كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
وصايا المغني الحضرمي.. الدائمة أبو بكر سالم صوت احتفال كوني
بإمكانك أن تمر بجوار التلفاز، بوسعك أن تنتقل بين قناتين، أن تدعو نديمك للاستماع إلى أغنية جميلة، شريطة ألا يكون شاغل الأثير أو الرجل الذي على الشاشة أفلج، أسود الشعر مرسله، أعسر يمسك عوده بالشمال حال جلوسه، واقفًا مهيبًا كأن أكثم بن صيفي احترف الغناء، يمكنك دائمًا أن تستمع إلى الموسيقا وحيدًا أو على طاولة العشاء، لكن ليس أبدًا حين يكون الصوت صوت موكب مهيب قادم من بعيد كصوت أبو بكر، ليس أبدًا حين يصدح رجل بسبعة أصوات وخمس هيئات ويد حين تلقي العود تدوزن الإيقاع وتقول للجمهور: هاكم هذا السطر كي تشاركوا في الاحتفال الكوني، غنوا وقوفًا، اجلسوا واقفين، كونوا منتصبين حتى أنتهي من وصايا الكمال. لا يلام على الانتساب إليه أحد، فقد كان وحيدًا تمامًا في القمة وإن ترك خلفه ستة من الأبناء، كان كأول حروف اسمه وأول حروف أسماء أبنائه الستة، كان الألف في أول النوتة، وكان أبًا للفرقة حتى حين يعطيها ظهره العريض، وبكرًا في ثلاثة لا ينازعه فيها أحد: شاعرًا قبل الطرب، ملحنًا داخل الأغنية، ومطربًا رغم أنف الوزن والقافية، بموته نُعي إلينا بحر الكامل في الأغنية العربية الحديثة.
ولد في مدينة حُكمها حُكم المسجد، فلا يدخلها منتعل؛ لذا أتم أول البقرة حتى يس، وأتبعها بالصافات حتى قال أعوذ برب الناس، ومن ثم تناول النحو حتى أتمه وعلمه لثلاث سنين، فاستقام لسانه استقامة من انتسب إلى بلفقيه، في الوادي تتبع أول السيل حتى قبله مع الصبية في حضرموت، ومن أسواق المكلا أزهرت ألوان فوط البساطة في عينيه، ومن دوعن تحلى بالعين وباللسان، ورأى في شبام ناطحات مانهاتن الصحراء، فكيف لا يغني حين شكك الناس في انتسابه لأهله مرددًا ومؤكدًا في نهاية كل جملة لحنية: وأنا، من الغنا مدينة حضرموت!
أصابه ما أصاب الناس من تقلب الأحوال في النصف الثاني من القرن العشرين، فهاجر – عادة أهله الحضارم – أول ما هاجر في سن الرابعة عشرة إلى نجران بحثًا عن لقمة العيش، شده حنين الواحة فما أتم الشهرين هناك، عاد إلى حضرموت، نمى علم غنائه لأهله فأصابه ما يصيب الحيي الخجول – وقد كان كذلك طوال حياته رحمه الله – فتلطف بمديح سيد الخلق أحمد، وذاك من محمود الفعال، حتى زاد الدف وضبط الإيقاع، ثم كان العود في عدن، ومن لم يغن في عدن فما رأى الدنيا يا ناس؛ لذا حين غادرها بكى وانتحب من غدر الزمان، تخيل الحضرمي الذي جرب أحوال الدنيا كل معقول، اللهم إلا أن يفارقك يا عدن.
ساقه لطف المقادير إلى لقيا المحضار، على قبريهما اليوم شآبيب الرحمة ولطف الرحمن، فوجد في رقة شعره رائحة الوادي ونسيم آخر الليل بين نخيل البلاد، لم يكن المحضار شاعرًا فحسب، بل كان جامعة الفنون الحضرمية لمن فاته الدرس، شاعرًا يصيبه الإيقاع قبل الكلمات، يدوزن بعلبة الكبريت والنقر على الكف حتى يسلم اللحن إلى فرقة اسمها أبو بكر، ولم يكن على أبو أصيل إلا أن يقحم صوته في الكلمات، فيقطعها ويجمعها ويلونها ويرسمها، تارة بسحيق القرار الذي لا يهتدي إليه سواه، وأخرى برفيع الجواب حتى يخال المستمع المدهوش أن كورالًا مضمر الحد قد صعد إلى مئذنة القرية، وحين يمسك المخرج بالكاميرا وأبو بكر على المسرح فقد انظلم الحاضرون ورب البيت، تأملوا حفلاته من عدن إلى مسقط، ومن أبها إلى أبوظبي، هذا رجل يسرق النور من جوف العيون، ليمنع المخرج من حالة سوى دهشة الوقوف متطلعًا إليه.
أحب الشعر حب العربي للضيف، ما من لقاء تلفزيوني إلا ويضيف إلى أذنيك بيتين من شوارد المعنى، لم يلحن يومًا، لا في فصيح ولا في عامي، ومن أنكر على أبو بكر شيئًا فلا يلومن إلا أذنيه. صعد صنعاء بعد الوحدة فمارس لعبة اليمنيين في حل الأحاجي داخل الأغنيات، وتلك من ألعاب القوم في سعيد أيام اليمن السالفة، قبل احتراب القوم وتحريم الفنون في سائر جزيرة العرب:
أحبة ربا صنعاء عجب كيف حالكم
وهل عندكم ما حل بالعاشق المضني
وهل تذكرونا مثلما ذكرنا لـكــم
وهل تسألوا من جاء إلى أرضكم عنا
لأنا وحق الله من شوقنا لكــم
نسائل نجوم الليل عنكم إذا جنـى
فلو تنظروا المملوك يرعى خيالكم
ويسجع من صوت الحمام كلما غنى».
ولم يكن المرحوم أجوف يغني لأجل المال، ولا طالب شهرة يتمايل ميل الفارغين، بل كان – كعادة الحضرمي أينما حل – صاحب معنى ورسالة، حكمته صافية المنبع، فيا سهران تختصر توكل الحضارم أينما كانوا، والبيع والشراء حاضران في طرف كل أغنية لمن أرخى السمع، فلا هو بالذي يشتري بالود من باعه، ولا هو بالباخس ثمن العنب إن باعه أهله، ولا هو مخطئ ميزر النبوت إن رام غزالة من ظباء اليمن، وهو كثير التحنان، كثير تصريف هذا المصدر لمن تتبع فنه، فحين غزاه الشيب نادى نداء يعقوب قارعًا سنه:
وا ويح نفسي
لا ذكرت أوطانها حنّت
حتّى ولو هي في مطرح الخير رغبانه
وعلى الموارد لا جت للشرب تتنغّص
قدها مقالة.. شرب النّغص يتعب الإنسان
وإن طال سكوت الحضارم، فما ضر قومًا صمتهم إن كان صوتهم للدنيا صوت ابن سالم، من شال أعراسهم، وخلد مخارج حروفهم، فأبعد عنهم تهمة البخل والحرص. لعمري لقد أطرب ابنكم كل حي فتيهوا على غيركم، وقد أجلس ابن محفوظ على الأرض حتى أمسك برأسه، وصير ابن عبده كورالًا في جلسات روتانا فما اسطاع إلا أن يقول: سبحان من خلق صوت هذا الشيبة العظيم. ولا يحزننّ أحدكم إن قرأ في تعريفه غير أمه والغنا، فالحضرمي ابن كل أرض ذكر فيها اسم الله، وهو الأمين على المال قبل اللحن، والوفي للصاحب، وصاحب الحكمة والمشورة، ولو لم تسر الركبان بشيء من كلامكم إلا بعض وصايا المرحوم في «تسلى يا قليبي» أو مقطع من مقاطع «يا سهران»، لكفاكم شاهدًا ووكيلًا:
يا سهران اهدأ ونعم قلبك لا تحمله هم
المكتوب واللي انقسم بيأتيك من حيث كان.
الصدق، التوكل، ألا أعود لمن باعني، وحقيقة أن الدنيا مخلاة، وكم من مال يمسي لمولى غير مولاه، وأخيرًا أن أمدح سيد الخلق في حضرة من يفهم، مولودًا في تريم أو مدفونًا في الرياض، فتلك رسالة الحضرمي أينما انطلق صوت أبو بكر وغنى سيدي المحضار.
المنشورات ذات الصلة
التشكيلية السعودية غادة الحسن: تجربتي بمجملها نسيج واحد... والعمل الفني كائن حي وله دوره في الحياة
تصف الفنانة التشكيلية السعودية غادة الحسن، المتلقي الواعي بأنه شريك للفنان بتذوق العمل الفني وتحليله وإضافة أبعاد أخرى...
تجربة التشكيلي حلمي التوني خريطة رؤيوية لمسارات محددة نحو بلوغ الحياة الحقيقية... وقنص جوهرها الصافي
على امتداد رحلته الثرية في حقول الفن المتنوعة، تمكّن التشكيلي المصري البارز حلمي التوني، الذي ترجّل عن دنيانا في...
المخرج الجزائري سعيد ولد خليفة: ما يثير اهتمامي دائمًا هو المصاير الفردية للأبطال اليوميين... وفي الجزائر المقاومة كانوا يُعدون بعشرات الآلاف
يملك المخرج الجزائري سعيد ولد خليفة تصوّرًا مختلفًا للسينما، تشكّل من خلال تقاطع حياته الشخصية المصقولة على نار الغربة...
0 تعليق