كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
قبس من رسائل فان غوخ.. كلّ رجلٍ شريف جديرٌ بخبز كَفافه
ترك الفنان الهولندي فنسنت فان غوخ (1853 – 1890م) تراثًا أدبيًّا فريدًا تمثّل في رسائله المسهبة التي بلغ ما تبقى منها نحو 903 رسائل تشغل باللغة الهولندية ستة مجلدات كبيرة. ومن المعروف أن المصور الكبير قد عاش حياةً مضطربة اتسمت بالترحال الدائم وعدم الاستقرار والفقر المدقع؛ إذ لم يفلح في الحصول على اعتراف الأوساط الفنية وتجار اللوحات في أثناء حياته على الرغم من منجزه الكبير الذي تجاوز ألفي قطعة فنية بين تصوير ورسم وحفر. وتقدم تلك الرسائل رؤيةً مفصلةً عن حياة الفنان الأسطوري الذي غيّر وجه التصوير الحديث، وتسرد حكايات عن نشأة أعماله وتطوّر أفكاره عن الحياة والفن والأدب أيضًا. وهي ترسم خط سيرته الذاتية خلال الثمانية عشر عامًا التي كُتبت خلالها، وهي أيضًا مرآة للحياة الفنية والثقافية والاجتماعية في ذلك الوقت من نهايات القرن التاسع عشر في هولندا وبلجيكا وإنجلترا وفرنسا. والأغلب الأعم من هذه الرسائل موجه لشقيقه تيو، صديقه المخلص وراعيه الأمين، وإن ضمّت المجموعة رسائل أخرى لوالديه أو إحدى شقيقتيه أو بعض أقاربه وأصدقائه وزملائه من الفنانين. وفيما يأتي رسالتان من هذه الرسائل أولاهما موجهة لشقيقه تيو من مدينة لاهاي، والثانية لصديقه الفنان أنطون فان رابارد، أرسلها من قرية نيونن بريف هولندا حيث كان يشغل أبوه منصب كاهن البلدة. الرسالة الأولى من ترجمتي فيما الثانية من ترجمة محمد مجدي.
لاهاي، السبت 11 مارس 1882م
عزيزي تيو،
ستكون قد تلقيت رسائلي، وأنا أرد على رسالتك التي تسلمتها هذه الظهيرة. وبموجب طلبك، فقد أرجعت على الفور عشرة جيلدرات إلى ترستيج الذي كان قد أقرضني إياها هذا الأسبوع. كتبت لك عن أمر العمّ كور، وهذا ما حدث. اتضح أن كور كان قد تكلم مع ترستيج قبل أن يأتي لزيارتي. على أي حال بدأ بالكلام عن أشياء من قبيل «تكسب عيشك» وقد خطرت ببالي الإجابة سريعًا في لمحة وهي صحيحة فيما أعتقد. وهاك ما قلته: أكسب عيشي! ما الذي تقصده بذلك؟ أن يكسب المرء عيشه أم أن يستحق المرء عيشه. ألّا يستحق المرء عيشه، أي ألّا يكون جديًرا بخبزه، هذا ما نسميه جريمة، وكل رجل شريف جدير بخبز كفافه، لكن ألّا يكسبه على الإطلاق فيما هو يستحقه، فذلك هو سوء الحظ، وسوء حظ عظيم. إذن، فلو كنت تقول لي هنا والآن: أنت لا تستحق خبزك، فأنا أفهم أنك تسبني، أما إذا كنت تقصد الإشارة العادلة إلى أني لا أكسبه دائمًا لأنني أحيانًا أفتقر إليه، فليكن، ولكن ما فائدة تعليقك هذا لي؟ سيكون مفيدًا بالكاد لو انتهى الأمر عند هذا الحد. لقد حاولت مرارًا مؤخرًا شرح ذلك لترستيج، لكن قد يكون لديه صعوبات في السمع في أذنه أو ربما كان شرحي مضطربًا بسبب الألم الذي سببته لي كلماته.
بعدها لم يقل كور شيئًا عن كسب المرء لعيشه. وقد واصلت العاصفة تهديدها إذ ذكرتُ اسم ديغرو في شيء متصل بالموضوع. فسأل كور بغتةً، لكنك تعرف بالتأكيد أن هناك شيئًا غير لائق متعلقًا بحياة ديغرو الشخصية؟ تفهم طبعًا أن كور يطأ هنا منطقة هشة وخطيرة على سطح الجليد الرقيق. لا أستطيع أن أترك ذلك الكلام يقال عن الأب ديغرو الطيب. فرددت: لقد بدا لي دائمًا أن الفنان إذ يعرض عمله على الجمهور فله الحق أن يحتفظ لنفسه بالصراعات الداخلية لحياته الخاصة (التي ترتبط على نحو مباشر وبشكل لا ينفصم بالصعوبات الفريدة التي تشارك في إنتاج العمل الفني) إلا إذا كان سيفضي بهمومه إلى صديق حميم جدًّا. إنه شيء فظ، أقول: من قبل الناقد أن ينقب عن شيء مذموم من الحياة الخاصة لشخص عمله فوق النقد. إن ديغرو معلم كبير كمييه وكجافارني.
بالتأكيد كور لا يرى جافارني على الأقل كمعلم.
(كان من الممكن أن أعبر عن الموضوع بإيجاز -لأي شخص عدا كور- بقولي: عمل الفنان وحياته الخاصة كامرأة في سرير الولادة مع رضيعها. بإمكانك أن تنظر إلى الرضيع، لكن لا يمكنك أن ترفع قميصها لترى إن كانت هناك أي بقع دم عليه، سيكون غير لائق في حالة زيارة الوالدة.) كنت قد بدأت أخشى أن يأخذها كور ضدي، لكن لحسن الحظ فإن الأمور أخذت منحى للأفضل. فلتغيير مسار الحوار أخرجت دفتري للدراسات الصغيرة والتخطيطات. في البداية لم يقل شيئًا، حتى وصلنا لرسمة صغيرة كنت قد خططتها مرةً مع برايتنر، ونحن نتمشى في منتصف الليل – تحديدًا في باديمويس (ذلك الحي اليهودي بالقرب من نيوكيرك)، كما يُرى من تارفماركت. وقد جلست لأعمل عليها في الصباح التالي بالقلم.
ألقى جول بكيوزن أيضًا نظرة على الرسمة وتعرف إلى المكان على الفور.
هل تستطيع أن تصنع المزيد من تلك المناظر المدينية من أجلي. قال العم كور: بالتأكيد؛ لأنني أسلّي نفسي بها أحيانًا عندما أكون قد أُرهقت من العمل مع الموديل هاك فليرستيج، وحي ذا جيس، وسوق السمك. اصنع اثنتي عشرة رسمة من هذه من أجلي. قلت له: طبعًا، لكن ذلك يعني أننا بصدد نوع من العمل، فدعنا نتكلم مباشرةً عن الثمن. إن الثمن الذي أضعه لرسمة من هذا الحجم، سواء كانت بالحبر أو بقلم الرصاص هو ريكسدالدر (دولار وطني هولندي) – هل يبدو ذلك معقولًا لك؟
فقال ببساطة: نعم، ولو كانت جيدة سأطلب منك صنع اثنتي عشرة رسمة أخرى عن أمستردام، في حالة أنك تتركني أحدد الثمن، وستربح أكثر قليلًا هكذا. حسنًا، يبدو لي أنها طريقة جيدة لإنهاء زيارة لطالما ارتعبت منها. ولأنني كنت قد توصلت معك لاتفاق، يا تيو، أن أحكي لك الأشياء ببساطة هكذا وبطريقتي الخاصة، كما يخطها قلمي، فأنا أصف لك هذه المشاهد الصغيرة تمامًا كما حدثت، وبخاصة أنها بهذه الطريقة، حتى وأنت غائب، فستعرف لمحات عن مرسمي. أتوق لأن تأتي، لأن ساعتها سأستطيع أن أحدثك بجدية أكبر عن موضوعات تتعلق بالبيت، على سبيل المثال. إن طلب كور لهو نقطة مضيئة. سأحاول أن أصنع هذه الرسومات بعناية، وسأضع فيها بعض الروح. على أي حال فأنت سوف تراها، وأعتقد يا صديقي العزيز أنه سيكون هناك المزيد من مثل هذه الطلبات. (…)
في صباح الغد سأذهب لأبحث عن موضوع لإحدى رسومات كور. كنت عند بولشيري هذا المساء، لوحات حيّة ونوع من العرض الهزلي لتوني أوفرمان. لم أحضر العرض الهزلي لأني لا أحتمل الكاريكاتير ولا الاختناق في القاعات المزدحمة، لكنني أردت أن أرى «اللوحات الحيّة»، وبخاصة أن واحدة منها قد صنعت عن لوحة حفر لنيكولاس ماييس كنت قد أعطيتها لموف هديةً، مِزود البقر في بيت لحم. (الأخرى كانت عن رامبرانت؛ إسحاق يبارك يعقوب، مع صورة رائعة لرفقة وهي تتطلع لترى إن كانت ستنجح حيلتها) نيكولاس ماييس كان بارعًا جدًّا في توزيع الضوء والظلال حتى الألوان – لكن في رأيي لا تسوى فلسين كما يقول التعبير. التعبير كان خطأً بشكل قطعي. لقد رأيتها مرةً في الحياة الحقيقية، لا أقصد ميلاد الطفل يسوع، انتبه، لكن مولد عجل، وما زلت أعرف بالتحديد كيف كان تعبيره. كانت هناك فتاة، في الليل في الحظيرة –في البوريناج- وجه فلاحة بُنِّيّ بقلنسوة ليلية بيضاء بين أشياء أخرى، كانت عيناها تدمعان تعاطفًا مع البقرة المسكينة؛ إذ كانت تواجه صعوبات في المخاض. كان ذلك نقيًّا، ومقدسًا، ورائعًا وجميلًا كلوحة لكوريجيو، لمييه أو لإسرائيل. آه يا تيو، لماذا لا تكون نفسك وتصبح مصورًا؟ يا صديقي، بإمكانك أن تفعلها لو كنت تريد. أحيانًا أشك في أنك تحتفظ برسام عظيم للمناظر الطبيعية مختبئًا بداخلك. ويبدو لي أنك ستكون رائعًا في رسم جذوع شجر البتولا، وتخطيط تعاريج الحقول أو الحقول المحصودة، وتصوير الثلوج والسماء، وما إلى ذلك. هذا بيني وبينك فقط. أصافحك.
المخلص دومًا، فنسنت
نيونن، نحو الإثنين، 13 يوليو 1885م
صديقي العزيز رابارد،
ما مرّ يعني أنني حين أجلسُ للكتابةِ لكَ فإن ذلك لرغبةٍ في الاستيضاح أكثر منها رغبة في المتعة. أما عن إرفاقي خطابَك السابق هنا، فثمة سببان لذلك، لكليهما ضرورة خاصة. أولًا- هب أن تعليقاتِكَ على مطبوعة الليثوغراف التي أرسلتُها إليكَ صحيحة، هب أنّه ليس لدي ما أردّ به عليها – حتى في هذه الحال، فلا شيءَ يمنحكَ الحقّ في شجبِ عملي بهذا الأسلوب المهين، ولا في تجاهله كما فعلت. ثانيًا- لمّا كنت قد حظيتَ بقدرٍ من الصداقةِ أكبر مما أعطيت، ليس مني فقط، بل من عائلتي أيضًا، فأنت لا يحق لك ادعاء أنه وفي مناسبةٍ مثل مناسبةِ موتِ أبي، كان لزامًا علينا إرسالُ شيءٍ لكَ خلا ملاحظة مطبوعة.
ليس لزامًا عليّ أنا تحديدًا، بما أنك قبلها لم تردّ على خطابٍ منّي. ليس لزامًا عليّ، بما أنك في مناسبةِ موتِ أبي قد أرسلتَ تعبيرًا عن تعاطفكَ في خطابٍ مُرسلٍ إلى أمي – خطاب حينَ وصلَ ولّد تساؤلًا في البيت عن ماهية السبب الذي منعك من الكتابةِ إليّ أنا حينها، وهو الأمرُ الذي لم أُرِدْه، بأي حال، ولا أريده. أنت تعلمُ، أنني لم أكن على علاقةٍ طيبةٍ بهم في البيت لسنواتٍ خلت. في الأيامِ الأولى بعد موت أبي، اضطررتُ لمخاطبةِ العائلةِ القريبة. لكن بمجرّد وصول العائلة، انسحبتُ من الأمر برمّته. أما عن أي تقصيرٍ، فهو ليس منّي، بل من العائلة. وعليّ إخبارك أنه وعلى كل المستوياتِ فأنت استثناء، فقد سألتهم في البيتِ: إن كانوا قد أرسلوا إليكَ كلمةً وتبيّن أن ذلك جرى نسيانه. وهذا كافٍ للغاية في هذا الصدد.
سبب كتابتي لك ثانيةً لا يمتّ بصلةٍ بالردّ على تعليقك على هذا الشأن. ولا هو لتكرار ما قلته عن ملاحظاتك حول فن التصوير. ها أنا أُطلعك ثانيةً على خطابك الذي كتبتَه. إن كنت لم تزل مؤمنًا بأن ذلك مُبرّرٌ، إن كنت تظن أن «لو فكّرت في الأمر، يمكنك، أن تعبر عن نفسك جيدًا وبالشّكل الصحيح» – حسنًا، فسيكون الأفضل ببساطة هو ترككَ لضلالاتك.
ولأصِيب ما قصدته: سببُ كتابتي لكَ هو ببساطة أنه، بالرغمِ من أنك مَن ابتدأ بالإهانة، ولست أنا، فقد طال بنا الزمن ونحن أصدقاء، أطول من أن أعتبر هذا سببًا لقطعِ علاقتنا. ما لديّ لأقوله لكَ، هو من الرسّام إلى الرسّام وما دمنا نرسم أنا وأنت– فسيستمر ذلك، سواءٌ كنا على معرفة، أم لم نكن. كان ثمة ذكرٌ لمييه.
حسنًا، سأجيبك، يا صديقي العزيز.
كتبتَ: «تجرؤ على استحضار مييه وبريتون».
ردّي على ذلك أنني أدعوكَ بجدّيةٍ لهذا الاعتبار، ببساطةٍ لا تعاركني. أما أنا، فإنني أمضي في طريقي الخاص، كما ترى، لكنّني لا أبحث عن عراكٍ مع أحد، ولا حتى معكَ الآن. سأدعكَ أيضًا تقول ما تريده، إن كان لديك أي من تلك التعبيرات، وستكون كماء لا يبلل ثيابي. وهي كافيةٌ حتى الآن مع ذلك. كوني لا أهتم بشكلِ الشخوص، وهو ما قلتَه سابقًا، فإن ملاحظة مثل هذه أعتبرها دون قدري، ودون قدركَ أيضًا أن تقولَ شيئًا كهذا ليس مبنيًّا على أساس. لقد عرفتني لسنواتٍ، هل رأيتني قطُّ أفعل أي شيءٍ خلا الاشتغال بموديل والاستسلامِ أحيانًا لكلفةِ ذلك الباهظة، حتى وأنا في هذا الفقر المدقع؟ ما لم تكتبْهُ في خطابكَ الأخير، لكن فعلتَهُ مِرارًا حدّ إثارة الامتعاض في خطاباتك السابقة، وكان موضوع الخطاب الذي لم تجبه – هو ما يخصّ «التقنية». ما أجبتكَ بهِ حينها وأجيبكَ به مرةً ثانية، هو المعنى التقليدي الذي ينسبه الناس باطرادٍ لكلمة التقنية، والمعنى الفعليّ، المعرفة. حسنًا. ميسونييه ذاته يقول: «المعرفة، لا يملكها أحد». ما قلته، وما زلتُ أقوله: الكلمةُ «تقنية» تُستخدَمُ في الأغلب بمعنًى تقليديّ، ثمّ، هي أيضًا تستخدم –في الأغلب- دون يقين. يمدحُ الناسُ تقنيةَ كل أولئك الإيطاليين والإسبان، وهم من بين رفاقنا الأكثر تقليديّة والأكثر روتينية فقط. ومع من هم مثل هافرمان، أخشى أن «الصنعة» سرعان ما تصبح «روتينًا»، فماذا ستسوى وقتذاك؟
سؤالي الآن هو: ما السر وراء قطع علاقتكَ بي؟
كتابتي إليكَ ثانيةً هي من أجل محبّة مييه، من أجلِ محبة بريتون، وكل من يرسم الفلاحين والشعب، وأنا أحسبك واحدًا منهم. لا أقول هذا لأنني تلقيت الكثير منكَ كصديقٍ، يا صديقي العزيز، بل لأنني، حصلتُ على القليل الثمين منك، ولا تسئْ فهم كلامي المباشر لك الذي أقوله للمرة الأولى والأخيرة، فأنا لم أعرف صداقة أكثر جفاءً من صداقتك. لكن، أولًا ليس هذا سبب ما أفعله، ثانيًا، قد يكون هذا تحسّن أيضًا، لكن بعد خلق فرص لإيجادِ موديلات لي… إلخ، لستُ من البؤس إلى درجة الاحتفاظ بهذا كسِرّ. على النقيض، إن جاء رسّام أيًّا كان، إلى هذه الناحية، فسيسرّني أن أدعوه لبيتي وأن أريه الطريق. تحديدًا لأنه ليس من السهل دائمًا إيجادُ موديلات تقبل اتخاذ وضع للرسم، وحصولي على موطئ لقدم في مكانٍ ما ليس مما يتجاهله الجميع. ولهذا أقول لك: إن أردتَ التصوير هنا، فلا تستشعر الحرجَ بسبب وجود خلاف في الرأي بيننا. ثم، على الرغمِ من أنني أعيش وحيدًا في أستوديو الآن، فإنه يمكنكَ أن تعيش معي أيضًا.
قد تقول، بغطرسة: إن هذا لا يعني أيّ شيءٍ لك. حسنًا. لقد اعتدتُ الإهانات حتى إنها أصبحت حقيقةً كماء لا يبلل ثيابي، إنّ شخصًا مثلك يجد أنه من الصعب فهم تأثير رسالةٍ باردةٍ مثل رسالتك فيَّ. وأنا غير مكترث لهذا، وليس لديَّ استياء أكثر من جماد. لكنّ لديَّ وضوحًا وسكينةً كافيين لأجيبك مثلما أفعل الآن؛ إن أردتَ قطع علاقتِكَ بي، حسنًا، وإن أردتَ أن تأتي وترسم هنا، فليس عليك أن تتأثر بهذه المشاكسات القليلة بيننا في الخطابات. ما صنعتَهُ أنت آخر مرةٍ كنتَ فيها هنا، تعاطفتُ ولا أزال أتعاطفُ معه كليًّا، ويا صديقي العزيز رابارد، إنني أكتب إليكَ؛ لأنك اشتغلت جيدًا بشكل رهيب في المرة الماضية، وأفكّرُ لأنك ربما قد تريد أن يظلّ كلّ شيءٍ هنا كما هو على حاله. عليكَ أن تحسمَ أمرَك، أقولها بصراحةٍ، من وجهةِ نظرٍ واحدة، وبالرغم من كل تقديري لتصويرك، فإن لديّ بضعة مخاوف ممّا إذا كنت ستستطيع الحفاظ على الجودة الماضية، أحيانًا أخاف؛ بسبب التأثيرات التي تتعرّض لها، وموقعك ومرتبتك الاجتماعيين، فقد لا تظل بالجودة نفسها على المدى الطويل كما أنت في هذه اللحظة، فقط كفنان تصويرٍ، فيما يخص تصويرك، لا أهتم بالبقية؛ لذا أقول لك، من فنان تصوير إلى فنان تصوير: إنك إن أردتَ أن تهتم بالتصوير هنا، فسيظل الأمر كما كانت حاله من قبل. يمكنك الحضور هنا، وعلى الرغم من عيشي وحيدًا، فإنه يمكنك أن تبقى معي كما حدث من قبل. كما ترى، أظنُّ أنك قد استفدتَ وقد تستفيد، وأردتُ فقط أن أخبركَ بهذا. لو أمكنك الاستمرار في مكانٍ آخر، حسنًا، فلن يكون لدي سببٌ للحزن، وحينها، وداعًا.
لم تخبرْني شيئًا عن عملكَ؛ لذا لم أقل شيئًا عن عملي.
صدّقني، لا تجادلْني عن مييه، فمييه هو شخصٌ لا أجادلُ حوله، وإن كنتُ لا أرفض الحديث عنه. ………تحياتي، فنسنت.
((تصدر قريبًا عن دار «الكتب خان» في القاهرة مختارات مكونة من 265 رسالة من مكاتبات الفنان الكبير في ثلاثة مجلدات تحت عنوان: «المخلص دومًا، فنسنت الجواهر من رسائل فان غوخ» وقد نقلها إلى العربية ياسر عبداللطيف ومحمد مجدي.))
المنشورات ذات الصلة
خوليو كورتاثر كما عرفته
كانت آخر مرة رأينا فيها بعضنا هي يوم الجمعة 20 يناير 1984م، في غرفته الصغيرة بمشفى سان لازار في باريس، على مبعدة زهاء...
عن قتل تشارلز ديكنز
عشت الثلاثين عامًا الأولى من حياتي ضمن نصف قطر بطول ميل واحدٍ من محطة ويلسدن غرين تيوب. صحيح أني ذهبت إلى الكلية -حتى...
الأدب الروسي الحديث.. الاتجاهات، النزعات، اللغة
يشير مصطلح «الأدب المعاصر» إلى النصوص التي كتبت منذ عام 1985م حتى الوقت الحالي. إنه تاريخ بداية عملية البيرسترويكا،...
0 تعليق