار الماضي استراحة للغريب. كنت أنصت إلى ما يقال تاركًا تأويل الحكايات لأزمنة قادمة. كانوا في أمسياتهم، التي تقصّر المسافة بين الأعمار والقرى، يتسامرون ويتصايحون ويتشاكسون ويتآيسون ويتضاحكون، إلى أن ينطق واحد منهم، لا تنقصه «الفخامة الكاذبة»: سترى. لا يلبث أن يعطفها على كلمات عن الحرب والعرب والعودة، وعن عدالة تستقدمها المآثر العربية. كنت أغفو وأتوزع على غموض خانق وأستدفئ، بالغرباء المتكوّمين في الغرفة وبصراخ أطفالهم. كانت أمي، في ساعات الفراغ، تسخر من الرجل وفخامته الفارغة، وتستعمل «سترى» بأشكال مختلفة. وكانت هناك عجوز مجللة بالسواد، تستخف بالرجل وكلمته وتقول صارخة: رأينا الرحيل والبيوت المشتعلة وعساكر اليهود وشبابًا يموتون، ولن نرى أسوأ مما رأيناه، ولا حاجة بنا إلى «ستراكم» الكريمة.
مواجهة الغربة بحكايات عن الوطن
كان المجتمعون مساءً يواجهون غربتهم بحكايات عن الوطن ويختمون قصصهم المتنوعة بصوت أقرب إلى الدعاء: «سقا الله»، حيث قطر السماء وحضور الله وأعين تقول ولا تقول، ونظرات يكسوها الابتسام إلى «أسعد» الشاب الضامر، الذي ينتسب إلى عائلة «سقا الله» الفلسطينية. كانوا يستنجدون، في غرفة ضاقت بهم، بما يتذكرونه، والذاكرة سجل الروح، ويتركون لأيامهم الحزينة القادمة حكايات لم تولد بعد.
الشاعر، الذي لم يكن شاعرًا، هو أول الحكايات الحزينة. كان يسبقه صوته ويأتي البيوت نهارًا، فارع الطول مكتحل العينين، حليق الذقن، خمسينيًّا لا يذكر ولدًا ولا زوجة، أنيق اللباس بكوفية وعقال و«قمباز» رمادي وحزام أسود عريض، وله صوت جهير. يفترش الأرض ويُخرج من جيب داخلي مجموعة أوراق، ومن جيب خارجي صغير قلم «كوبيا»، يمر عليه بلسانه ويدقق الكلمات، ويستهل قوله بغضب: «باعوا البلاد واشتروا كراسيَّهم»، ويضيف ما يضيف ويكرّر استهلاله، إلى أن يتعب ويطلب كأسًا من الماء، ويعيد الأوراق إلى جيبه ولا ينظر في وجه أحد. وما أن ينظر إلى الأعلى ويقول: «فلسطين بوابة السماء»، حتى يكون خارج البيت. كانت الغرف لا تتسع لغضبه الكسير. أقلع «أبو محمود»، هكذا كان يدعى، فجأة، عن زيارة الآخرين، وغاب وأصابهم الفضول، وعثروا عليه.
غرفة ضيقة، عارية من الأثاث، على جدارها صورة «عبدالقادر الحسيني»، افترشت أرضها أوراق وكتب، تتدلى من سقفها جثة هائلة، مال رأسها إلى اليمين، التف حول العنق حبل، وعينان مفتوحتان ولسان لم تفلح الكوفية في حجبه. شنق أبو محمود نفسَه، وترك وراءه غضبًا وقصيدة لن تكتمل. أنقذ الرجل ماضيه من بؤس حاضره، وأنقذ صوته من صراخ لن يفضي إلى مكان. كنا حين نمر أمام داره، بعد رحيله، نختنق بالأسئلة ونشعر أن للموت رائحة بيضاء. أراد الغاضب اليائس أن يرسم معاناتنا، وعانى وهو يرسمها، فحمل أوراقه ومعاناته وآثر الرحيل.
ما زلت أذكره، بعد عقود، واقفًا كشجرة، وأراه شجرة التهمها الحريق.
ورث الغرباء عن «الشاعر» حكايته وورّثوا غيرهم حكايات لا تنسى. كان هناك ذلك القصير الأكرش، الصغير العينين، المتضاحك إلى حدود السذاجة، الذي فاجأ معارفه بجمل ضاحكة: «عن قريب أرجع غنيًّا كما كنت، وعن قريب أعيش كما أريد أن أعيش»، إلى أن يصل إلى جملة عاقلة «الفقر مع الغربة لا يحتمل» و«الفقر مع الغربة غربة أخرى أشد وجعًا». كان يتكلّم عن ماشية عديدة، تركها في البلاد، أودعها عند بدوي من «عرب الهيب» المعروفين بالشهامة، كما يقول، وما عليه إلا أن يعثر على «دليل» يصحبه ويعود به، مقابل مكافأة. والتقى دليلَه المنتظر، وخرج ولم يعد. افتقده الناس أسابيع، وعثروا أخيرًا على جثة منتفخة تحت أشجار الصبّار، قرب «خطوط الهدنة»، كما كان يقال، جثة يصعب التعرّف عليها، لولا قامته القصيرة وكوفيته الفلسطينية. قال البعض: قتله اليهود، وقال آخرون: قتله الدليل واحتفظ بالماشية.
كانت مهنة «الدليل» ذائعة في تلك الأيام، تتيح لأهل القرى القريبة أن يتسللوا إلى بيوتهم وأن يعودوا منها بحوائج قليلة. بعضهم تصيبه رصاصة في الذهاب، فإن أخطأته أصابتة في الإياب، وأحيانًا كان البعض يرجع فرحًا بأشياء «سرقها» من بيته. كانت بين البلدة السورية و«الجليل الفلسطيني الأعلى» مسافة قصيرة، توهم الغرباء أنهم «جيران» لبيوتهم الماضية.
ميراث لا يخدع صاحبه
اقتنع الفلسطيني الذي تفسّخت جثته تحت أشجار الصبار، أن ما كانه في البلاد يمكن أن يعود إليه في الغربة، وأن «الميراث» لا يخدع صاحبه. ناسيًا أن الماشية لا تصنع وطنًا، وأن الحلم بحاجة إلى مستقر. ولم يكن من حق الغرباء الاستقرار. بكاه معارفه، وبكاه خاله «المختار»، الذي كان بحاجة إلى من يبكيه. وكان الفلسطينيون في ذاك الزمان، وما تلاه، يموتون إن اقتربوا من الوطن، ويموتون إن ابتعدوا عنه ويموتون أكثر إن هجسوا بعبدالقادر الحسيني المقاتل الذي درس الكيمياء في الجامعة الأميركية في القاهرة، واستشهد على حدود القدس، وأعطى صورة واسعة عن مثقف مختلف. وكان اللاجئون أحيانًا يقعون في الغفلة، ويظنون أن ذكرى الوطن تنوب عنه، حال «المختار» الطريف الذي أدمن التجوال مساءً في البلدة السورية.
على قارعة الذاكرة، وفي زاوية من زواياها الشاحبة، أذكر «المختار» يمشي في المساء متباطئًا، سُبْحتُه في يمينه، مسربلًا بالبياض، الكوفية البيضاء و«القمباز» أبيض، والحذاء أبيض، يسايره آخر، يساويه في القصر والبياض، وإن كان بلا سُبْحة. يسيران وحيديْن، أحدهما يحرك يديه ويرفع صوته، والآخر ساكن بلا صوت ولا حركة. كانا شقيقين عقيميْن، ولكل منهما زوجات ثلاث، ولا يختلطان بأحد. ما لا أنساه صوت المختار الراعد المزلزل الذي انفجر في صبي منا، حيّاه وأراد أن يصافحه وتراجع أمام صوت المختار المدويّ: «الناس مقامات يا غبي، لا أسلّم إلا على من هو جدير بالسلام، ولا يسلّم عليّ إلا من يعرف معنى «المخْترة». كان يظن أنه من «زعامات البلاد»، كما كان يقال، لا فرق إن كانت في الوطن أو خارجه ويصرخ عاليًا: «أنا المختار يا صبي، كيف سترجعون إلى البلاد إن لم تحترموا مخاتيركم…». كان سجين أوهامه وحبيس ذاكرة مغلقة، تهجس بالمراتب في منفى ساوى بين الفلسطينيين والانكسار. عرفت بعد سنين أن المختار، الذي أصيب بالشلل، كان من «الهيئة العربية العليا»، ذات الصلة الوثيقة بالحاج أمين الحسيني، الذي كان الأهل، قبل اللجوء، يحتفون به مرددين: «الحاج أمين الحسيني إياك تلين، لا تخلي ولا يهودي في فلسطين». وظلّوا يردّدون هتافهم حتى أصبح اليهود أسياد فلسطين.
كانت حكاياتنا تصل إلى معلّم المدرسة، الذي كان معلمًا ومديرًا ومفتشًا ومسؤولًا عن ضبط التلاميذ ونظافة المدرسة. قال لنا بعد أن شنق «الشاعر» نفسه بصوت حزين: إنها جائحة يا أبنائي، ولم نفهم شيئًا، وإن كنا قرّبنا المعنى تقريبًا ولذنا بالصمت. وبعد رحيل «الواهم القصير» قال من جديد: إنها نائبة يا أبنائي، ولم نفهم شيئًا أيضًا. حدّق فينا وقال بمحبة: عليكم أن تجتهدوا في الإملاء، فلغتنا مقدّسة، وفي حفظ التاريخ… وقال أشياء عن «جيش الإنقاذ» الذي سينقذ فلسطين ويهزم اليهود. كنا نحن الصغار نفرح بكلماته، ونرى فيها سرًّا وبشارة، ونهرع بها إلى أهلنا فرحين.
الحاضر لحظة ملتبسة
أمّا الأهل فكانوا يستمعون إلى كل شيء ويعودون إلى ماضيهم القريب، كما لو كان الماضي، كما سأعرف لاحقًا، زمنهم الحقيقي الوحيد. كان الماضي عندهم ما مضى وتقدّس ببعده، والحاضر لحظة ملتبسة لا يعوّل عليها، نصفها في الماضي ونصفها الآخر أضاع الطريق، والمستقبل هو الماضي المستعاد، كما يقول الرومانسيون، الذين آمنوا بأن «الحلم قوة»، وأن قوة الأحلام تستحضر المرغوب وتمدّه بالقوام. ولم يكن حلمنا الفلسطيني في تلك الأيام، إلا «سترى» الشهيرة، التي هي مزيج من الأمل والأسرار وعقيدة تؤمن «بأن الحق يعود إلى أصحابه».
سأعرف، في المستقبل الذي جاء كما أراد، أنّ المطلوب معرفة الماضي وعدم الإقامة فيه، فمن دونه يضطرب الطريق إلى المستقبل، والإقامة الطويلة فيه تزيد الطريق اضطرابًا وتلغي المستقبل. أدمن الفلسطينيون، بعد النكبة، الإقامة في الماضي وتوليد الحكايات، ولم يتكيّفوا مع ما وصلوا إليه، وشهدوا حكايات جديدة. وكان عليهم أن يصالحوا بين ما كان وما استجد، دون أن يصلوا إلى حكاية أخيرة.
وكثيرًا ما كان اللاجئون، في لقاءاتهم اليومية، يراهنون على العودة القادمة، بل يحددون السنة والشهر، ويعتبرون اللجوء رحلة عابرة أو اختبارًا ابتلى به الله المؤمنين. وعلى خلاف المتكئين على خيوط الأمل و«جيش الإنقاذ»، وله حكاياته العجيبة، كان المعلّم المقدسي القديم، الذي التحق بنا متأخرًا، يكتفي بالنظر، ويخرج عن صمته إن تصايح «المتراهنون» واقتربوا من الشجار.
كان يستعمل كلمة «الحمقى»، ويدخل بصوت بطيء إلى «أيام الثورة» (1936 – 1939م) ويتحدث عن العنف الإنجليزي الذي كان يحرق قرية، إن انطلقت منها رصاصة ويقضي بالسجن عشر سنوات على قروي معه «سكين» ويصرخ غاضبًا: «إذا كان الإنجليز مستعدين لحرق ما كان يهدد الحلم اليهودي، فكيف سنرجع إلى «البلاد» ونحن الآن في المنفى؟ وإذا كان عساكر اليهود قتلوا بدم بارد أهل «دير ياسين» فبماذا نعود وهل يرضى «جيش الإنقاذ» بعودتنا؟ كان فيه، كما تصورت، لاحقًا، شيء من معلّم غسان كنفاني في «رجال في الشمس»، الذي مات على المتراس.
كانت أحاديث اللاجئين تدور حول فردوس مفقود قريب من حال «آدم» الذي غلبه الشيطان وطُرد من الجنة وأنقذه العفو الإلهي من ضلال طويل.
تتحدث كتب الفلسفة عن الزمن في وحداته الثلاث: ماضٍ ومستقبل وحاضر ملتبس. استولد الفلسطينيون، بعد النكبة، ماضيًا يمحو ما عداه، يستهلك الحاضر ويعيّن ذاته أفقًا للزمن الآتي الذي هو ماضٍ مستعاد. ذلك أن الماضي في ذاكرة المغلوبين زمن أصيل مبارك، تخضع له جميع الأزمنة، ينصر ذاته بذاته، كما تقول الأساطير. كان اللاجئون يستعيدونه ويقولون: سقا الله، ويصطنعون الأمل هاتفين: «سترى»، التي لم تكشف عن حقيقتها حتى اليوم.
استهلكت حكايات الغرباء المتوالدة سنوات ثلاث: 1948 – 1951م.
المنشورات ذات الصلة
أم كلثوم ونجيب محفوظ نسيج متداخل وروابط متعددة
في أحد اللقاءات التلفزيونية الموجودة على «اليوتيوب» سأل الإعلامي المصري الراحل مفيد فوزي عميد الرواية العربية نجيب...
«لُغز» الأدب الفلمنكي هوغو كلاوس حين يحوم فوق الناس «كالطير الجارح»: أنزعُ منهم نتفًا.. لأصنع منها كتبًا
ربح الكاتب والشاعر البلجيكي «هوغو كلاوس» قلوب كثيرين بسحر شخصيته وموهبته الأدبية الطاغية، لكنه كان عازمًا أيضًا على...
القاهرة… مدينة من رموز وصداقات
ما يترسّب في ذاكرة الطفولة يعيش طويلًا، تمر به الكهولة ويظل سليمًا، ويبلغ الشيخوخة ولا يشيخ، وقد تتسع أبعاده ويأخذ شكل...
0 تعليق