كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
خريف باريس
علينا ألا نستسلم لهذا الخراب الذي يحاصر العالم العربي؛ إرهاب ديني متعدد الأشكال، تدمير الشعوب والبلدان، انغلاق في العلاقة مع الآخر المختلف دينيًّا وحضاريًّا، تراجع الثقافة عن مكانتها، إنكار ما كنا وما سنكون. نعم، بكل صرامة علينا أن نغضب على أنفسنا المتهاوية، ونتوجه نحو ما نظن أنه الممكن للبقاء على قيد الحياة. بهذا أغالب اليأس الذي أكاد أعثر في كل المناحي على ما يبرره. شيء من الغضَب، ثم خطوة ثانية نحو العالم. أشاهد وأقرأ وأنصت.
ما الفرق بين العالم والمكتبة؟ سؤالٌ ليس هيّـنًا، وهو يغري بقليل من الصمت. في المكتبة تكمن أسرار لا تتكشّف لك إلا بعد أن تتعلم آدابها. وهي تمنحك اليوم، كما منحتك من قبل، ما يساعدك على الجلوس في ركن، أنت تختاره، وتنظر إلى نفسك، ومن نفسك إلى العالم من حولك. مكتبتك التي بنيْتَها عبر سنوات من الشغف بالقراءة والسؤال هي دليلك الأول. مكتبة اقتنيت عناوينها من مكتبات مختلفة، من داخل بلدك ومن خارجه. ويفتح لك السفر إلى مناطق مخصوصة في العالم أبواب مكتبات عامة وخاصة، تضاعف من رغبتك في القراءة والإقبال على عوالم المعرفة والإبداع، من زاوية لم تكن تخطر على بالك.
بهذا أقنعت نفسي وأنا أتوجه إلى باريس في خريفها. لم أعذّبْها بالتخلص من شيء لا يمكن التخلص منه، بل رغبت في أن أسمح لها بأن تتنفس قليلًا من الهواء النازل من أعالي النفوس المبدعة. هواء في كوْن تعودتُ على زيارته منذ شبابي، وما زلتُ وفيًّا له حتى اليوم، وأنا على طريق الشيخوخة. هناك جهات في العالم لا عمر لها، نصاحبها عبر جميع فترات الحياة، وتظل هي نفسها. تظل ضرورة للمعرفة والتأمل والحوار. ذلك هو شأني مع عدة مدن في العالم، وباريس في مقدمتها.
نهاية خريف في باريس. كنت أحس برجّة عاتية ترفعني وتلقي بي في الأمكنة التي أحب أن أزورها. لا يمكن أن نزور مدينة بكاملها، هذا مستحيل؛ لذا نختار جوانب من المدينة، نختار شوارع، متاحف، مكتبات، قاعات للعروض السينمائية أو المسرحية أو الموسيقية. نختار حدائق ومطاعم ومقاهي وحانات. باريس توفر إمكانية الاختيار، مثلما هي لندن، أو نيويورك، أو مدريد، أو برلين، أو طوكيو. مدن تجسد مفهوم المدينة، حيث تجمع عمارتها بين الجمال والمنفعة والمتعة. باريس اليوم تخبرني بأن باريس التي عرفت في الستينيات شملتها تحولات عديدة، لكنها تظل مدينة الحضارة الغربية في عصرها الحديث.
* * *
أول ما كان يشدني إلى خريف باريس هو النشاط الثقافي الذي يطبع هذا الفصل من فصول السنة. خريف باريس هو بامتياز فصل الكتاب، أو ما يعرف بالدخول الثقافي. منذ نهاية أغسطس تشرع دور النشر في إصدار عناوينها الجديدة. ومع أكتوبر يبدأ انتظار الإعلان عن الجوائز. جائزة نوبل في شهر أكتوبر. واجهات المكتبات يملؤها العمل الأدبي الفائز بالجائزة، وإلى جانبه أعمال أخرى للفائز، تكون في غالب الأحيان قد صدرت من قبل مترجمة إلى الفرنسية. ومن أكتوبر إلى ديسمبر، تتكاثر التكهنات بالعناوين التي ستفوز بجوائز فرنسية، وفي مقدمتها جائزة الغونكور الشهيرة. سنة بعد أخرى تصبح الجوائز ذات طغيان إعلامي وذات سلطان على عرض الكتب في المكتبات. ومنذ التسعينيات من القرن الماضي لم تعد المكتبات تخفي رغبتها في الاكتفاء بعرض ما هو قابل للبيع بكميات كبيرة. وأنا من بين القراء الذين لا يعبؤون كثيرًا بالجوائز. لباريس ومكتباتها عوالم لا متناهية من الكتب؛ منها ما يصدر في خريف كل سنة، أو خلال شهورها، ومنها ما صدر من قبل ولم يتمكن كثيرون من اقتنائه.
