كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
النقاد والرواية الخليجية.. انشطار البوصلة بين ماضٍ ومستقبل
في حوار صحافيّ مرّ عليه ما يناهز العام، لوَّح الناقد البحرينيّ فهد بن حسين بما يشبه البشارة بمستقبل واعد للرواية الخليجية، قال هذا الكلام في بداية الثمانينيات الميلادية عندما كانت الرواية الخليجية تخطو وراء نظيرتها العربية خطواتٍ بطيئةً وأحيانًا متعثرة. وأذكر أن آراء نقدية مشابهة كانت تتردَّد في أروقة الصحافة الثقافية يحدوها أمل أن تصل الرواية الخليجية إلى مرحلة من النضج، تستطيع أن تُراهِن بنفسها على حضورها العربيّ والخليجيّ، وكان ذلك يعني أن النقاد في ذلك الوقت لم يكونوا واثقين من قدرة الرواية الخليجية على اختراق شكها في إمكانياتها تجاه ما تضمره تحديات المستقبل؛ لذلك كانوا يتحاشون فكرة المراهنة عليها؛ لأن المراهنة على شيء ما يشترط إيمانًا ما بطاقته الكامنة فيه، وهذا الإيمان يكاد يكون مقامرة غير مضمونة النتائج عند الحديث عن الرواية الخليجية.
غير أن الناقد البحرينيّ فهد بن حسين حينما بشَّر بمستقبل واعد للرواية الخليجية لم يكن رأيه هذا ضمن آراء ذلك الوقت، إنما قاله في جريدة الرياض بتاريخ 29 مارس 2015م. لماذا قاله إذًا في هذا الزمن وليس قبل ذلك؟ هل تأخَّر كثيرًا في الإبانة عن تفاؤله بالرواية الخليجية في المستقبل؟ لقد كانت آراء جُلّ النقاد في الثمانينيات متفائلة تقريبًا بتطور ما للسرد الخليجيّ في المستقبل. بمعنى أننا الآن نتحدث عن لحظة زمنية هي في الواقع من ضمن المستقبل الواعد الذي بشَّر به أولئك النقاد، ويمكن القول: إن المستقبل الذي قصده النقاد آنذاك بدأ تقريبًا في التسعينيات، وإنه على قدر من البطء، لكنه انفجر في منتصف العشرية الأولى من الألفية الثالثة على نحو تقريبي، وكانت هذه الرؤية المستقبلية في ذلك الوقت محلّ هزة رأس مترددة. الناقد فهد بن حسين على الرغم من تفاؤله بأفق واعد للرواية الخليجية ساقَ ملحوظات نقدية ليست بسيطة على روايات اليوم التي يكتبها شباب من الجنسين بكثافة.
من هذه الملحوظات الاستسهال في كتابة الرواية، وهذا ما يفقد الرواية القيمة الجمالية التي هي من ركائز الشرط الإبداعيّ للعمل الروائيّ؛ إذ إن الكتابة الروائية التي تخلو من قيمة جمالية تفقد القارئ لحظة إمتاعية لن تكون الرواية من ضمن مقتنياته من دونها، وهي للناقد فهد بن حسين حقل جماليّ يتيح له قراءة العمل من منظور نقديّ متعدد الزوايا. هناك ملحوظة أخرى، حسب الناقد فهد بن حسين، وهي افتقاد الرواية الخليجية الشبابية على وجه الخصوص المرجعية الثقافية، موعزًا السبب إلى أن المنهل الرئيس للتجارب الشبابية هو (الشارع وحكايات الناس)، وهذا الانتهال كما يقول: ليس أصيلًا، ولا يمتلك مقومات عمل روائيّ يُفترَض أن يتَّسع مصراعاه لتجارب عميقة وأكثر تعقيدًا وأوسع نظرًا من مرويات شفهية سطحية في معظمها. فالحب على سبيل التمثيل لحظة إيروسية في النصوص الشبابية، وقلما يعبر في أثناء النص عن غير ذلك. لكن الحب -حسب رأيه- قيمة جمالية وفلسفية ومعرفية كذلك.
وإضافة إلى حب الشهرة المرَضيّ لدى فئة غير قليلة من الشباب، والكسل القرائيّ، يعتقد الناقد فهد بن حسين أن الرواية الخليجية الراهنة والشبابية خاصة، تفتقر إلى ثلاثة عناصر مُهمة لا بد منها عند التفكير في كتابة رواية تقع في أفق ما ارتُقب وقوعه في المستقبل، وهذه العناصر هي: (كاتب يملك وعيًا، وقدرة على التمرُّد المسؤول، وحرية). العنصر الأول لا يشكل ملمحًا واضحًا في الرواية الخليجية بشكل عام، وهذا رأيي أنا، فالوعي الذي يفترض أن يتوافر لدى كاتب يفكر بجدّ في ثقب الحاجز القائم بينه وبين الرهان على عمل يستحقّ، لا يتوقف عند إنشاء النص بالشكل الروائيّ السائد؛ ذلك الشكل الذي نلمسه في معظم منتجنا الروائيّ المعاصر، وهو الدفع بالفكرة إلى مهاد أولية من الحكي العادي، وتوزيع الشخصيات والمدى الزمنيّ الطويل نسبيًّا والمكان والزمان وبقية (الشغل) المألوف الذي يجعل من أي عمل بين غلافين على هذا المنوال روايةً شكليةً، تنطلق من فورها إلى الناشر، ثم إلى المطبعة، ثم إلى السوق؛ كلَّا، ليس هذا الوعي الإنشائيّ هو ما يفترض أن تراهن عليه رواية جديرة بالمستقبل، إنما هناك مستوى من الوعي هو أعلى وقطعًا أعمق من هذا الوعي التقليديّ، وأقصد الوعي القائم على مرتكزات جمالية وثقافية وفلسفية ومعرفية قبل الخوض في فكرة إنشاء النصّ. فالزمن المتدفّق في الأشياء التي نعيشها ونمارسها متخلِّق في أصله ليس من الإحساس بالوقت وتأثيره في الأشياء فحسب، إنما -أيضًا- من مفاهيم ومضامين جمالية وفلسفية ومعرفية صهرتها في كلّ واحد عالمية الواقع المعيش، وإن كان هذا الواقع يحفل بتفاصيل نائية عن حافة العالم، وعالمية اللحظة الإنسانية الراهنة، وما تنتجه هذه اللحظة من مفارقات وتناقضات على أكثر من مستوى.
والوقوف بإزاء هذا التدفق الزمنيّ العجيب، وهذه اللحظة المليئة بالتغيير المتسارع الصادم في أحايين كثيرة، يتطلب قدرًا ملائمًا من استيعاب اللحظة نفسها، وما تشترطه من أشياء لمساءلة الذات والآخر، والمكان، والزمان، والثقافة، والاعتقاد، إضافة إلى المسافة بين كل هذه المكونات في الذات الواحدة وعلاقتها، سلبًا أم إيجابًا، بالخارج وما يتَّصل به من حقائق ووقائع وأحداث ليس على أساس محاكمتها بالضرورة، إنما على أساس فهمها على ضوء معطيات متاحة أو ممكنة.
هذا بإيجاز شديد، ما يمكن أن نفهم على ضوئه رأي الناقد فهد بن حسين تجاه الرواية الخليجية، ولا شك أنه أوسع من الفهم الذي طرحته هنا، وحتى تأتي في المستقبل مَصَاديق متواترة لما بشَّر به هذا الناقد، وهو ما آمل أن يتحقق على أيدي روائيين شباب، يجب أن يكونوا أفضل وأكثر فهمًا واستيعابًا من كُتاب اليوم للفنّ الروائيّ، وعلاقته بقيم جمالية ومعرفية وفلسفية لا غنى للرواية عنها في أيّ زمن ومجتمع وثقافة، حتى يأتي هذا المستقبل سنبقى في لحظة توقُّع مَن يقبض في شكل صحيح وسويّ على لهب الإفاقة الأولى من هذا الراهن الروائيّ الإنشائي في معظمه.
إلى أن يحدث ذلك، ليس من المستبعد أن يبشر ناقد آخر، في زمن مقبل، بمستقبل واعد للرواية الخليجية على ضوء ما توافر لديه من نصوص سردية، يرى أنها محلّ اطمئنان للتبشير بذلك المستقبل. وقد تكون تلك النصوص من إصدارات حقبة زمنية مقاربة للزمن الذي نشر فيه توقعاته الإيجابية، ما يشير إلى احتمال استمرار الرواية الخليجية في الدوران حول نفسها في نفس الموضوعات والتقنيات التي ظهرت بها في الثمانينيات، يوم بشّر نقاد ذلك الزمن بمستقبل واعد لها، ثم في مرحلة التسعينيات وما أعقبها من عقود من دون تغيير كبير في الشكل والمضمون.
وفي كل الأحوال، لن يعدم المتابع اللصيق بالمشهد ملاحظة مهمة تكاد تكون هي سبب هذا التباطؤ الحاصل في الدينامية البنيوية للرواية الخليجية، وهي اتصاف الحراك النقدي –إن كان هناك حراك نقديّ فعليّ- بتباطؤ مقابل في المواكبة النشطة، ليس في هذا فحسب، إنما –أيضًا- في الكسل النقديّ من جهة ما نراه اليوم من نكوص واضح عن تدشين مشاريع نقدية كبرى تؤسس لمرحلة ثقافية ومعرفية تنخلع بمقتضاها من المقاربات النقدية البسيطة التي تتغذى عليها الملاحق الثقافية على نحو هو أقرب إلى الاستهلاك منه إلى الدراسات المعمقة التي تنطوي بالضرورة على مستقبل يفترض أن يكون مبشِّرًا بصحوة نقدية شاملة.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق