كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
المتحاربون في اليمن تخلوا عن كل حكمة!
يختزل الشاعر اليمنيّ الكبير عبدالعزيز المقالح، في شعره وكتاباته النقدية والفكرية والأدبية، كثيرًا من ذاكرة الأمة؛ لذلك فإن الحديث معه بقدر ما يسهم في تشكيل الوعي الجمعيّ، يسهم -أيضًا- في إنقاذ ذاكرة الأمة من الضياع، ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا: إنه اليوم يعد إحدى المحطات الإبداعية التي سيتوقف التاريخ أمامها كثيرًا؛ بسبب إثرائه المكتبة العربية بالعشرات من كتبه ومؤلفاته. ولن ينسى الباحثون والمهتمون بالأدب والفكر العربيّ التعويل على منجز هذا الشاعر والناقد والباحث الأكاديميّ؛ لما تميز به من تنوع في الفكر، وخصوبة في اللغة. في حوار «الفيصل» معه، يكشف عبدالعزيز المقالح، كما في أي كتابة جديدة له، عن قدرة في التجديد، ولياقة فكرية متفردة، في مقارباته للعديد من القضايا والموضوعات التي تخصّ اللحظة الراهنة في الشعر والأدب والفكر، والسياسة كذلك.
بما أننا في اليمن وسواها، نعيش أوضاعًا مأساوية حروبًا وصراعات؛ أتساءل هنا، هل سبق أن عاشت الأمة العربية مثل هذه المرحلة؟
- إذا كنت تقصد المرحلة الراهنة فلا؛ لأنها مرحلة غير مسبوقة في تاريخ العرب القديم والحديث، مرحلة وصل الأمر فيها إلى الحد الذي يقتل فيه الابن أباه والأخ أخاه في معارك عبثية، يضاف إلى ذلك انتشار الطوائف والمذاهب وخروج الأحقاد من قماقم التاريخ من دون إحساس بالفظاعة، أو شعور بالمسؤولية، أو حساب للعالم الذي حولنا شرقًا وغربًا، وفيه أعداء يتربصون بهذه الأمة، ويحملون في نفوسهم كثيرًا من الحقد لها ولتاريخها، وقد جاءت الفرصة المناسبة، وصار كل شيء مُهيَّأً لهم ولمصالحهم، ونحن من دون مبالغة نعيش في أوضاع لا تكاد تختلف عما كانت عليه في زمن ملوك الطوائف في الأندلس قبل الانهيار الأخير.
أعجبني تفسيرك حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «الإيمان يمان، والحكمة يمانية…»؛ فأين تكمن اليوم الحكمة اليمانية؟
– مَن يُتابع الأحداث الجارية اليوم في البلاد، ثم من كان ينظر قبل ذلك إلى الصراعات الدائرة بين القوى السياسية؛ يدرك أين سوف تصل الأمور بهذا البلد الموصوف بالإيمان والحكمة، الذي تخلَّى المتصارعون من أبنائه عن كل حكمة، ولم يحسبوا لهذا الوطن حاضره ومستقبله أيّ حساب، وهناك من يرى أن الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام كان يعني بالحكمة -أيضًا- الصناعة، فقد كان اليمنيون يجيدون الصناعات المحلية، وكانوا ماهرين في صناعة السيوف، ونسج البرود، والتفوق في المعمار، وهندسة الريّ، فاستحقوا لقب الحكمة.
بعد عام 1967م ظهر نوع من الأدب سمَّاه النقاد أدب ما بعد النكسة؛ أعلينا دائمًا أن نوثّق لانتكاساتنا أم ماذا؟
- كان علينا أن نتجاوزها لا أن نوثق لها فقط، ونبقى في مناخها المعتم نجترّ أحزاننا وانكساراتنا كأننا الشعب الوحيد في الأرض الذي أصابته الهزيمة بجروح دامية وما يفرض الوقوف عند هزيمة 1967م، إنها كانت بدايةً لهزائمَ وانتكاساتٍ أشدّ خطورة وأصعب استيعابًا، ولأن الأنظمة المعنيَّة لم تُحسن الردَّ والتعامل فقد استمرَّت الهزيمة تحفر في صدر الإنسان العربيّ، وتُهيّئه لِقَبول المزيد من الخذلان والانكسار.
هناك مقولة لـنيتشه: «إن الحرب فرصة للإنسان الأعلى لعرض البطولة والشرف والفضائل»؛ كيف ترى ذلك؟
- لقد اتهم المثقفون الأوربيون هذا الفيلسوف الألمانيَّ بأنه واحد من فلاسفة التحضير للحرب، وأنه لِمَا كان يروّجه من أفكار للحرب قد ساعد على ظهور الطاغية النازي أدولف هتلر الذي عمل على تدمير ألمانيا وأوربا وقتل 60 مليونًا من أبنائها في حربه الخاسرة، التي افتقدت كل معاني البطولة والشرف، ولم تحقق سوى الموت والدم والرعب؛ كلُّ مَن يدعو إلى الحرب لا علاقة له بالإنسان ولا بالإنسانية؛ لِمَا يترتب عليها من ضحايا، وتدمير الإمكانات، وجناية فادحة على الأبرياء والنساء وكبار السن الذين هم وقود الحروب.
يقولون: إن الأحداث الحالية قزمت دور المثقف إلى الدرجة التي غاب فيها صوته، وفي المقابل عَلَتْ أصوات الدبابات والصواريخ والمدفعية… أين صوت المثقف؟
– هذه واحدة من الحقائق التي لا تحتاج إلى برهان أو دليل لإثبات صحتها، وإذا كان المثقف العربيُّ قد عاش حالة من التجاهل في زمن السلم، فكيف له أن يأخذ بعضًا من حقه في التعبير والمشاركة في زمن الحرب؟ ويمكننا رؤية بعض الاستثناءات في هذا المجال، لكنها تبلغ من الفرادة والمحدودية حدًّا يجعلها غير قادرة على منافسة الصاروخ أو المدفع، أو تحقيق أدنى نجاح في إثناء القذائف عن الانطلاق إلى غير موضعها الصحيح.
ما الموضوعات التي تشغلك اليوم؛ فقد قرأنا في )مقيل) الثلاثاء الأسبوعيّ مقالة لأحد الكتاب العرب، تحدث فيها عن الموضوعات الرئيسة التي تشغل الشعراء الكبار؛ أنت بماذا تنشغل؟
- كثيرٌ هي الهموم التي تشغلني بوصفي إنسانًا ينتمي إلى هذا المكان من العالم الملتهب، والمليء بالمتناقضات، وما تفرزه من تطورات عملية، ومن حروب وصراعات مدمرة، أما بوصفي شاعرًا فإن أهم قضية شغلتني وستظل تشغلني هي موضوع الحرية، هذا الغائب في الواقع، والحاضر في الأحلام، الذي كان وجوده بالشكل الإيجابيّ لا الفوضويّ كفيلًا بأن يُخرج شعوبَ الأرض، ونحن في مقدمتها، من هذا النفق الذي كانت له بداية ولا تلوح له نهاية.
مِن المؤكَّد أن الشاعر يتأثر بما يحدث حوله؛ ماذا يمكن أن يفعل الشاعر تجاه ما يحدث؟
- أعتقد أن كل البشر مع استثناءات قليلة- يتأثرون بما يحدث لهم وحولهم، والشعراء أكثر حساسية تجاه ما يحدث وما تفرضه الحياة عليهم، وما يكتبونه من شعر يعكس ذلك التأثر ويعبّر عنه، حتى هؤلاء الشعراء الذين يصفهم النقاد بـ«الشكلانيين» الذين يكتبون –كما يقولون- شعرًا صافيًا خاليًا من مؤثرات الحياة وردود أفعالها، لا يخلو شعرهم من هذا التأثر، والمجال لا يتسع لإيراد أمثلة أو نماذج على ذلك.
هل استطاع الشاعر أن يكون متفائلًا؟
- التفاؤل والتشاؤم وجهان لعملة الحياة المعاصرة، أو بعبارة أخرى حالتان تتعايشان جنبًا إلى جنب في حياة الإنسان الواحد، وبخاصة إذا كان هذا الإنسان على درجة عالية من الإحساس بما يحدث في الواقع؛ وما يلفت الانتباه إليه أن هناك نوعًا من الناس يصل بهم التشاؤم إلى حد السذاجة، وآخرين يصل بهم التشاؤم إلى حد اليأس والقنوط.
والتفاؤل ليس قَدَر المثقف وحده، لكنه قدر كل إنسان يحلم بحياة راقية وجميلة، وقد كان الأنبياء والمصلحون عبر التاريخ أكثر البشر تفاؤلًا وإصرارًا على أن أجمل الأيام هي التي لم تأتِ بعد، ولولا هذا النوع من التفاؤل لَكانت الحياة أسوأَ مما هي عليه.
كنتَ في السابق رئيسًا لجامعة صنعاء، وتعمل اليوم في رئاسة مركز الدراسات والبحوث اليمنيّ، وترأس المجمع اللغويَّ الذي أسستَه في صنعاء؛ وَصَفَكَ جابر عصفور في إحدى كتاباته بأنك باني النهضة التعليمية في اليمن، وقال: إن دورك في اليمن يشبه إلى حد كبير دور طه حسين في مصر؛ في تصوُّرك وقد كنتَ قريبًا من مفاصل السياسة التعليمية؛ أين يكمن الخلل الذي خلَّف كل هذا الدمار؟
- أشكر صديقي وزميلي الدكتور جابر عصفور على هذا الوصف الذي أعتزُّ به وإن لم أكُنْ خليقًا به ولا في مستواه. والفارق كبير بين دوري المتواضع وبين دور طه حسين؛ بين مصر واليمن، أقولها صادقًا لا متواضعًا، وأتذكَّر أن الدكتور جابر كان دائمًا يقول لي في أثناء دراساتي العليا بالقاهرة: إن عليك يا عبدالعزيز دورًا كبيرًا في اليمن، وينبغي لك أن تستعدّ لذلك من الآن، وألَّا تتوقف عند تشجيع المبدعين، ومتابعة أعمالهم الإبداعية، وهو ما دفعني إلى الالتحاق بجامعة صنعاء، والعمل مع كثير من الزملاء الأصدقاء على توسيع النشاط في مجال التعليم العالي، ونشر الجامعات في كثير من المحافظات في شمال الوطن، قبل أن تتحقق الوَحْدة اليمنية، وتتسع مساحة الوطن، ومساحة الهموم التعليمية.
لديَّ ثقة مطلقة أنك تعلَّمت الحبَّ في طفولتك، لكن كيف استطعت الإمساك به كل هذه السنوات.. وقد رأينا كيف انسابت تجربتك الشعرية في دواوينك الأخيرة؛ كتاب الحب، وكتاب الأصدقاء، وكتاب المدن، وكتاب صنعاء، كأنك كنتَ توثّق سيرتك الذاتية شعرًا أَعْني جذور تجربتك؛ هل وُلدتْ من الحياة والمعاناة، أم من القراءة والكتب؟
– الحبُّ بمعناه الواسع لا يرتبط بمرحلة معينة من مراحل عمر الإنسان، وهو كل العمر للإنسان، ونحن منذ الطفولة نحب الله ونحب أمهاتنا وآباءنا وإخوتنا وأخواتنا، ونحب زملاءنا في المدرسة وفي الحيّ، ثم تتسع دائرة الحب لتشمل الأرض والناس والأشجار والموسيقا وأشكال المعرفة، ومن دون الحب تكون الحياة ضامرة يابسة لا معنى لها ولا تستحقّ أن تُعاش، وقد لا تختلف عن حياة الحيوان الذي يولد ويأكل ويشرب ويموت. الحب، وأكرر بمعناه الواسع، يمنحنا الرغبة في البقاء، ويمدنا بالقدرة على المواجهة والتحدِّي، ويمكننا من تجاوز الصعوبات والمنغصات، كما يُحرّرنا من الاكتئاب ومن وحشة الفراغ الداخليّ وخواء الوجدان.
دائمًا تتحدث عن مدينة حجة، هذه المدينة التي تشكِّل إحدى المحطات المهمة في حياتك المبكرة؛ ماذا تَعْني لك هذه المدينة؟
– حجة مدينة صغيرة على رأس جبل شاهق، وربما تحولت من قرية إلى مدينة في عهد الأتراك الذين بنوا فيها كثيرًا من القلاع والثكنات العسكرية، وكانت في عصر الإمامين يحيى وأحمد سجنًا للأحرار والخارجين على الحكم، وكان اسم حجة يثير الرعب في نفوس اليمنيين لِمَا تناقلته الأنباء عن مئات السجناء الذين حصدهم الموت، ولما شهدته من مذابح شهداء ثورة 1948م، وعندما دخلتُها كنتُ في الثانية عشرة من عمري، لا أعرف شيئًا عن هذا التاريخ الدامي، وكان ذلك في فصل الصيف وقد وجدتها خضراءَ وأهلها طيبين، وحين يصفو الجو تستطيع رؤية شاطئ البحر الأحمر بالعين المجردة، كان والدي من سجنائها السياسيين، وكان بعض هؤلاء السجناء يحرصون على أن يكون أبناؤهم بالقرب منهم؛ للإشراف على تعليمهم، وقد وجدت نفسي في المدرسة المتوسطة، وبعدها في المدرسة العلمية، فلم تكن في البلاد يومئذ مدارس ثانوية سوى مدرسة في صنعاء ومدرستين في تعز والحديدة. كان وجود الأحرار داخل السجن وتحت الإقامة الجبرية خارج السجن، وهم من الأدباء والعلماء والفقهاء فرصة للتزود من المعارف.
وكان بعضهم قد غامر بتدريسنا في المدرسة العلمية، وبفضلهم انفتحت أمامنا آفاق ما كان لنا أن ندركها أو نقترب منها، وكانت بعض الكتب الحديثة تتسلل إلى ذلك السجن المنيع وتجد طريقها إلينا، وكنا نحظى بالمناقشات التي تدار حول كتب جبران خليل جبران والرافعي وطه حسين.
لقد كانت حجة مدرسة أولى في حياتي تشكَّلت فيها جذور ثقافتي وساعدتني بما قرأته فيها من كتب عندما التحقت بالجامعة في مصر، وأدركت أنني كنت قد استوعبت كثيرًا من المقررات في النحو وتاريخ الأدب، وأبرز رجالاته في القديم والحديث.
أنت تحب صنعاء، وتعشقها إلى درجة أنك لا تحب أن تغادرها إلى أيّ مكان في العالم؛ كيف انبثقت صنعاء من مخيلتك؟
– علاقتي بصنعاء تعود إلى لحظة دخولي إياها ذات ظهيرة ساحرة مشمسة، كنت قادمًا إليها من الريف البعيد طفلًا صغيرًا في السادسة، وكانت بمآذنها وقصورها تنمو تحت ضوء النهار، وما تعكسه شرفات البيوت العالية ولمعان زجاج نوافذها من ألوان وإشعاعات انطبعت في ذهني الصغير، وظلت عالقة بنفسي حتى الآن.
وكما أدهشني معمار المدينة وتناسق الأحياء، فقد أدهشني ما كان يتمتع به أبناؤها والأطفال خاصة من أخلاقيات رفيعة، وما يظهرونه من وُدّ غير متكلّف للقادمين إليها من جنوبها وغربها. لقد كنت في كل يوم أقضي جزءًا من الوقت فوق سطح المنزل العالي الذي استأجرته العائلةُ؛ لكي أستمتع بمنظر المآذن والقصور، وأُطلُّ على الحقول والمساحات الخضراء التي تحيط بالمدينة، وفي الجهة الشمالية منها على وجه الخصوص.
لاحظ القارئ العربيّ أنك من أهم الشعراء العرب الكبار الذين تَتَبَّعوا تجارب الشباب في الجزيرة العربية والوطن العربيّ؛ كيف تنظر اليوم إلى كتاباتهم؟
– أستطيع القول: إن نسبة عالية ممن توسَّمت في بداياتهم الأولى إرهاصًا بمشاريع إبداعية متميزة قد استطاعوا بمواهبهم ودأبهم الوصول إلى ما كنت أتمنى، والقلة القليلة التي تخلَّفت من أولئك الشباب تتألف ممن شغلتهم الحياة ومشكلاتها المختلفة عن رعاية المواهب الوليدة. والحق أن الوطن هو المحظوظ بهذا العدد من المبدعين في مجال الشعر والرواية والقصة والدراسات النقدية، ولولا الظروف السياسية العرجاء، وما رافقها من اختلال في البنية الاجتماعية والثقافية؛ لَصارَ لهم شأن كبير، ليس على المستوى المحليّ فحسب، بل على المستوى العربيّ أيضًا.
حياة الشعراء والكتاب مليئة بالمغامرات والمخاطر، ومع مرور الوقت تشكل هذه المخاطر خبرة غير عادية، يستطيع الكاتب وحده نقلها إلينا، وهذه الخبرة يحتاجها الجيل الجديد؛ ما الخبرة التي تريد نقلها إلى الأجيال؟
– على الأجيال الجديدة أن تخاطر وتغامر وتكتسب تجربتها من خلال ما تتعلمه من الحياة، وما أقلهم أولئك الذين يستفيدون من تجارب الآخرين، وكما أن لكل جيل أخطاءه وحسناته وأسلوبه في خوض غمار الحياة، فإن عليه أن يشق طريقه غير مُلتفتٍ إلى ما قاله مَن سبقه، وإذا كان لي من خبرة أودُّ نقلها إلى الجيل الجديد من المبدعين، فهي أن يستغلوا كل دقيقة من حياتهم في التعرُّف إلى معنى الحياة، وفي توسيع معارفهم، وعدم الانشغال بالآخرين، وعدم الانزلاق إلى الخصومات والدخول في الخلافات، التي أصابت كثيرًا من الموهوبين في مقتل، وحولتهم إلى شكّائين ومنتقدين، فأصابهم العقم، وانصرفت عنهم مواهبهم، أو جفت ينابيعها.
أحقًّا استطاعت الرواية أن تزحزح الشعر عن موقعه الباذخ القديم؟ أحقًّا ما يقال: إن هذا الزمن هو زمن الرواية؟
– ليس في استطاعة جنس أدبيّ أن يزحزح جنسًا أدبيًّا آخرَ عن الساحة الأدبية أو يحلَّ محلَّه، صحيح أن الرواية أخذت في هذا المنعطف من الزمن قدرًا من اهتمام القارئ العربيّ إلا أنها لم تتمكن من منافسة الشعر أو إبعاده من محبيه الذين يتكاثرون ويتزايد تعدادهم عامًا بعد عام، ويلاحظ أن قُرَّاء الرواية من المثقفين والمهتمين بالسياسة، وعلى العكس من ذلك قُرَّاء الشعر الذين يشكلون جمهورًا واسعًا من المهتمين بالقضايا السياسية والفنية، ومن عشاق الكلمة الراقية، سواء أكان هذا الشعر عموديًّا أو تفعيلة أو نثرًا، ولا ننسى الإشارة إلى أن الرواية الحديثة أفادت من الشعر، وصار الشعر في بعضها جزءًا جوهريًّا، ليس في المفردات اللغوية، إنما في بنية الجملة وأسلوب التشكيل الروائيّ.
تحدَّث ماركيز كثيرًا عن رواية «بيت الجميلات النائمات»، وقال: إنها الرواية الوحيدة التي تمنَّيت لو كنتُ كتبتُها؛ هل هناك كِتاب تَمنيتَ أن تَكتبَه؟
– لم يحدث ذلك معي قط، لقد أحببت أعمالًا شعرية كثيرة، وأعجبتني نماذج أدبية راقية، لكن لم يخطر ببالي أن تكون لي، أو أن أكتب مثلها.
هل علينا أن نعيد النظر في مقولة: «الربيع العربيّ» على حد تعبير جورج طرابيشي؟
– نعم من حقنا أن نعيد النظر في كل المقولات السياسية التي أفرزتها الأحداث في المدة الأخيرة، ومنها مقولة: «الربيع العربيّ»؛ هذا الفصل الذي سبق وقته؛ لذلك لم يكن ربيعًا ولا شتاءً، فقد أجهض أحلام التغيير، وكشف عن عجز القوى السياسية، وعن تخلُّف عميق في الرؤى والممارسات، وسيظل العرب يحلمون بربيع لا يزحف نحو الصيف ولا نحو الشتاء، ربيع يزهر فيه ورد العدل والحرية والأمان.
يقول بورخيس: «المكتبة هي الجنة الأبدية»، وفي مكتبتك الشخصية أكثر من أربعين ألف عنوان؛ ألا ترى أن الكتاب الإلكترونيّ جاء لِيقضيَ على الكتاب الورقيّ؟
- كان بورخيس قد بدأ حياته مديرًا لإحدى دُور الكُتب في بلاده، ومن هناك فقد أدرك أهمية المكتبة، ودَورها في صياغة العقول البشرية من ناحية، وما تحقِّقه من متعة للقارئ، ومن شعور بالغبطة وهو يستحضر المؤلفين، ويدخل في حوارات معهم. ستكون الجنة بلا مكتبات ناقصة. أما عن الكتاب الإلكترونيّ وما يوحي به التوسع في التعامل معه من الاستغناء عن الكتاب الورقيّ فهو حديث مبالغ فيه، ولا يصحُّ أن ننسى أن الكتاب الإلكترونيّ لا يزال عالة على الكتاب الورقيّ، ومن دون هذا الأخير لن يكون له وجود يذكر. ولعل أفضل ما تُحقِّقه الكتب المخزونة في الفضاء الإلكترونيّ أنها تقوم بإسعاف القارئ المشتغل ببعض المراجع وأسماء الكتب والمؤلفين، أما أن تكون وسيلة للقراءة المعمَّقة والممتعة، فذلك ضرب من المستحيل، وستظل علاقة القارئ بالكتاب الورقيّ أقوى وأعمق مما كانت عليه في الماضي البعيد والقريب.
إلى أي مدى يمكن أن يؤثّر ظهور الإرهاب في الوطن العربيّ؛ مثل: داعش والقاعدة، على مستوى الشعر؟
- عندما أسمع أو أقرأ كلمة الإرهاب يتطرق إلى ذهني سؤال كبير لم يجب عليه أحد، وهو عن الأسباب التي أدَّت إلى ظهور هذه الحالة، وفي تقديري أنه لو أمعنا البحث في تلك الأسباب بوعي وموضوعية، لَمَا كان لهذه الظاهرة أن توجد أو تشغلنا إلى هذا الحدّ.
كيف ترى الأفق؟
- أبعد هذا تسألني عن كيف أرى الأفق اليوم؟! لا أدري أيّ أفق تقصد؛ السياسيّ، أم الاقتصاديّ، أم الثقافيّ، أم الاجتماعيّ؟ وكلُّها بلا آفاق، لقد نجح أعداء الأمة الواضحون منهم والمستترون في أن يَحرِفوا أبناء الأمة عن الأهداف والثوابت الرُّوحية والوطنية والقومية، ويحوّلوا معركتها الحقيقية إلى معركة عبثية مع الداخل، وتمكَّنوا من إهدار الطاقات المادية وتبديدها خارج مكانها المطلوب والصحيح، ومع ذلك يبقى الأمل في أن يستيقظ العقل العربيُّ ولو في اللحظات الأخيرة من غفوته الطويلة.
المنشورات ذات الصلة
جون ميشيل مولبوا: أكتب كثيرًا بالأذن بإنصاتي في الوقت نفسه لما تفكر فيه وتغنيه الكلمات
وُلد جان ميشيل مولبوا في مونبليار سنة 1952م، وبدأ النشر منذ سبعينيات القرن الماضي. وهو ناقد أدبي في مجلة la Quinzaine...
إيمري كيرتيس: بدأتُ العيش حقًّا منذ اليوم الذي عرفتُ فيه ما الذي أريدُ كتابَته
إيمري كيرتيس هو أول كاتب مجري يفوز بجائزة نوبل في الأدب عام 2002م، «لكتاباته التي تمجد تجربة الفرد الهشة إزاء الحكم...
جوليا كريستيفا: تودروف حذرني من رولان بارت لأنه لم يكن ماركسيًّا بما يكفي
أبصرت جوليا كريستيفا النور ببلغاريا في عام 1941م، وهاجرت في ريعان شبابها إلى باريس، وانفتحت على التيارات الفلسفية...
0 تعليق