عالم الكتاب عجيب ومدهش. عندما تطأ قدماي مكتبة أنسى بسرعة ما هو خارجها. أتوقف قليلًا لتحية المكتبة، قبل وضع القدم على عتبتها. هكذا احتفلتُ بالمكتبات يوم كان حي السان ميشيل والسان جيرمان يتوفران على مكتبات من أصناف مختلفة. كل واحدة منها تقدم لك في الغالب فرصة التعرف على ما لا تحتفي به مكتبات سواها. الذهاب إلى المكتبات لاقتناء الكتب أجمل ما أغتنمه من السفـر. غالبًا ما أدخل إلى المكتبة وأنا أحمل في يدي ورقة تضم لائحة الكتب التي أبحث عنها. أكون حريصًا على البحث عن هذه اللائحة. لكن الأجمل دائمًا هو أن أعثر، إلى جانب تلك التي أبحث عنها، على عناوين لا أعلم بصدورها أو ضاعت مني فرصة اقتنائها، أو أتوفق في اللقاء بمساعد في المكتبة، ذكي وخبير، يعرف جيدًا طبيعة احتياجات القراء، فيدلني على عناوين مفيدة، وقد تكون أحيانًا ذات أهمية غير اعتيادية.
* * *
تلك المكتبات، التي كانت تملأ الشوارع، أضحت في عهد امتياز السياحة مجرد محلات تجارية لمختلف أنواع السلع. مرة بعد أخرى تتغير الواجهات والمعروضات. وأنا أحافظ على علاقتي بباريس. في هذه السنة، كما في السنوات السابقة، توجهتُ إلى المكتبات التي أفضلها. هي مكتباتي. وأنا متأكد من أنها ستوفر لي ما أبحث عنه أو ما أحتاج إليه.
بذلك اليقين أقبلتُ على مكتبات. لكن ما صدمني هذه المرة كان أكثر مما أهداني مفاجآت جميلة. قلتُ، في البدء، لا بدّ لي، من باب الفضول، أن أبحث عن الرواية الفائزة لهذه السنة بجائزة نوبل. أريد أن أراها أولًا. «بقايا النهار» للروائي البريطاني كازو إيشيغورو. أريد أن أراها. هذا يعنيني، قلت في نفسي. فأنا أودّ أن أفهم قليلًا سبب تجنب لجنة نوبل إعطاء الجائزة لكاتب عربي. عندما أقبلتُ على أكثر من مكتبة وجدتُ أن الكتب المعروضة فوق طاولاتها هي التي فازت في شهر ديسمبر بالجوائز الأدبية الفرنسية، فيما هي رواية الفائز بنوبل غير معروضة في المكان المفترض وجودها فيه. فضلتُ ألا أسأل عنها أيَّ مسؤول في المكتبات التي زرتها. وبعد جهد، وتغيير مكان مجموعات الأعمال المعروضة، عثرتُ على رواية كازو، بل عثرتُ على عدد من رواياته.
هذه الحادثة العابرة نبهتني على معنى زيادة تسلط الحس التجاري على السوق الثقافية. مركز المكتبات مخصص للكتب ذات السلطة الآنية. هي وحدها التي تحتكر وجاهة العرض. أما التي مضى على صدورها وقت قصير، حتى لو كانت من صنف جائزة نوبل، فهي محكومة بالانسحاب إلى الخلف، ومن الخلف إلى النسيان فالإهمال. كان واضحًا، منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي، أن عمر الكتاب يتقلص شيئًا فشيئًا. لكننا اليوم لسنا فقط أمام هذا النوع من التعامل التجاري الوقح مع الكتاب، بل نعاين الانتقال إلى مرحلة أعلى يتقلص فيها عمر الكتب إلى أقل فترة ممكنة.
* * *
ما الذي سنقوله عن كتب ليس لها قوة المبيعات نفسها؟ قديمًا، كانت قيمة الكتاب تتمثل فيما يأتي به من اجتهاد في مجال معرفي من مجالات العلوم الإنسانية، مثلًا، أو في مجال الإبداع الأدبي. كانت المكتبات تتسابق في عرض كتب الفلاسفة وكتب النقاد الأدبيين وعلماء الاجتماع والتحليل النفسي، إضافة إلى ما كان للشعر من مكانة عليا في العرض وأحيانًا في التقديم. وكان للمسرح ما كان للشعر. أما اليوم فالقيمة، كل القيمة، بدون تقسيط، محفوظة للكتاب الذي يحقق المبيعات العليا. بهذا المعنى نفهم السبب وراء تخصيص زاوية جانبية للدواوين الشعرية. الجديد منها، لدى دور النشر المميزة، يحظى بعرض لمدة قصيرة، ونادرًا ما يصل إلى واجهة المكتبات، التي تفوز بها الأعمال المرشحة لتحقيق أعلى المبيعات.
خريف باريس هو موسم الكتاب في فرنسا. عديدة هي المدن التي تحتفي بالكتاب في الخريف، ربما بطريقة باريس نفسها. لكن ما لا يجب أن أنساه هو هذا التحول الجارف الذي يزيح الكتاب الثقافي عن صدارة الأحداث الثقافية ليحل الكتاب التجاري محله. ثمة عنف في هذا السلوك، الذي لم يعد يبالي بالقيمة الثقافية للكتاب ولا يوليها الاعتبار الذي تستحقه.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق