لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير والاستنارة، فئة موجودة في كل المجتمعات والثقافات، ومتجذرة في تاريخ الشعوب والحضارات منذ القدم، وهي مطلب قائم ودائم ومتجدد، وصناعة ضرورية لكل مجتمع ولكل...
المقالات الأخيرة
الجدران تهتف.. ثورة الغرافيتي الثانية في العالم تنفجر في ميدان التحرير
منذ قديم الزمان كانت الجدران، ثم كان الإنسان. في البداية لم يكن قادرًا على الكلام فأنطق الجدران. عبّر الإنسان الذي سمّيناه البدائي عن نفسه بالخربشة على جدران الكهوف التي لاذ بها من هول الطبيعة. تحسنت قدراته فرسم عليها بالألوان. علم الإنسان على الجدران دون معلم حتى تعلم. وارجعوا إلى صور كهوف «لاسكو» في جنوب غرب فرنسا، 17500 عام، التي احتوت على 600 رسم ملون و1500 نقش على جدرانها الداخلية! عندما نشأت أقدم الحضارات كان عمادها أيضًا رسم الإنسان على الجدران. كانت الحضارة الفرعونية في أبرز وجوهها حضارة الجدران. هي الحضارة الوحيدة التي تركت تاريخها كله عليها الذي استمر آلاف السنين. لذلك استطاعت البشرية أن تعرف تفاصيلها وأن ينشأ علم كبير اسمه المصريات أو «إيجيبتلوجي». كانت الكتابات والرسوم على الجدران هي وسيلة الإنسان في التعبير عن نفسه، عن علاقته بالخالق وعلاقته بالطبيعة وبالآخرين، وكانت وسيلة الإعلام التي تنقل الإخبار. في الحضارة الرومانية ترك المصارعون رسائل فاحشة في كثير من الأحيان على جدران الكولوسيوم في روما. نظر علماء الآثار إلى الكتابة على الجدران الخارجية لمباني مدينة بومبي التي جمدتها حمم البركان فوجدوا كتابات الحب والشعر.
استمر تعبير الإنسان على الجدران في كل الحضارات الأخرى وفي كل الأديان. كانت جدران أماكن العبادة بالطبع هي الأولى بتعبير الإنسان. عندما منع الإمبراطور الروماني المسيحية في مصر، هرب مؤمنون بها إلى كهوف في الصحراء وأسسوا نظام الرهبنة. على جدران هذه الكهوف عبّروا عن معتقداتهم بالكتابة والرسم، ثم أقاموا الأديرة ليعتكفوا فيها، وارجعوا إلى صور جدران دير الأنبا أنطونيوس على سفح جبل الجلالة في محافظة البحر الأحمر بمصر، أول دير أنشئ في العالم. بعد ذلك باثني عشر قرنًا غيَّر مارتن لوثر التاريخ المسيحي بكتابة انتقاداته للكنيسة الكاثوليكية على باب كنيسة مدينة فيتنبرغ بألمانيا، مؤسسًا بذلك للمذهب البروتستانتي. بعدما ظهر الدين الإسلامي ابتكر المسلمون فنين رائعين على جدران مساجدهم: الخط العربي بأشكاله المتنوعة، ورسوم الأرابيسك المجردة. هذه مجرد أمثلة على علاقة الأديان بالكتابة والرسم على الجدران. لكن هذه الممارسة بدأت كما أوضحت تلقائية، واستمرت كذلك قبل الأديان ومعها؛ لأنها مرتبطة بوجود الإنسان في كل مكان وزمان.
شخصيًّا تفتَّح وعيي على هذه الرسومات في طفولتي. كنت أرى واجهات بعض من بيوت الجيران في منفلوط في صعيد مصر وقد ازدانت برسومات ملونة للكعبة ولجمال وأشخاص وهلال ومعها هذه العبارة الأثيرة: «حج إلى بيت الله الحرام، وزار قبر النبي عليه الصلاة والسلام الحاج فلان بن فلان. حج مبرور وذنب مغفور». كان هذا إعلان كبير واضح على حج صاحب البيت بطريقة فنية بسيطة تخصص فيها بعض النقاشين. أنتقل مباشرة إلى مثال آخر لم أعشه لحسن الحظ، لكن حكاه لي صديقي بهجت النادي الكاتب المقيم في باريس. حكى لي أنه اعتُقل في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، وتنقل بين سجون ومعتقلات عدة في مصر، كان منها سجن القلعة في القاهرة. منذ سنوات عدة زار بهجت مصر، وذهب إلى القلعة فوجد السجن وقد أصبح متحفًا. بحث عن الزنزانة التي كان فيها، وكم كانت المفاجأة عندما وجد ما كتبه ورسمه هو ونزلاء هذه الزنزانة ما زال على جدرانها. هذا فصل آخر من تاريخ الكتابة على الجدران. أبرز مثال عليه هو برج قلعة لندن. ضمت هذه القلعة المتجهمة، في تاريخها الطويل والمليء بالأحداث، رجال دين وعلماء وسياسيين فضلًا عن مجرمين ومتآمرين وخونة معظمهم عبّروا عن أنفسهم بالكتابة والرسم على جدرانها. بجوارها برج بوشامب، الذي بناه توماس بوشامب عام 1397م. في هذا البرج أكبر عدد من الكتابات على الجدران، لكن كثيرًا من نزلائه لم يعبّروا عن أنفسهم طواعية بل أجبروا على الكتابة تحت الإكراه الشديد لدفع ثمن الولاء لدينهم أو لآرائهم السياسية.
حرب الجدران
رحلة طويلة عبر الزمان حتى أصبحت الكتابة والرسم على الجدران ظاهرة فنية عالمية يمكن التعرف على بداياتها في الستينيات من القرن الماضي. خرجت الظاهرة من جدران محددة ومناسبات معينة إلى فراغ الشوارع والميادين. بدأت في فيلادلفيا بالولايات المتحدة الأميركية عندما وجد أهالي أحد أحيائها عبارة «كورنبريد يحب سينثيا» منتشرة على الجدران. اشتهر الفتى كورنبريد واعتبر مؤسس الغرافيتي المعاصر. في الوقت نفسه تقريبًا بدأ أطفال في مدينة نيويورك بالكتابة على الجدران بشكل بسيط، مجرد اسم الكاتب أو رسالة إلى طفل آخر أو كلمة حب. لكنهم أدخلوا من دون أن يقصدوا عنصرين جديدين في الظاهرة هما: الشهرة والأسلوب. اشتهر من هؤلاء الأطفال من كان يوقع باسم «تاكي 183». هو لم يكن أول طفل يكتب على الجدران في نيويورك لكنه بالتأكيد حصل على أكبر قدر من الاهتمام. حفظ تاريخ الغرافيتي هذا الاسم. أخذوا يتنافسون على مساحات فارغة. بدأت حرب الجدران التي دخلها السود في الأحياء الفقيرة ليعبّروا عن عدائهم للتفرقة العنصرية. سرعان ما بدأت الظاهرة في الانتقال عبر الدول. أذكر أن دهشتي كانت عظيمة عندما ذهبت إلى باريس في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، وفوجئت برسومات وكتابات على جدران أنفاق المترو تحت الأرض. كيف دخل هؤلاء العفاريت إلى هنا ورسموا؟
إنها ثورة الغرافيتي، المصطلح الذي ظهر مع هذه الثورة في السبعينيات من القرن العشرين، ويعني ببساطة الكتابة والرسم على الجدران. أصبح الغرافيتي ثورة باندماجه مع فن شعبي جديد ظهر في الولايات المتحدة اسمه الهيب هوب. واقع الأمر أنه لم يكن فنًّا فقط، كان ثقافة شبابية عبّرت عن نفسها بالغرافيتي الذي استخدمه نشطاء سياسيون وجماعات من السود وغيرهم، وعبّرت عن نفسها بموسيقا الراب ورقص البريك دانس Break dance وهو التعبير الجسدي لموسيقا الراب الغنائية السريعة، وهي بدورها تحتل المنطقة الرمادية بين الكلام والنثر والشعر والغناء. في هذه المرحلة بدأ الغرافيتي يصبح فنًّا متخصصًا يتميز فيه فنانون وتشتهر منهم أسماء كان من أولها «أوج سليك». شهد عام 1983م الإفراج عن فلم وثائقي عن ظاهرة الغرافيتي في تلك المرحلة، أخرجه توني سيلفر وأنتج بالتعاون مع هنري شالفانت. كان حول الهيب هوب مع التركيز بشكل كبير على مشهد الكتابة على الجدران. سجل الفلم مجموعة من الأسماء المرتبطة بهذا المشهد في ذلك الوقت، مثل: فوتشرا، دوندي، زفير بين كثير من الأسماء الأخرى. وعرض الفلم أيضًا وجهات النظر المعارضة لهذه الظاهرة.
