لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير والاستنارة، فئة موجودة في كل المجتمعات والثقافات، ومتجذرة في تاريخ الشعوب والحضارات منذ القدم، وهي مطلب قائم ودائم ومتجدد، وصناعة ضرورية لكل مجتمع ولكل...
المقالات الأخيرة
مكاوي سعيد.. كتابة الاغتراب في الرواية المصرية
عملت الكتابات السردية للمصري مكاوي سعيد (يوليو 1956 ــ ديسمبر 2017م) سواء في الرواية أو القصة على سرد حياة الذات في الفضاء المديني، وتمثيل إغراباتها وأحلامها وإخفاقاتها فيه، كذلك تجسد كتاباته السردية قلق الذات بالمكان ورحيلها وعدم استقرارها بين الأماكن، وكذلك اضطراب علاقة الذات بالآخر، بغيرها من الشخوص؛ إذ تنقل أعماله السردية حالة الاغتراب واللاانتماء التي تعيشها الذات في عالمها وتحسها إزاء الآخرين، مهما كانت لها من بعض علاقات صداقة أو ألفة بشخوص ما أو أماكن ما، تظل الذات تائهة في عالمها، تشعر بشتات مزمن فيه. الغالب على شخوص مكاوي سعيد الرئيسية وأصواته السردية المركزية أنها تنتمي إلى شريحة المثقفين من الطبقة الوسطى اجتماعيًّا الذين يمثلون وعي المجتمع النابض ومراياه في رصد التحولات التاريخية والتغيرات السوسيوثقافية، التي لحقت بالمجتمع وغيرت ملامحه حد أن نسخت شخصيته الجمعية.
يغلب على الذوات اللائي يقدمهن في سرده أنهن ذوات إشكالية يحملن وعيًا محبطًا، مثلما كانت حال بطله في روايته «تغريدة البجعة». تمثّل الشخصية الرئيسية في «تغريدة البجعة» – كما هو غالب في رواياته ومعظم قصصه- لجيل الإحلام المجهضة والأماني المحبطة، ذلك الجيل الذي صُدِم بعصر الانفتاح الساداتي ومعاهدة كامب ديفيد للسلام بين مصر وإسرائيل، الجيل الذي انعكس شعوره بالإحباط مكتويًا بنار واقع سياسي يرفضه وتراجع اقتصادي قومي على إحساسه الذاتي بفشل المشاريع الحياتية لأفراد هذا الجيل، ما أثقله بشعور استسلامي راضخ إزاء الإحساس بالهزيمة التي أثقلت كاهله. وفيما يتبدى أنّ ثمة نزعة غنائية تطغى على سرد مكاوي سعيد، حيث صوت مفرد يغني حالته الشعورية ويطرح مواجده ومكابداته في نزوع بوحي، كما يحضر ضمير المتكلم، الضمير السردي الأول، بشكل طاغٍ في سرده، لتُمسي حكاياته التي تبثّها أصوات سرده كشهادات تحمل سمات كتابة الاعتراف، كما يستحوز الفعل الماضي على النصيب الأكبر من زمن السرد لديه، رُبما لأنّ عملية السرد تريد أن تقف بساردها ومتلقيها على مسافة زمنية من زمن الحكاية التي يتم بثها عبر السرد، في تثبيت للحظة ما أو مجموعة لحظات ومشاهد أو لإصدار حكم ما على تجربةٍ انتهت الذات الساردة منها.
اللاانتماء
في تمثل الذات للعالم، الموضوع الحاضر في وعيها -في كتابات مكاوي سعيد السردية- نجدنا إزاء ذات تشعر باغتراب متفاقم ولا انتماء مُؤكَّد تجاه عالمها الذي تشعر بأنّه يلفظها حد العداء، كما في «تغريدة البجعة». تبدو الذات في تمثلها أحداث العالم واستيعاب أفعاله المحايدة مسكونة بشعور معاداة العالم لها، شعور اغترابي وإحساس ما بتآمر أشياء العالم ضدها وتربصها بها، لتستحيل الذات قنصًا أو هدفًا للعالم للإيقاع بها وسحقها. ويلازم إحساسَ الذات بمعاداة العالم ومحاصرته لها إحساسٌ آخر بافتقادها البيت. من علامات الاغتراب في سرده أنّه يساكن معظم الذوات شعورٌ بافتقاد البيت والإحساس بالبيتية، فلا ألفة تنشأ بين الذات والبيت الذي تسكنه، ما يعني افتقاد الذوات الشعور بالخصوصية والأمان اللذين يَسِمان البيت. ومن تبديات الشعور بالاغتراب الذي ينقله لنا سرده ضيق الذوات بالتكنولوجيا والتقدُّم التقني في هذا العالم وخصوصًا عند الغياب عن الوطن والرحيل عنه للعمل وكسب العيش. كأنّ الذات في إحساسها بأثر التقدّم التكنولوجي للمعيشة عليها تضيق بهذا التقدّم التقني؛ إذ تعمل التكنولوجيا وفقًا للتصوُّر الماركوزي على تسطيح الإنسان ومفاقمة اغترابه، مثلما طرح هربرت ماركوزه في «إنسان البعد الواحد» فكرة أنّ التطوُّر الآلي والتقني يعمل على إفقاد الإنسان الشعور بإنسانيته كما تعمل التكنولوجيا على إخماد شعور الإنسان بالتمايز والاختلافات والفوارق ما يضاعف من إحساس الإنسان بالاغتراب الوجودي.
