كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الشارقة تنتصر للقوة الناعمة.. وتتوج عاصمة عالمية للكتاب
في الوقت الذي يراهن فيه بعض البلدان والدول على توسيع النفوذ عبر الانتشار العسكري والحربي في محيطيها الإقليمي والدولي، فإن بعضها الآخر يراهن على ما يعرف بالقوة الناعمة، حيث الانتشار الثقافي الذي يسيطر على العقول أكثر من الأبدان، ويبدو أن هذه كانت إستراتيجية إمارة الشارقة العقود الأخيرة؛ إذ انتقلت فيها الشارقة من إمارة صغيرة على تخوم الصحراء العربية الكبرى إلى منارة ثقافية استحقت التكريم أربع مرات، فهي فازت بأربعة ألقاب ثقافية مهمة على الأصعدة المحلية والدولية، فقد نالت عام 1998م لقب عاصمة الثقافة العربية، ثم عاصمة الثقافة الإسلامية عام 2014م، ثم عاصمة السياحة العربية عام 2015م، وأخيرًا حصلت على لقب عاصمة عالمية للكتاب عام 2019م، بعدما أقرت لجنة اختيار العواصم العالمية للكتاب بمنظمة اليونسكو المشروع الذي تقدمت به الشارقة.
جاء هذا الاختيار تتويجًا لجهود الشارقة الثقافية في الداخل وفي الخارج، فقد تعدت الجوائز وسلاسل الكتب التي تقوم بإصدارها أو منحها، وارتبط كثير من المثقفين العرب بتلك المدينة التي لا يعرف عنها أكثر من إنتاجها الثقافي، حتى إن معرض كتاب الشارقة أصبح سوقًا كبيرة للثقافة، ومنتدى عظيمًا لتلاقي المثقفين، لكن هل كانت هذه الأسباب وحدها هي العامل الحاسم في تتويج الشارقة باللقب؟ وكيف يمكن استثمار الحدث في الترويج للثقافة العربية، والكتاب والمبدع العربيين على مستوى العالم؟ وما مقترحات المثقفين العرب كي يكون الحدث شأنًا عربيًّا ككل، وليس احتفالًا خاصًّا بمدينة واحدة؟ «الفيصل» وجهت هذه الأسئلة إلى عدد من الكتاب العرب.
الخروج على المركزية الأوربية
يقول الناقد المصري جابر عصفور: «حين علمت باختيار منظمة اليونسكو لمدينة الشارقة كي تكون عاصمة عالمية للكتاب عام 2019م لم أُصَبْ باندهاش، وبدا عليّ أنني متوقع لمثل هذا الخبر المهم، فإمارة الشارقة مهتمة بالثقافة منذ أن تولى سلطان القاسمي الحكم فيها، فهو رجل مبدع، له أعمال مسرحية مهمة، وما رأيته في زيارتي للشارقة من اهتمام رفيع بالثقافة يجعلني أؤكد أن هذا الاختيار صائب إلى أبعد حد، فالشارقة بالقياس إلى مختلف المدن في البلدان العربية أكثرها اهتمامًا بالثقافة على مختلف المستويات والأجيال، وتفوُّق الشارقة ثقافيًّا يمد بقية البلدان العربية بالدعم الثقافي والفني، ويحملها مسؤولية أمام الجميع في هذا التوجه، فمثلما كانت القاهرة تقوم بهذا الدور في الماضي، فعلى الشارقة أن تقوم بدورها الآن». ويضيف عصفور أنه «علينا نحن أيضًا أن نتعلم الدرس، ونسعى لاتخاذ المسارات التي من شأنها أن تجعلنا ننهض ثقافيًّا بما يتوازى مع قدرنا وقيمتنا التاريخية والمعرفية، ولو كان لي أن أقدم نصيحة، فإنني أرى أنه لا بد من استثمار هذا الحدث بشكل طيب بالنسبة للثقافة العربية ككل؛ إذ يجب عقد حوارات ثقافية كبرى وموسعة مع الكتاب العرب من مختلف البلدان والأعمار ومع كتاب مهمين من مختلف بلدان العالم، وبخاصة من آسيا وأميركا اللاتينية، فالأدب والفن يوجدان في هذه المناطق الآن أكثر مما يوجدان في المركزية الأوربية؛ لذا علينا أن نغامر ونتعرف إلى العالم خارج المركزية الأوربية».
اقرأ.. أنت في الشارقة
الشاعر والمترجم الفلسطيني محمد حلمي الريشة يوضح أن اختيار الشارقة عاصمة عالمية للكتاب جاء بناءً «على توصية من اللجنة الاستشارية التي اجتمعت في مقر الاتحاد الدولي لجمعيات ومؤسسات المكتبات في لاهاي، وبخاصة أنها حملت على عاتقها مسؤولية جسيمة؛ هي مسؤولية التثقيف الواعي عن طريق القراءة، الذي شمل برنامجها الهادف، الحامل شعار «اقرأ.. أنت في الشارقة»، بمحاوره الراقية وعناصره الستة: التضامن، والقراءة الحثيثة والمستدامة، والتراث العربي، والتوعية التثقيفية، والنشر، وأدب الأطفال». ويقول: «مما يشرّف، أيضًا، ما تناهى إلى العالم أن الشارقة ستطلق «مدينة الشارقة للنشر»، وهي مخصَّصة بالكامل للنشر والطباعة؛ حيث ستكون الأنموذج الأول من نوعه بالمنطقة المصممة خاصة لتلبية احتياجات الشركات والمؤسسات العاملة في مجال النشر. فالثقافة هوية، ونحن كفاعلين وكمثقفين بكل اتجاهاتنا الفكرية والإبداعية، بحاجة ماسة إلى هذا الحراك الثقافي شديد الأهمية، بقدر ما هو تشريف للثقافة العربية ولهويتنا كعرب. هو سمعة ثقافية اتساقًا مع مفهوم الإبداع الإنساني، وبخاصة العربي منه؛ سيكون منجزًا رياديًّا في العالم العربي بتوثيقه للدراسات وللعطاء الفكري الخلاق». ويلفت إلى أن الشارقة، بكل إطلالاتها السابقة التي تجلت بمنتدياتها الثقافية وباتحادات كتابها وبجوائزها التحفيزية، «سعت دائمًا لترسيخ الهوية العربية من خلال القراءة؛ فالثقافة أولًا رؤية لها دوافعها ودواعيها الحضارية لمسايرة الركب الفكري العالمي، وبذلك هي تقبُّل للآخر؛ لاختلاف طرق تفكيره، ومناقشته، وسبر غور حرفه، لإدراك أن الثقافة هي منظومة من القيم الإنسانية الفكرية الكينونية، وتحليق في مساحات الإبداع والجمال الروحي والفكري والعقلي التعقُّلي الهادف لبناء صرح ما بين فكر وآخرَ، لاستشراف مستقبل ثابت الخطى، وازن متَّزن، هو زرع قيم عليا من خلال حوار ثقافي حضاري متمكن من آليات العمل الثقافي الذي تقدمت به الشارقة من خلال ملف ترشيحها؛ إذ هو دليل انتماء للحضارة الكونية العالمية، وإثبات هوية، وإصرار أكيد على النهوض من بوتقة الحزن التي انغرست بها الروح العربية، وقبلها العقل العربي، وكادت تقضي على طموحه، حيث ستقيه الخذلان والتقوقع حول ذاته مستسلمًا لخساراته المتتالية؛ كي لا يموت المبدع قهرًا، فتُسلب هويته، وتُزهق مرة تلو أخرى».
جائزة عربية عالمية
أما الروائي السعودي فهد العتيق فيرى أن عمل مدينة الشارقة الثقافي والأدبي والفني المبدع «كان يتميز في السنوات العشرين الماضية بجدية ثقافية وصدق فني من دون ضجيج إعلامي مبالغ فيه، وهذا جعلها تقدم قيمًا ثقافية وأدبية وفنية رفيعة مكنها من استحقاق عاصمة العالم للكتاب عام 2019م. ومن وجهة نظر شخصية أرى أن الشارقة هي مدينة الثقافة والفن والأدب في العالم العربي من دون منازع، هي مدينة الإبداع الثقافي بشكل عام، هي كذلك بشكل تلقائي وبهدوء ومن دون قرارات رسمية ومن دون مبالغات إعلامية، وهذه التلقائية الثقافية كانت من أهم سماتها الجدية والمثابرة والاستمرارية والروح العالية من أجل أهداف ثقافية كبيرة هي في النهاية في مصلحة الشعب العربي الكبير». ويذكر العتيق أن هذه الجدية والروح الإبداعية المتجددة كل يوم وليس كل عام، «حوّلت المناسبات الثقافية من موسمية إلى مناسبات متواصلة على مدار العام، وهذه هي الثقافة الحقيقية حين تكون ممارسة يومية وليست موسمية فقط. في الشارقة على سبيل المثال معارض للكتب للكبار والصغار، ومهرجانات للشعر والسرد والموسيقا والسينما والتراث؛ معارض منوعة للكتب، ومعارض منوعة للفن التشكيلي، وملتقى الشارقة للمسرح العربي، وجائزة الشارقة للإبداع العربي، وبينالي الشارقة. هذه جهود كبيرة قامت بها هذه العاصمة منذ عقود طويلة بكل مثابرة وإخلاص، ونرجو أن تحذو المدن العربية حذو هذه المدينة في الإخلاص للثقافة والفنون وخدمتها يوميًّا وليس موسميًّا بكل صدق وإبداع».
عائد ثقافي كبير
في حين يقول الروائي والناشر الأردني إلياس فركوح: إنه بناءً على البرامج التي وضعتها الجهات الحكومية في الشارقة، «ذات الصلة بالثقافة وبالتالي بالكتاب، وشرعت بتنفيذ خطواتها من أجل تعميم ثقافة القراءة بتوفير الكتاب مجانًا لطلبة المدارس، بكافة مراتبهم العُمْرية، وفرز اللجان المختصة بالاختيارات الملائمة لكل مرحلة ومواءمتها لمستوى النضج؛ أقول: بناءً على هذا المشروع الواضح في هدفه من جهة، والقابل للتطبيق العملي من حيث وفرة التمويل المالي من جهة ثانية، وتجييش لجان مختصة للعمل على إنجاز خطواته المتدرجة مرحلة مرحلة من جهة ثالثة؛ فإني أرى في هذا الأمر عائدًا ثقافيًّا على المدى القصير والطويل. عائدًا يشمل جميع فئات المجتمع المستهدفة بهذا المشروع الذي آمل في استمراره على نحو إستراتيجي». ويقول أيضًا: أما أن نأمل في ترويج الكتاب العربي من خلال هذا الاختيار؛ فلن أضحك على نفسي، أو أخدعها – إذ أقول بصراحة ومن غير حَرَج: إذا لم تبدأ بقية المدن العربية وعواصمها، أسوة بما تفعله الشارقة، بالالتفات إلى الكتاب بوصفه عنصرًا أساسيًّا ومؤسسًا لأجيال قادمة تأخذ بالكتاب منارة وعي جديد، من أجل فضاءات اجتماعية ذات طموحات جديدة مغايرة لحزمة «الأوهام» التي عشناها وسط فوضى المفاهيم؛ فلسوف تتحوّل إلى مجرد «صرخة في العراء!».
بمثابة معرض فرانكفورت
الروائي المصري أشرف أبو اليزيد يذكر أنه في فضاء الثقافة «ينظر المبدعون بتوجه شديد لمفردة «سلعة» كأن تسليع الثقافة جريمة، أو امتهان، أو حط من قدر الإبداع، وهي نظرة غير مكتملة؛ لأن أحد شروط الإبداع هو الاستمرارية، وهي –خاصة- تتحقق حين يستمر دعمها، وإثراء دورتها الاقتصادية، فتجد المسارح من يدخلها، وتعثر المنتجات الموسيقية على مشترين، وتجد الكتب من يبحث عنها ويدفع من أجل اقتنائها. الكتاب كمحتوى قبل الطبع هو فكرة في الأدراج، لكنه حين يُطبع يتحول إلى سلعة ثقافية، تحتاج إلى سوق مناسبة، يستطيع فيها الأطراف جميعًا؛ المؤلف (المنتِج) ودور النشر (الوسيط الإنتاجي) والمتلقي إكمال تلك الدورة بنجاح. قد ازدهرت في العقد الأخير المعارض العصرية التي استقبلتها عواصم الثقافة في الخليج العربي، وأصبحت سوقًا حية للكتاب، وتضاعفت فعالياتها الموازية لتتحول إلى حدث ثقافي محرك وفاعل للمستقبل، وارتبطت بمواعيد معارض الكتب الدولية مسابقات ومؤتمرات، وتحولت تلك المعارض إلى مناسبات حقيقية للعرس الثقافي. من هنا أنظر إلى اختيار الشارقة عاصمة عالمية للكتاب عام 2019م كمحصلة بدهية؛ لأن البنية التحتية استطاعت أن تدعم الفكرة، واستقطب التنافس القادرين على الفوز، ضمن شروط محددة، ولا يفوز تاريخ بثقل الماضي وحده، بل بالقدرة على التجديد كمبدع، أرى أنها فرصة لا تقل أهمية عن تخصيص معرض فرانكفورت قبل سنوات موسمه للأدب العربي، فالسوق المنفتحة على الآخر تقدم رياحًا يجب على أشرعتنا أن تستفيد من قوتها، وأن نبتعد من الفرح بالشكل وحسب، بل نسأل سؤالًا واحدًا: ماذا نريد لكي نروج لمنتجنا الإبداعي؟ هنا تتعدد الإجابات، وتنشط الخطط، وتتضافر الجهود من أجل قوة دفع تتجاوز 2019م لأعوام بعدها، وربما لعقود، إذا أحسنّا الاستعداد والتنفيذ والمشاركة.
المنشورات ذات الصلة
معرض الرياض الدولي للكتاب يختتم فعالياته كتب جديدة وندوات وحوارات وورش جذبت جمهورًا واسعًا
قد لا تتوافر أرقام دقيقة حول الأعداد الكبيرة التي ترددت على معرض الرياض الدولي للكتاب، ولا ما أنفقته هذه الأعداد من...
«زرقاء اليمامة» أوبرا تراجيدية… تنتصر للمرأة وتنفتح على المستقبل
لحظة بدت شديدة الطموح إلى مخاطبة العالم عبر أوبرا سعودية، تأخذ بأهم ما في الأوبرا العالمية من سمات جمالية ومواصفات...
“لقاء مارس 02: تواشجات” دعوة إلى إعادة تصور مستقبل أكثر شمولًا وإنصافًا
فيما يشبه الالتزام الأخلاقي والجمالي، تبنى لقاء مارس السنوي، الذي تنظمه مؤسسة الشارقة للفنون، في دورته الجديدة التي...
0 تعليق