الأحداث السياسية الكبيرة في العالم
أصبح الغرافيتي مرتبطًا بكل الأحداث السياسية الكبيرة في العالم. يسارع فنانوه بالوجود في مكان الحدث والمشاركة فيه وتسجيل مواقفهم منه. إنهم كالفنانين الرحّل لا ينتظرون دعوة للمشاركة، بل يدفعهم شعور داخلي بالواجب أو تلبية لتضامن جماعي. هناك جداران شكَّلا حدثين مهمين في تاريخ الغرافيتي المعاصر، أحدهما لأنه هُدم، والآخر لأنه أُقيم. جدار برلين الذي هُدِم وكان يفصل بين ألمانيا الاتحادية وألمانيا الديمقراطية وما أعقبه من توحيدهما في أكتوبر عام 1990م. تحولت برلين منذ ذلك الوقت إلى عاصمة عالمية للغرافيتي. الجدار الذي أقيم هو جدار الفصل العنصري الضخم الذي بنته إسرائيل في الضفة الغربية المحتلة ليفصل بين المستوطنات الإسرائيلية، والمدن والقرى العربية. بدأ بناء هذا الجدار عام 2002م، وفي نهاية عام 2006 بلغ طوله 402 كم. سرعان ما استخدمه فنانون فلسطينيون وغيرهم من فناني العالم في تحويله إلى أطول حائط غرافيتي في التاريخ. عدَّت السلطات المسؤولة ظاهرة الغرافيتي في البداية اعتداءً على الفراغات العامة وجرَّمتها. كيف لا تفعل وقد عرّف قاموس أوكسفورد كلمة غرافيتي بهذا النص: «تعامل كصيغة مفردة أو جماعية كتابة أو رسومات مخبأة أو خدش أو رش بطريقة غير مشروعة على جدار أو سطح آخر في مكان عام». لكن الظاهرة تحولت إلى طوفان أغرق السلطات المسؤولة نفسها، فحاولت في بعض الدول استيعابها أو اعترفت بها كفنٍّ. بحلول منتصف الثمانينيات من القرن العشرين، انتقل فنانو الغرافيتي الذين وصفهم بعض بالمخربين، من التوقيعات البسيطة، إلى رسائل فقاعية، إلى جداريات ذات عناصر خطية وتصويرية مبتكرة تمامًا. أصبح الغرافيتي فنًّا مميزًا. بعد ثلاثين عامًا، انتشر في معظم دول العالم حتى وصل تأثيره الأسلوبي والثقافي إلى وكالات الإعلانات وإلى متاحف فنية، حتى الهندسة المعمارية.
لا بد من الاعتراف بأن القاهرة شهدت الثورة الثانية لفن الغرافيتي في العالم.. توقف الزمن أحد عشر يومًا في ميدان التحرير والشوارع المحيطة به بعد 25 يناير 2011م. سجل شباب الغرافيتي تاريخًا خاصًّا بعد أن اجتاح كل حوائط المنطقة تقريبًا، وانتشر في أماكن أخرى كثيرة. لم يكن شرطًا أن يعرف الشاب كيف يرسم. يكفي أن يحصل على علبة رش ملون «إسبراي» ويفعل ما يشاء على الحائط. مع ذلك ولد فنانون شبان متميزون في الرسم على الجدران في تلك الأيام. شخصيًّا فوجئت بانفجار هذه الظاهرة وهذا العدد الكبير من الشبان الذين لم يكن يعرفهم أحد من قبل. كنت لاحظت في سنوات العقد الأخير من القرن الماضي انتشار كتابات على الجدران في كل محافظات مصر تقريبًا تدعو إلى الحجاب وتسجِّل شعار «الإسلام هو الحل». منذ يناير 2011م رأينا شعارات سياسية راديكالية، وشاهدنا صورًا قوية لوجوه شابة، وزعامات سياسية، وأكف مضمومة وسلاسل حديدية وغيرها. لا بد من العودة إلى الكتاب المهم عن ثورة الغرافيتي في مصر بعنوان: «الجدران تهتف» لندخل مرة أخرى في جو هذه الحقبة الاستثنائية، بعد أن محت السلطات كل أثر للغرافيتي من على الجدران، وهذه إحدى مشكلات هذا الفن الزائل. فكما يسهل على الفنان ممارسته يسهل أكثر على السلطة محو ما فعل. لكن شباب الفنانين الذين أصدروا كتاب «الجدران تهتف» نجحوا في تصوير عدد كبير من رسومات وكتابات الغرافيتي، وسارعوا إلى نشر كتابهم في العام التالي مباشرة 2012م قبل أن تبرد الأحداث مُصدِّريه بعبارة: «لن ننسى». كتبت رشا عزب في هذا الكتاب: «نحن لا نخاف الجدار، لقد أودعنا فيه سرنا، ورسمنا عليه المحرم والمشروع». كتب عمرو مصطفى: «لا أعرف إذا كنت ثائرًا لأنني فنان شارع، أم فنان شارع لأنني ثائر. أنا أفضل الثانية وأحب الاثنين: الثورة والفن». الواقع أن مثل هذه الكتابات تعبر عن جوهر فن الغرافيتي في مرحلته الحالية التي بدأت منذ السبعينيات من القرن الماضي كما أوضحت. إنه فن متمرد بلا أي قيود. ليست له مدرسة، ولا يحتاج إلى دعوة لممارسته على أي جدار. لا تنظَّم له معارض. لا يباع ولا يشترى. لا يفكر فنانوه في بقاء أعمالهم أو الحفاظ عليها كما يفعل باقي الرسامون والمصورون. إنهم لا يفكرون على الإطلاق في خلود الفن. يعرفون أن ما يرسمونه قد يمحى في اليوم نفسه. لكنهم يرسمونه ليعبروا عن أنفسهم وكفى. إنه انفجار طاقة فنية شخصية تعبّر عن رفضها وأفكارها علنًا من دون استئذان مستبيحة أية مساحة بيضاء على جدار، ورغمًا عن أي نظام.
المنشورات ذات الصلة
لا تقرأ القصائد… أقرأ جدول القطارات
كانت "الفيصل" قد كرست ملف عدد مارس – إبريل 2017 للقطار والمترو، فتضمن تأملات في المترو والقطارات من زوايا عدة، كتبها...
صناعة النخب في الوطن العربي
صورة النخب وجدل الأدوار محمد شوقي الزين - باحث جزائري مثل المنطوق الأوربي (elite)، تنطوي مفردة «النخبة» في اللسان...
الإبل في الثقافات: شراكة في الحضارة قفْ بالمطايا، وشمِّرْ من أزمَّتها باللهِ بالوجدِ بالتبريحِ يا حادي
آفاق السنام الواحد عهود منصور حجازي - ناقدة سينمائية منذ فجر التاريخ، كان إدراك الإنسان لتقاسمه الأرض مع كائنات أخرى،...
0 تعليق