يبدو موقف الذات من العالم وإدراكها لوجودها في هذا العالم وموقعها منه أمرًا مهمًّا في تبيُّن رؤية الذات الوجودية في إحساسها بالعالم وتمثُّلها له، وفي سرد مكاوي سعيد يبدو أنّ للذوات وضعًا خاصًّا في إدراكهن العالم. في سرده تنحو الصورة المشهدية -في الأغلب- إلى تصوير الذات الإنسانية في مواجهة الطبيعة والعالم على هيئة أعزل، وحيد يجابه عنف الطبيعة الذي هو رمز مادي لعنف الوجود وقسوته وعصفه بالذات، ولكنّ المفارقة تبدو -هنا- في تمثيل علاقة الذات بالموضوع، العالم، وتمثُّل التفاعل الحاصل بينهما، بتصوير الذات كمركز يتَّسم بثبات ما بينهما يبدو العالم، الموضوع، هو الذي يمارس حركة ما باتجاه هذه الذات، حيث يقترب الميدان الفسيح المغمور بالأضواء الكابية من الذات، فتقلب الصورة اتجاهية الحركة من الموضوع إلى الذات بعكس منطق الواقع فيما يعكس مركزية الذات في تصورها العالم وإحاطته بها. وتتبدى عناية كتابة مكاوي سعيد السردية في وصفها العالم والتقاط أشيائه الصغيرة ورصد حركاتها ولفتاتها الدقيقة. وتعمل الصياغة السردية في كتابته على تذويت العالم؛ إذ تعمل الذات في تَمثُّلها العالم موضوعًا لإدراكها على إسقاط تمثُّلاتها النفسية على أشياء العالم، فما الأغصان المتهاوية الموسومة بالعجز والخيبة إلا انعكاس وتمثيل للذات نفسها التي تشعر بالعجز والضعف في مواجهتها العالم، فتعكس ذلك على موضوعاتها المُدرَكة، وهو ما يؤكده توقع الذات حصول انهيار ما، فالشعور بعنف العالم يثقل بوطأته وعي الذات بهذا العالم وبأشيائه.
مأساة أطفال الشوارع
مع عناية كتابة مكاوي سعيد بالمهمشين والمارقين فإن «تغريدة البجعة» قد قدمت مأساة أطفال الشوارع في مدينة القاهرة، هذه الفئة التي تمثُّل شريحة مجتمعية وظاهرة بارزة بوصفها ملمحًا من ملامح التحولات الاجتماعية التي طالت المجتمع المصري في العقود الثلاثة الأخيرة. وتتبدى المأساة التي تجسدها «تغريدة البجعة» في فقدان الإنسان إنسانيته وسلبه إياها منذ طفولته وحداثة وعيه بالحياة، فقد أمسى الفرد مجرد رقم بين آخرين في تجلٍّ باد لاغتراب الذات الإنسانية. كذلك يعمل السرد على كشف الجيوب الخبيئة للمدينة وتمثيل عوالم المهمشين والمارقين والمتمردين والتمزُّق والتفسُّخ الاجتماعي الحاصل في بنية المجتمع. الحقيقة أنّ الراحل الذي كان يبدو منذ روايته الأولى «فئران السفينة»، معنيًّا في كتابته السردية بالتفاصيل الدقيقة التي تُشكِّل مشهد السرد. إذ يبدو السرد عند مكاوي سعيد الذي يسعى في حكاياته إلى المراوحة بين الأمكنة وبيان شخصيتها، سينمائيًّا في بث الحكاية بعناية السارد على مشهدة الأحداث ونثر التفاصيل الدقيقة والحركات الصغيرة؛ مما يجعل للسرد إيقاعًا مدققًا في رصد العالم وبث أحداثه. كما يكثر في السرد لديه حضور الأشخاص المجهلين والعابرين والفواعل الثانويين؛ مما يضفي على سرده سمتًا من الواقعية ويمنحه قدرًا من الثراء المشهدي.
كما يتسم السرد لديه -مع كلاسيكيته- بتشجُّر بنية الحكي وتعدد مسارات السرد لتعدد الحكايات التي تتفرع عن البناء السردي؛ ففي «تغريدة البجعة» ثمة أكثر من خط سردي وأكثر من حكاية يرويها السارد، كحكايته مع زينب، وحكايته مع «مارشا»، وحكاية «يوسف حلمي» مدير الإنتاج السينمائي، وحكاية «كريم» ورفاقه من أطفال الشوارع، وفي رواية «أن تحبك جيهان» تبرز تقنية الأصوات المتعددة بتأسيس الحكاية على رواة ثلاثة، ومع تعدد مسارات السرد نجد أن ثمة تقاطعات، تربط أوصال الحكاية، تتمثل في وعي ساردها الرئيسي وعلاقاته المتشعبة بأطرافها.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق