المقالات الأخيرة

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند راسل الأخير «النظرة العلمية». نقتبس منها ما يلي: «يبدو الآن أنه بدأ يخشى من «المنظمة العلمية للإنسانية» (نوع من الدولة البلشفية بقيادة جي جي [طومسون]...

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

يلاحظ المهتم بالأدب الروسي أن معظم الكتّاب الروس الكبار خاضوا في ميدان الكتابة للأطفال، بدءًا من شيخ كتّاب روسيا ليف تولستوي، الذي أغنى مكتبة الأطفال وقدم كتبًا لمختلف الأعمار، هي عبارة عن حكايات شعبية وقصص علمت الحب، واللطف، والشجاعة والعدالة. نذكر منها «الدببة...

الأدب والفلسفة

الأدب والفلسفة

هناك طريقتان للتعامل مع مشكل علاقة الفلسفة بالأدب: الطريقة الأولى، طبيعية تمامًا، وتتمثل في البحث عن الدروس الأخلاقية التي يقدمها الأدب من خلال الشعر والرواية مثلًا، وذلك ما قام به أندريه ستانغوينيك في كتابه «La Morale des Lettres» (أخلاق الحروف)، وأيضًا مارثا...

برايتون

برايتون

... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر لذيذ يعبر رأسه، تخلبه أشتات يوم قديم، يمسك بمعصم ابنه ويسيران إلى خارج المحطة، ينحدر بهما طريق يمتد من محطة القطار ويصب في شاطئ البحر، يقف أمام البحر...

برامج الكتابة الإبداعية في أميركا

بواسطة | مارس 16, 2016 | قضايا

علي-المجنونيليس‭ ‬بخافٍ‭ ‬على‭ ‬مطّلعٍ‭ ‬الاتصال‭ ‬الوثيق‭ ‬بين‭ ‬السياسة‭ ‬والثقافة،‭ ‬فلطالما‭ ‬خدم‭ ‬كل‭ ‬منهما‭ ‬الآخر،‭ ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬يثير‭ ‬الاهتمام‭ ‬حقًّا‭ ‬هو‭ ‬حرصُ‭ ‬بعض‭ ‬المعنيين‭ ‬على‭ ‬التشديد‭ ‬دائمًا‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬ثمة‭ ‬منطقةً‭ ‬منيعةً‭ ‬ضد‭ ‬التدخل‭ ‬السياسيّ‭. ‬هذه‭ ‬المنطقة،‭ ‬بحسب‭ ‬المؤمنين‭ ‬بوجودها،‭ ‬أمينةٌ‭ ‬للإبداع‭ ‬الإنسانيّ‭ ‬المحض‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يولي‭ ‬بغير‭ ‬الفن‭ ‬وشروطه‭ ‬اهتمامًا‭. ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الأساس‭ ‬يُطرح‭ ‬السؤال‭: ‬هل‭ ‬لمنطقةٍ‭ ‬بريئةٍ‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬وجودٌ‭ ‬فعليّ؟‭ ‬هل‭ ‬يتمتع‭ ‬الإبداع‭ ‬بحِمى‭ ‬حصنٍ‭ ‬حصينٍ‭ ‬يتمترس‭ ‬خلفه‭ ‬بعيدًا‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬تدخُّل‭ ‬خارجيّ؟

تشكّل‭ ‬فصول‭ ‬برامج‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية‭ ‬عامة،‭ ‬وفي‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأميركية‭ ‬خاصة،‭ ‬حالة‭ ‬مهمة‭ ‬يمكن‭ ‬الاستشهاد‭ ‬بها‭ ‬لدحض‭ ‬فكرةِ‭ ‬وجودِ‭ ‬منطقةٍ‭ ‬بريئةٍ‭ ‬للإبداع؛‭ ‬ففي‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬يظن‭ ‬بعض‭ ‬المهتمين‭ ‬أنه‭ ‬عندما‭ ‬يجتمع‭ ‬طلابٌ‭ ‬متطلّعون‭ ‬في‭ ‬صف‭ ‬دراسيّ‭ ‬أو‭ ‬تدريبيّ‭ ‬يُعنَى‭ ‬بتدريبهم‭ ‬على‭ ‬أساليب‭ ‬الكتابة‭ ‬الشعرية‭ ‬أو‭ ‬السردية،‭ ‬فإنهم‭ ‬يغدون‭ ‬بمعزل‭ ‬عن‭ ‬التطلعات‭ ‬السياسية‭ ‬أيًّا‭ ‬كان‭ ‬الواقفون‭ ‬خلفها‭. ‬والحق‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬خلاف‭ ‬ذلك؛‭ ‬لأن‭ ‬برامج‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية،‭ ‬بالطريقة‭ ‬التي‭ ‬وُجدت‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأميركية،‭ ‬في‭ ‬واقع‭ ‬الحال‭ ‬جزءٌ‭ ‬لا‭ ‬يتجزأ‭ ‬من‭ ‬صراع‭ ‬دوليّ‭ ‬شرس‭. ‬إن‭ ‬فكرة‭ ‬وجودها‭ ‬في‭ ‬المقام‭ ‬الأول،‭ ‬ثم‭ ‬الاتجاهات‭ ‬الفكرية‭ ‬والجمالية‭ ‬التي‭ ‬تحاول‭ ‬أن‭ ‬تنشرها‭ ‬داخل‭ ‬صف‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية،‭ ‬لَدليلٌ‭ ‬قاطع‭ ‬على‭ ‬تورّط‭ ‬نشاطها‭ ‬في‭ ‬نطاق‭ ‬أوسع‭ ‬من‭ ‬الفنّ‭ ‬بكثير‭. ‬

لقد‭ ‬خضعت‭ ‬برامج‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية‭ ‬خضوعًا‭ ‬غير‭ ‬مباشر‭ ‬لظروف‭ ‬الصراعِ‭ ‬الأيديولوجيّ‭ ‬بين‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأميركية‭ ‬والاتحاد‭ ‬السوفييتيّ‭ ‬الذي‭ ‬أسفر‭ ‬عنه‭ ‬انتهاءُ‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭. ‬شهدت‭ ‬الكليات‭ ‬والجامعات‭ ‬الأميركية‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الحقبة‭ ‬طفرةً‭ ‬غير‭ ‬مسبوقة‭ ‬في‭ ‬برامج‭ ‬الدراسات‭ ‬العليا،‭ ‬جلبت‭ ‬معها‭ ‬وظائفَ‭ ‬هفا‭ ‬إليها‭ ‬الكتّابُ‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬مكان،‭ ‬فجاء‭ ‬ظهورُ‭ ‬برامجِ‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية‭ ‬نتيجةَ‭ ‬إيمانٍ‭ ‬عميقٍ‭ ‬بأن‭ ‬تدريس‭ ‬الكتابة‭ ‬للطلاب‭ ‬الأميركيين،‭ ‬وغير‭ ‬الأميركيين‭ ‬أحيانًا،‭ ‬سيحصّنهم‭ ‬ضد‭ (‬البروباغندا‭) ‬الشيوعية‭. ‬تعليق‭ ‬الأمل‭ ‬على‭ ‬الكتابة‭ ‬كدرعٍ‭ ‬فكريّ‭ ‬وقائيّ‭ ‬يأتي‭ ‬انطلاقًا‭ ‬من‭ ‬مجموعة‭ ‬أُسس،‭ ‬تقدّم‭ ‬في‭ ‬الغالب‭ ‬نظيرًا‭ ‬معاكسًا‭ ‬لكلّ‭ ‬ملامح‭ ‬الثقافة‭ ‬السائدة‭ ‬في‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتيّ؛‭ ‬من‭ ‬الأمثلة‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الأسس‭ ‬أن‭ ‬الأدب،‭ ‬بحسب‭ ‬الرؤية‭ ‬الأميركية،‭ ‬نشاط‭ (‬فردانيٌّ‭) ‬بالضرورة،‭ ‬تحتلّ‭ ‬الإرادة‭ ‬الإنسانية‭ ‬والتجربة‭ ‬الفردية‭ ‬فيه‭ ‬أولويةً‭ ‬وأهميةً‭ ‬كُبريَيْنِ‭. ‬كما‭ ‬رسّخت‭ ‬تلك‭ ‬الرؤيةُ‭ ‬الدعوةَ‭ ‬إلى‭ ‬تفادي‭ ‬التجريدية‭ ‬بوصفها‭ ‬مدرسة‭ ‬فنية‭ ‬جمالية،‭ ‬وقدّمت‭ ‬عوضًا‭ ‬منها‭ ‬النموذج‭ ‬الواقعيّ‭ ‬الذي‭ ‬يحتفي‭ ‬بالذاتيّ‭ ‬واليوميّ‭ ‬والملموس‭. ‬

برامج-الكتابة-الإبداعي٣‬هزيمة‭ ‬الشيوعية

هكذا‭ ‬إذن،‭ ‬جاءت‭ ‬برامج‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية،‭ ‬بوصفها‭ ‬حقلًا‭ ‬معرفيًّا‭ ‬أكاديميًّا‭ ‬يحصل‭ ‬خرِّيجوه‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬ماجستير‭ ‬الفنون‭ ‬الجميلة،‭ ‬كمختبرات‭ ‬لتدريب‭ ‬الكتّاب‭ ‬على‭ ‬الانضباط‭ ‬الذاتيّ‭. ‬ورَعَتْ‭ ‬تلك‭ ‬البرامجَ‭ ‬مجموعةٌ‭ ‬من‭ ‬المؤسسات‭ ‬أخذت‭ ‬على‭ ‬عاتقها‭ ‬مهمة‭ ‬هزيمة‭ ‬الشيوعية‭ ‬ومحاربتها‭ ‬في‭ ‬الداخل‭ ‬والخارج،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬رأت‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية‭ ‬خاصةً،‭ ‬والأدب‭ ‬عامةً،‭ ‬بتعقيداته‭ ‬وتركيباته،‭ ‬درءًا‭ ‬للأفراد‭ ‬من‭ ‬الانجرار‭ ‬بسهولة‭ ‬وراء‭ ‬صيحات‭ ‬شعارات‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتيّ،‭ ‬كما‭ ‬رأت‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬فرصةً‭ ‬مواتية‭ ‬لموازنة‭ ‬الكِفَّة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تميل‭ ‬آنذاك‭ ‬لصالح‭ ‬التقدم‭ ‬في‭ ‬العلوم‭ ‬والتكنولوجيا،‭ ‬الذي‭ ‬أفرز،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬بغير‭ ‬قصد،‭ ‬إرهاصاتٍ‭ ‬سمحت‭ ‬بحدوث‭ ‬كوارثَ‭ ‬هائلة؛‭ ‬دفع‭ ‬الإنسان‭ ‬ثمنها‭ ‬غاليًا‭. ‬

شغل‭ ‬ارتباطُ‭ ‬برامج‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأميركية‭ ‬بالحرب‭ ‬الباردة‭ ‬اهتمامَ‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الباحثين،‭ ‬والملاحظ‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬العاميْنِ‭ ‬الماضيين‭ ‬ظهرت‭ ‬مقالاتٌ‭ ‬وكتبٌ‭ ‬عِدَّة‭ ‬تتناول‭ ‬هذا‭ ‬الشأن‭. ‬ولعلنا‭ ‬نجد‭ ‬تفسيرًا‭ ‬لهذا‭ ‬الاهتمام‭ ‬المتزايد‭ ‬مؤخرًا‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬وثائق‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭ ‬أمست‭ ‬متاحة‭ ‬للبحث‭ ‬والدراسة‭ ‬والتحليل،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬عودة‭ ‬حكومة‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأميركية‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬لنهج‭ ‬دبلوماسية‭ ‬ثقافية‭ ‬بعد‭ ‬أحداث‭ ‬11‭ ‬سبتمبر‭ ‬وانخراط‭ ‬أميركا‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬ضد‭ ‬ما‭ ‬تسميه‭ ‬الإرهاب‭. ‬أحد‭ ‬الذين‭ ‬حاولوا‭ ‬إلقاء‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬علاقة‭ ‬برامج‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية‭ ‬بالحرب‭ ‬الباردة‭ ‬إريك‭ ‬بينيت،‭ ‬وهو‭ ‬كاتبٌ‭ ‬انتظم‭ ‬في‭ ‬تسعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬في‭ ‬برنامج‭ ‬آيوا‭ ‬للكتابة‭ ‬الإبداعية؛‭ ‬أعرق‭ ‬برنامج‭ ‬من‭ ‬نوعه‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭. ‬

في‭ ‬مقالاته‭ ‬الأخيرة‭ ‬وكتابه‭ ‬الصادر‭ ‬عام‭ ‬2015م‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬ورش‭ ‬الإمبراطورية‭: ‬ستغنر،‭ ‬إنغل،‭ ‬والكتابة‭ ‬الإبداعية‭ ‬الأميركية‭ ‬أثناء‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‮»‬‭ ‬تناول‭ ‬بينيت‭ ‬الأرضية‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬لبرامج‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأميركية،‭ ‬عبر‭ ‬تحليل‭ ‬دور‭ ‬وكالة‭ ‬المخابرات‭ ‬المركزية‭ ‬الأميركية‭ ‬في‭ ‬دعم‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬البرامج‭ ‬الثقافية‭ ‬سرِّيًّا‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭. ‬وبالعودة‭ ‬إلى‭ ‬العنوان‭ ‬الفرعيّ‭ ‬لكتابه،‭ ‬نجد‭ ‬أنه‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬اثنين‭ ‬من‭ ‬رُوَّاد‭ ‬برامج‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية؛‭ ‬أولهما‭ ‬والاس‭ ‬ستغنر‭ ‬مدير‭ ‬برنامج‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية‭ ‬في‭ ‬ستانفورد؛‭ ‬ثاني‭ ‬أقدم‭ ‬برامج‭ ‬الكتابة‭ ‬في‭ ‬أميركا،‭ ‬والآخر‭ ‬بول‭ ‬إنغل،‭ ‬مدير‭ ‬برنامج‭ ‬آيوا‭. ‬ولأن‭ ‬برنامج‭ ‬آيوا‭ ‬للكتابة‭ ‬الإبداعية،‭ ‬المذكور‭ ‬آنفًا،‭ ‬يمثّل‭ ‬حالة‭ ‬مركّزة،‭ ‬فإن‭ ‬المرء‭ ‬بوسعه‭ ‬أن‭ ‬يتبيّن‭ ‬الدور‭ ‬الضليع‭ ‬الذي‭ ‬قام‭ ‬به‭ ‬هذا‭ ‬البرنامج‭ ‬الرائد‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة،‭ ‬فلا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬تسليط‭ ‬بعض‭ ‬الضوء‭ ‬عليه‭. ‬

برامج-الكتابة-الإبداعية1

لبرنامج‭ ‬آيوا‭ ‬للكتابة‭ ‬الإبداعية‭ ‬الريادة‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬جميع‭ ‬برامج‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأميركية؛‭ ‬إذ‭ ‬أُنشِئ‭ ‬البرنامج‭ ‬عام‭ ‬1936م‭ ‬بوساطة‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬وكُتَّاب‭ ‬السَّرد‭ ‬تحت‭ ‬اسم‭ ‬Iowa Writers’‭ ‬Workshop‭. ‬يُمنح‭ ‬خريجو‭ ‬البرنامج‭ ‬شهادة‭ ‬ماجستير‭ ‬الفنون‭ ‬الجميلة‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬الإنجليزية،‭ ‬ويرسخ‭ ‬عبر‭ ‬صفوفه‭ ‬قليلة‭ ‬العدد‭ ‬ما‭ ‬يسميه‭ ‬‮«‬الانضباط‭ ‬الذاتي‮»‬‭ ‬لدى‭ ‬الكاتب‭ ‬الذي‭ ‬يعينه‭ ‬وهو‭ ‬يشرع‭ ‬في‭ ‬الدخول‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬الكتابة‭ ‬الاحترافية‭ ‬والنشر‭. ‬يوجد‭ ‬اليوم‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬خمس‭ ‬مئة‭ ‬برنامج‭ ‬للكتابة‭ ‬الإبداعية‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأميركية‭ ‬وحدها،‭ ‬أكثرها‭ ‬أسسه‭ ‬خريجو‭ ‬برنامج‭ ‬آيوا‭. ‬ولا‭ ‬يختلف‭ ‬برنامج‭ ‬آيوا‭ ‬كثيرًا‭ ‬عن‭ ‬البرامج‭ ‬المشابهة‭ ‬له،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬سواها‭ ‬من‭ ‬البرامج‭ ‬المنتشرة‭ ‬في‭ ‬سائر‭ ‬العالم،‭ ‬لكن‭ ‬قيمته‭ ‬تكمن،‭ ‬كما‭ ‬أسلفت،‭ ‬في‭ ‬ريادته‭ ‬وفي‭ ‬الأثر‭ ‬العظيم‭ ‬الذي‭ ‬تركه،‭ ‬ولا‭ ‬يزال،‭ ‬على‭ ‬الأدب‭ ‬والأدباء‭ ‬الأميركيين‭. ‬ولما‭ ‬للبرنامج‭ ‬من‭ ‬مكانة‭ ‬مرموقة،‭ ‬يتباهى‭ ‬خريجوه‭ ‬بانضمامهم‭ ‬له‭ ‬وبعبورهم‭ ‬عالمَ‭ ‬الكتابة‭ ‬الاحترافية‭ ‬بوساطته؛‭ ‬لهذا‭ ‬السبب‭ ‬أيضا‭ ‬أغوى‭ ‬البرنامجُ‭ ‬عبر‭ ‬السنين‭ ‬قائمة‭ ‬طويلة‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬الأميركيين،‭ ‬لعل‭ ‬أهمهم‭ ‬تشارلز‭ ‬رايت،‭ ‬وبول‭ ‬هاردنغ،‭ ‬وغين‭ ‬سمايلي،‭ ‬وساندرا‭ ‬سيسنيرو،‭ ‬وغيرهم‭. ‬كما‭ ‬درّس‭ ‬في‭ ‬البرنامج‭ ‬زمرة‭ ‬من‭ ‬أعلى‭ ‬الأدباء‭ ‬الأميركيين‭ ‬مكانةً؛‭ ‬من‭ ‬أمثال‭ ‬الشاعر‭ ‬والروائي‭ ‬روبرت‭ ‬بن‭ ‬وارن،‭ ‬والشاعر‭ ‬فيليب‭ ‬ليفين،‭ ‬والروائي‭ ‬فيليب‭ ‬روث،‭ ‬والشاعر‭ ‬مارك‭ ‬ستراند،‭ ‬وأخيرًا‭ ‬الروائية‭ ‬ميريلين‭ ‬روبنسن‭. ‬

برامج-الكتابة-الإبداعية4

بول إنغل وعائلته

‭‬محارب‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة

لا‭ ‬يكاد‭ ‬يُذكر‭ ‬برنامج‭ ‬آيوا‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬ذكر‭ ‬بول‭ ‬إنغل،‭ ‬الذي‭ ‬ضمّن‭ ‬بينيت‭ ‬اسمه‭ ‬في‭ ‬عنوان‭ ‬كتابه‭ ‬الفرعيّ،‭ ‬ثاني‭ ‬من‭ ‬استلم‭ ‬مهامّ‭ ‬إدارة‭ ‬الورشة،‭ ‬وهو‭ ‬رجل‭ ‬عصامي‭ ‬من‭ ‬آيوا،‭ ‬كثيرًا‭ ‬ما‭ ‬وُصف‭ ‬بأنه‭ ‬‮«‬محارب‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‮»‬‭. ‬قبل‭ ‬انضمام‭ ‬إنغل‭ ‬لبرنامج‭ ‬آيوا‭ ‬تجاذبته‭ ‬الأفكارُ‭ ‬والأهواء‭ ‬السياسية‭ ‬والحركات‭ ‬الفكرية،‭ ‬وتقلّب‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬واحدة‭ ‬ردحًا‭ ‬من‭ ‬الزمن،‭ ‬حتى‭ ‬حينما‭ ‬انتهت‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬وجد‭ ‬نفسه‭ ‬يسير‭ ‬مع‭ ‬التيار‭ ‬المناوئ‭ ‬للشيوعية‭. ‬في‭ ‬حقبة‭ ‬إدارة‭ ‬إنغل،‭ ‬التي‭ ‬استمرت‭ ‬مدة‭ ‬أربعة‭ ‬وعشرين‭ ‬عامًا‭ ‬بدءًا‭ ‬من‭ ‬1941م،‭ ‬أضحى‭ ‬البرنامجُ‭ ‬علامةً‭ ‬فارقةً‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الثقافيّ‭ ‬الأميركيّ،‭ ‬حتى‭ ‬طبقت‭ ‬شهرتُه‭ ‬فيما‭ ‬بعدُ‭ ‬الآفاقَ‭. ‬جديرٌ‭ ‬بالذكر‭ ‬أن‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬يتبادر‭ ‬إلى‭ ‬الذهن‭ ‬عند‭ ‬سماع‭ ‬اسم‭ ‬إنغل‭ ‬قدرتُه‭ ‬الفائقة‭ ‬على‭ ‬تحصيل‭ ‬التبرعات‭ ‬للبرنامج‭ ‬وجلب‭ ‬الداعمين‭. ‬

لقد‭ ‬استحلب‭ ‬إنغل‭ ‬جيوبَ‭ ‬رجالِ‭ ‬الأعمال‭ ‬من‭ ‬الحزب‭ ‬المحافظ‭ ‬مستغلًّا‭ ‬عداءهم‭ ‬غير‭ ‬المشروط‭ ‬للبروباغندا‭ ‬الشيوعية‭ ‬التي‭ ‬يصدّرها‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتيّ؛‭ ‬أقنعهم‭ ‬بأن‭ ‬برنامج‭ ‬آيوا‭ ‬يحمي‭ ‬القيم‭ ‬الديمقراطية‭ ‬في‭ ‬داخل‭ ‬أميركا‭ ‬وفي‭ ‬خارجها‭. ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬داعمي‭ ‬برنامج‭ ‬آيوا‭ ‬مؤسسةُ‭ ‬روكفيلر‭ ‬المشهورة‭ ‬التي‭ ‬ضخّت‭ ‬أربعين‭ ‬ألف‭ ‬دولار،‭ ‬مبلغ‭ ‬ضخم‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬لصالح‭ ‬البرنامج‭ ‬إبّان‭ ‬حقبة‭ ‬إدارة‭ ‬إنغل‭. ‬كما‭ ‬قامت‭ ‬المجلات‭ ‬والدوريات‭ ‬الثقافية،‭ ‬بإيعاز‭ ‬من‭ ‬إنغل،‭ ‬بدور‭ ‬واسع‭ ‬في‭ ‬الدعاية‭ ‬للبرنامج‭ ‬والترويج‭ ‬لنشاطه‭. ‬في‭ ‬آيوا‭ ‬هُيِّئ‭ ‬المكان‭ ‬لجذب‭ ‬الكُتَّاب،‭ ‬واحتُفي‭ ‬بالكُتَّاب‭ ‬المنضمين‭ ‬للورشة‭ ‬عبر‭ ‬نشر‭ ‬قصصهم‭ ‬وقصائدهم‭ ‬في‭ ‬أرفع‭ ‬المجلات‭ ‬الأدبية،‭ ‬وأقيمت‭ ‬الفعاليات‭ ‬الكثيرة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬دائمًا‭ ‬تحمل‭ ‬على‭ ‬عاتقها‭ ‬الاضطلاع‭ ‬بدور‭ ‬مهم‭ ‬في‭ ‬نقد‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتيّ،‭ ‬وإذكاء‭ ‬الرُّوح‭ ‬الوطنية‭ ‬الأميركية‭. ‬

لكن‭ ‬دور‭ ‬التمويل‭ ‬لم‭ ‬يقتصر‭ ‬بحال‭ ‬من‭ ‬الأحوال‭ ‬على‭ ‬رجال‭ ‬الأعمال‭ ‬من‭ ‬اليمين‭ ‬المحافظ،‭ ‬بل‭ ‬ساهمت‭ ‬فيه‭ ‬جهات‭ ‬حكومية‭ ‬على‭ ‬رأسها‭ ‬وكالة‭ ‬المخابرات‭ ‬المركزية‭ ‬في‭ ‬مقالة‭ ‬مثيرة‭ ‬للجدل،‭ ‬نشرها‭ ‬موقع‭ ‬The Chronicle of Higher Education‭ ‬قبل‭ ‬عامين‭ ‬بعنوان‭: ‬‮«‬كيف‭ ‬سطّحت‭ ‬آيوا‭ ‬الأدبَ‮»‬‭ ‬وصف‭ ‬إيريك‭ ‬بينيت‭ ‬الكُتَّاب‭ ‬الملتحقين‭ ‬ببرنامج‭ ‬آيوا‭ ‬بالمجنَّدين‭ ‬الذين‭ ‬جُندوا‭ ‬بمساعدة‭ ‬وكالة‭ ‬المخابرات‭ ‬المركزية؛‭ ‬للمحاربة‭ ‬على‭ ‬جبهتين‭: ‬جبهة‭ ‬عسكرية‭ (‬البروباغندا‭ ‬الشيوعية‭)‬،‭ ‬وأخرى‭ ‬جمالية‭ (‬التجريد‭). ‬بوضعه‭ ‬برنامج‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية‭ ‬في‭ ‬سياقه‭ ‬السياسيّ،‭ ‬رأى‭ ‬بينيت‭ ‬أن‭ ‬الكتابة‭ ‬تضررت‭ ‬بفعل‭ ‬إغداق‭ ‬الأموال‭ ‬الحكومية‭ ‬على‭ ‬البرنامج،‭ ‬منتقدًا‭ ‬ما‭ ‬غدا‭ ‬يُعرَف‭ ‬في‭ ‬الأوساط‭ ‬الثقافية‭ ‬بـ«نموذج‭ ‬آيوا‮»‬‭ ‬الكتابي‭.‬

أخذ‭ ‬بينيت‭ ‬على‭ ‬البرنامج‭ ‬تحديدًا‭ ‬الرؤيةَ‭ ‬الضيقةَ‭ ‬المحبطة‭ ‬التي‭ ‬تُدرَّس‭ ‬في‭ ‬ورشة‭ ‬آيوا،‭ ‬وحجم‭ ‬التفاعل‭ ‬الثقافيّ‭ ‬المختزل،‭ ‬وضيق‭ ‬التعريف‭ ‬المعتمد‭ ‬هناك‭ ‬بما‭ ‬هو‭ ‬أدبيّ‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬غير‭ ‬ذلك‭. ‬وارتكز‭ ‬على‭ ‬تجربته‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬الدراسة‭ ‬في‭ ‬آيوا؛‭ ‬إذ‭ ‬الخيارات‭ ‬الفنية‭ ‬والجمالية‭ ‬المتاحة‭ ‬أمام‭ ‬الكاتب‭ ‬محدودة،‭ ‬ويتبعها‭ ‬المدرسون‭ ‬وخريجو‭ ‬البرنامج‭ ‬بولاء‭ ‬وتفانٍ‭ ‬أعميَيْنِ‭. ‬تلك‭ ‬الخيارات‭ ‬شكّلت‭ ‬قوالبَ‭ ‬يمكن‭ ‬اتباعها‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬كتابة‭ ‬روايات‭ ‬رائجة‭ ‬وناجحة،‭ ‬لكن‭ ‬حسب‭ ‬مقاييس‭ ‬ضيقة؛‭ ‬أصبحت‭ ‬تعتمدها‭ ‬سوق‭ ‬الكتاب‭ ‬الإبداعيّ‭. ‬

أما‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالتمويل،‭ ‬فقد‭ ‬انطلق‭ ‬بينيت‭ ‬من‭ ‬حقيقة‭ ‬مضمونها‭ ‬أن‭ ‬المخابرات‭ ‬الأميركية‭ ‬قامت‭ ‬بتمويل‭ ‬برنامج‭ ‬آيوا؛‭ ‬إذ‭ ‬ضخَّت‭ ‬لصالح‭ ‬البرنامج‭ ‬مؤسسة‭ ‬فارفيلد،‭ ‬وهي‭ ‬بحسب‭ ‬وصف‭ ‬بينيت‭ ‬‮«‬جبهة‭ ‬مرتبطة‭ ‬بوكالة‭ ‬المخابرات‭ ‬المركزية‭ ‬تُعنَى‭ ‬بالعمليات‭ ‬الثقافية‮»‬‭ ‬عبر‭ ‬العالم،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬منظمة‭ ‬تدعى‭ ‬‮«‬الكونغرس‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الحرية‭ ‬الثقافية‮»‬‭ ‬آلاف‭ ‬الدولارات‭. ‬كان‭ ‬إلحاح‭ ‬إنغل‭ ‬عاملًا‭ ‬مهمًّا‭ ‬في‭ ‬تحصيل‭ ‬ذلك‭ ‬الدعم‭ ‬وغيره‭. ‬مما‭ ‬أورده‭ ‬بينيت‭ ‬رسالةٌ‭ ‬بعثها‭ ‬إنغل‭ ‬إلى‭ ‬مؤسسة‭ ‬روكفيلر‭ ‬يقول‭ ‬فيها‭: ‬‮«‬إنني‭ ‬واثق‭ ‬من‭ ‬أنكم‭ ‬قد‭ ‬شاهدتم‭ ‬مؤخرًا‭ ‬الإعلان‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتيّ‭ ‬يؤسّس‭ ‬جامعةً‭ ‬في‭ ‬موسكو‭ ‬تستقبل‭ ‬الطلاب‭ ‬القادمين‭ ‬من‭ ‬خارج‭ ‬الدولة‮»‬‭. ‬أبدى‭ ‬إنغل‭ ‬في‭ ‬الرسالة‭ ‬مخاوفه‭ ‬من‭ ‬‮«‬التلقين‭ ‬الأيديولوجيّ‭ ‬المتوقع‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬سيتلقاه‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الجامعة‭ ‬آلافُ‭ ‬الشباب‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬يكونوا‭ ‬قادرين‭ ‬على‭ ‬تأمين‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬تعليم‭ ‬أكاديميّ‭ ‬من‭ ‬قبلُ‭. ‬لمَّح‭ ‬إلى‭ ‬خطورة‭ ‬قَوْلبة‭ ‬الطلاب‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬واحد‭ ‬مراقب،‭ ‬وعَدَّ‭ ‬ذلك‭ ‬تكتيكًا‭ ‬سوفييتيًّا‭ ‬مألوفًا،‭ ‬ثم‭ ‬ألحَّ‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬أنْ‭ ‬تنافس‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأميركية‭ ‬الاتحادَ‭ ‬السوفييتيّ‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المضمار‭ ‬الحيويّ،‭ ‬وإن‭ ‬اضطرت‭ ‬إلى‭ ‬تأسيس‭ ‬مكان‭ ‬واحد‭ ‬ومراقب‭ ‬مثل‭ ‬الذي‭ ‬يُشرف‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬آيوا‭. ‬وفي‭ ‬رسالة‭ ‬أخرى‭ ‬منه‭ ‬إلى‭ ‬وكالة‭ ‬المخابرات‭ ‬المركزية،‭ ‬وعد‭ ‬إنغل‭ ‬الوكالة‭ ‬ببناء‭ ‬برنامج‭ ‬للطلاب‭ ‬الأميركيين‭ ‬والأجانب‭ ‬على‭ ‬السواء‭ ‬يكون‭ ‬‮«‬بعيدًا‭ ‬من‭ ‬المحيطَيْن‮»‬‭ ‬وفي‭ ‬‮«‬قلب‭ ‬الوسط‭ ‬الغربيّ‭ ‬الأميركيّ‮»‬؛‭ ‬ليعلمهم‭ ‬أميركا‭ ‬الحقيقية؛‭ ‬في‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬موقع‭ ‬ولاية‭ ‬آيوا‭ ‬الجغرافيّ‭ ‬من‭ ‬جسد‭ ‬أميركا‭. ‬

.

.

برامج-الكتابة-الإبداعية5


بول إنغل يقرأ وسط مجموعة من الطلاب في ورشة آيوا للكتّاب في الخمسينيات

السياسة‭ ‬والأيديولوجيا

بحسب‭ ‬النقد‭ ‬الجديد،‭ ‬تكون‭ ‬الملامح‭ ‬الأيديولوجيّة‭ ‬للعمل‭ ‬الأدبيّ‭ ‬في‭ ‬أحسن‭ ‬الأحوال‭ ‬عديمة‭ ‬الصلة‭ ‬بالقيم‭ ‬الجمالية‭ ‬التي‭ ‬يحملها‭. ‬وإن‭ ‬استطاعت‭ ‬الظهور‭ ‬أو‭ ‬التدخل‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬القيم‭ ‬فهي‭ ‬عنصر‭ ‬غير‭ ‬مرغوب‭ ‬فيه‭ ‬ودخيل‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬إبداعيًّا‭ ‬محضًا‭ ‬ومتخيَّلًا‭ ‬صِرفًا‭. ‬وعلى‭ ‬هذا‭ ‬الأساس،‭ ‬مُنح‭ ‬مصطلحُ‭ ‬الأيديولوجيا‭ ‬دلالاتٍ‭ ‬سلبيةً‭ ‬بالضرورة،‭ ‬وتكاد‭ ‬تكون‭ ‬شيطانية،‭ ‬وارتبط‭ ‬ارتباطًا‭ ‬وثيقًا‭ ‬بالشيوعية،‭ ‬ولهذا‭ ‬تماشى‭ ‬هذا‭ ‬التصور‭ ‬مع‭ ‬حالة‭ ‬الذعر‭ ‬التي‭ ‬عاشها‭ ‬المجتمع‭ ‬الأميركيّ‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭. ‬بطريقة‭ ‬ما،‭ ‬كان‭ ‬المصطلح‭ ‬يعادل‭ ‬مصطلح‭ ‬‮«‬السياسة‮»‬‭ ‬سيئ‭ ‬الذِّكْر‭ ‬آنذاك‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬مفارقة‭ ‬كبرى‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تجاوزها‭ ‬بسهولة‭ ‬كما‭ ‬ذكرت‭ ‬للتو،‭ ‬وهي‭ ‬أن‭ ‬محاولة‭ ‬عزل‭ ‬الأدب‭ ‬عن‭ ‬السياسة،‭ ‬وعزل‭ ‬الفن‭ ‬عن‭ ‬الأيديولوجيا،‭ ‬إنما‭ ‬هي‭ ‬محاولة‭ ‬سياسية‭ ‬وأيديولوجيّة‭ ‬بامتياز‭. ‬ويمكن‭ ‬القول‭: ‬إن‭ ‬مصطلحًا‭ ‬مثل‭ ‬الأيديولوجيا‭ ‬تعرّض‭ ‬لأَدْلَجة‭ ‬صارخة،‭ ‬وتشويه‭ ‬متعمّد‭ ‬أُريدَ‭ ‬منه‭ ‬ترسيخ‭ ‬فوبيا‭ ‬الشيوعية‭ ‬لدى‭ ‬المجتمع‭ ‬الأميركيّ‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭. ‬

لم‭ ‬تألُ‭ ‬الحكومة‭ ‬الفيدرالية‭ ‬جهدًا‭ ‬في‭ ‬محاربة‭ ‬الشيوعية‭ ‬على‭ ‬الأصعدة‭ ‬كافة،‭ ‬وضخّت‭ ‬أموالًا‭ ‬طائلة‭ ‬إلى‭ ‬التعليم‭ ‬العالي‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬آمنت‭ ‬أنها‭ ‬تخوض‭ ‬مع‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتيّ‭ ‬معركة‭ ‬أفكار‭. ‬لقد‭ ‬عوَّلت‭ ‬الحكومة‭ ‬الأميركية‭ ‬كثيرًا‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬وما‭ ‬أعقبها،‭ ‬على‭ ‬الجامعة‭ ‬بوصفها‭ ‬حاضنة‭ ‬للشباب،‭ ‬وركزت‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يتلقّاه‭ ‬الطلاب‭ ‬الجامعيون‭ ‬في‭ ‬الصفّ‭ ‬الأكاديميّ‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬لقاحًا‭ ‬ضدّ‭ ‬الموجات‭ ‬الفكرية‭ ‬التي‭ ‬تتناهب‭ ‬الشباب‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الأرض‭. ‬وكان‭ ‬الإعلام‭ ‬يقوم‭ ‬بالدور‭ ‬نفسه‭ ‬على‭ ‬جبهة‭ ‬أخرى؛‭ ‬إذ‭ ‬عمل‭ ‬على‭ ‬استثمار‭ ‬المخاوف‭ ‬والآمال‭ ‬التي‭ ‬وسمت‭ ‬حقبة‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬المجلات‭ ‬حماسةً‭ ‬للخطوات‭ ‬التحصينية‭ ‬ضد‭ ‬المشروع‭ ‬الشيوعيّ،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬مشروع‭ ‬ورشة‭ ‬آيوا،‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬تايم‮»‬‭ ‬ذائعة‭ ‬الصيت‭. ‬
.

.

‬تصور‭ ‬فقير‭ ‬منزوع‭ ‬الإنسانية‭ ‬للعلم

على‭ ‬نطاق‭ ‬أوسع‭ ‬من‭ ‬دائرة‭ ‬البرنامج،‭ ‬ركز‭ ‬الخطاب‭ ‬السائد‭ ‬في‭ ‬أميركا‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬في‭ ‬النَّيْل‭ ‬من‭ ‬الخطاب‭ ‬الشيوعيّ،‭ ‬ووصمه‭ ‬بالخطاب‭ ‬الأيديولوجيّ‭ ‬المحض‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬تناقض‭ ‬كبير؛‭ ‬إذ‭ ‬سعت‭ ‬الجهود‭ ‬التي‭ ‬قامت‭ ‬بها‭ ‬جهات‭ ‬ومؤسسات‭ ‬مختلفة‭ ‬إلى‭ ‬تضخيم‭ ‬خطر‭ ‬الأيديولوجيا،‭ ‬لكن‭ ‬أيديولوجيا‭ ‬الشيوعية‭ ‬فقط،‭ ‬كأن‭ ‬الخطاب‭ ‬المناهض‭ ‬للشيوعية‭ ‬ليس‭ ‬أيديولوجيًّا‭. ‬أهم‭ ‬المؤسسات‭ ‬التي‭ ‬رفدت‭ ‬هذا‭ ‬الخطاب‭ ‬المتناقض‭ ‬المؤسسة‭ ‬الأكاديمية‭. ‬ففي‭ ‬الأربعينيات‭ ‬والخمسينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬ظهر‭ ‬دعاة‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬‮«‬النقد‭ ‬الجديد‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬مدرسة‭ ‬في‭ ‬النقد‭ ‬الأدبيّ‭ ‬تميل‭ ‬إلى‭ ‬تقدير‭ ‬التعقيد‭ ‬الشكلانيّ‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬الأدبيّ،‭ ‬وعزله‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬خارج‭ ‬النصّ‭. ‬تصب‭ ‬مدرسة‭ ‬النقد‭ ‬الجديد‭ ‬تركيزها‭ ‬عند‭ ‬دراسة‭ ‬العمل‭ ‬الأدبيّ‭ ‬على‭ ‬‮«‬الكلمات‭ ‬على‭ ‬الصفحة‮»‬‭ ‬،‭ ‬وتنطلق‭ ‬من‭ ‬مسلمات‭ ‬أهمهُّا‭ ‬أن‭ ‬اللغةَ‭ ‬الأدبية‭ ‬شكلٌ‭ ‬خاصّ‭ ‬يعمل‭ ‬بشكل‭ ‬مختلف‭ ‬عن‭ ‬باقي‭ ‬الاستخدامات‭ ‬اللغوية،‭ ‬كما‭ ‬هي‭ -‬أيضًا‭- ‬مُباينةٌ‭ ‬للغة‭ ‬العلمِ‭ ‬الحرفيةِ‭ ‬والمباشِرة‭ ‬في‭ ‬الدلالة‭. ‬

دفع‭ ‬مؤسسيي‭ ‬النقد‭ ‬الجديد‭ ‬نفورٌ‭ ‬من‭ ‬العلم‭ ‬والعقلانية‭ ‬اللذين‭ ‬احتَفَتْ‭ ‬بهما‭ ‬الرأسمالية؛‭ ‬لأنهما‭ ‬قدَّما‭ ‬تصورًا‭ ‬فقيرًا‭ ‬ومنزوع‭ ‬الإنسانية‭ ‬عن‭ ‬العالم‭ ‬بعيدًا‭ ‬من‭ ‬الرُّوحانية‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬السحر؛‭ ‬لذلك‭ ‬ركزت‭ ‬مقاربتهم‭ ‬في‭ ‬استقصاء‭ ‬العناصر‭ ‬التي‭ ‬تصبغ‭ ‬الأدبية‭ ‬على‭ ‬نص‭ ‬ما،‭ ‬والنتيجة‭ ‬أن‭ ‬أوْلت‭ ‬مقاربتهم‭ ‬اللغةَ‭ ‬المجازيةَ،‭ ‬والمفارقةَ،‭ ‬والغموضَ‭ ‬اهتمامًا‭ ‬كبيرًا‭. ‬هكذا‭ ‬أحال‭ ‬الاحتكامُ‭ ‬إلى‭ ‬قيم‭ ‬جمالية‭ ‬محضة‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬تحليل‭ ‬النصوص‭ ‬وتأويلها‭ ‬الأدبَ‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬مختلق‭ ‬من‭ ‬صنع‭ ‬الخيال‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬قُطعت‭ ‬أطنابُ‭ ‬السياقات‭ ‬التي‭ ‬نشأ‭ ‬فيها‭ ‬وعُدَّت‭ ‬التأويلات‭ ‬الخارجية‭ ‬للأدب‭ ‬باطلة؛‭ ‬لأن‭ ‬العالم‭ ‬الواقعيّ‭ ‬منفصل‭ ‬عن‭ ‬الأدب‭. ‬رفض‭ ‬النقدُ‭ ‬الجديدُ‭ ‬المناهجَ‭ ‬النقدية‭ ‬التي‭ ‬سبقته‭ (‬مثل‭: ‬النقد‭ ‬التاريخيّ،‭ ‬والنقد‭ ‬الماركسيّ،‭ ‬ونقد‭ ‬التحليل‭ ‬النفسيّ،‭ ‬والنقد‭ ‬البيوغرافيّ،‭ ‬ونقد‭ ‬استجابة‭ ‬القارئ‭) ‬بوصفها‭ ‬خاطئة،‭ ‬متّهمًا‭ ‬إياها‭ ‬بمساواة‭ ‬الأدبيّ‭ ‬بما‭ ‬ليس‭ ‬أدبيًّا‭. ‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المدرسة‭ ‬فقدت‭ ‬لاحقًا‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬وَهَجها‭ ‬بفضل‭ ‬حركات‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬البنيوية،‭ ‬فإنها‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تشكّل‭ ‬حضورًا‭ ‬قويًّا‭ ‬في‭ ‬الأكاديميا‭ ‬والثقافة‭ ‬بشكل‭ ‬عامّ؛‭ ‬إذ‭ ‬يركن‭ ‬إليها‭ ‬كثيرٌ‭ ‬ممن‭ ‬يؤمن‭ ‬بأن‭ ‬النص‭ ‬الأدبيّ‭ ‬وَحْدَة‭ ‬مستقلّة‭ ‬من‭ ‬الإبداع‭ ‬الإنسانيّ‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬منعزلةً‭ ‬عن‭ ‬السياقات‭ ‬المختلفة‭ ‬التي‭ ‬أُنتج‭ ‬فيها‭ ‬العمل،‭ ‬وأن‭ ‬العقل‭ ‬المبدع‭ ‬يحظى‭ ‬باستقلال‭ ‬ذاتيّ‭ ‬له‭ ‬كامل‭ ‬الفضل‭ ‬في‭ ‬إبداع‭ ‬العمل‭ ‬الفنيّ‭ ‬أو‭ ‬الأدبيّ‭. ‬وتنسحب‭ ‬هذه‭ ‬الاستقلالية‭ ‬على‭ ‬العمل‭ ‬الأدبيّ‭ ‬نفسه؛‭ ‬إذ‭ ‬ينطوي‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يحتاجه‭ ‬المتلقي‭ ‬لفهم‭ ‬العمل‭ ‬وتذوُّقه‭ ‬وتقديره‭. ‬ساهم‭ ‬في‭ ‬انتشار‭ ‬النقد‭ ‬الجديد‭ ‬مواءمتُه‭ ‬للمنظمات،‭ ‬وما‭ ‬تشيعه‭ ‬من‭ ‬أفكار‭ ‬واللغة‭ ‬السياسية‭ ‬التي‭ ‬تنتمي‭ ‬لها‭. ‬بالنسبة‭ ‬لتلك‭ ‬المنظمات،‭ ‬حكوماتٍ‭ ‬كانت‭ ‬أو‭ ‬مؤسساتٍ‭ ‬ثقافيةً،‭ ‬فإن‭ ‬الرؤية‭ ‬التي‭ ‬يقوم‭ ‬عليها‭ ‬النقد‭ ‬الجديد‭ ‬مريحة‭ ‬وغير‭ ‬مزعجة؛‭ ‬لأنها‭ ‬مأمونة‭ ‬الجانب‭ ‬ومتوقعة‭ ‬التصرفات‭. ‬

برامج-الكتابة-الإبداعية7

وحين‭ ‬حدثت‭ ‬طفرة‭ ‬التعليم‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة؛‭ ‬برزت‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬مناهج‭ ‬فعَّالة‭ ‬وعملية‭ ‬لمقاربة‭ ‬الأدب‭ ‬وتدريسه،‭ ‬فالارتفاع‭ ‬المفاجئ‭ ‬والسريع‭ ‬لِقَبول‭ ‬الطلاب‭ ‬في‭ ‬صفوف‭ ‬الأدب‭ ‬في‭ ‬أقسام‭ ‬اللغة‭ ‬الإنجليزية‭ ‬حينما‭ ‬انتهت‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية؛‭ ‬أفضى‭ ‬إلى‭ ‬صفوف‭ ‬متكدّسة‭ ‬ومدرسين‭ ‬تعوزهم‭ ‬الخبرة‭. ‬وهنا‭ ‬تكمن‭ ‬أهمية‭ ‬النقد‭ ‬الجديد‭ ‬في‭ ‬كونه‭ ‬يقدّم‭ ‬نموذجًا‭ ‬لتحليل‭ ‬الأدب‭ ‬وتأويله،‭ ‬يتَّسم‭ ‬بأنه‭ ‬مبسّط‭ ‬ومعياريّ،‭ ‬وأهم‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬كلِّه‭ ‬سهل‭ ‬التدريس‭. ‬كما‭ ‬واكب‭ ‬هذه‭ ‬التطورات‭ ‬الأكاديمية‭ ‬ميلٌ‭ ‬إلى‭ ‬الاعتقاد‭ ‬بأفضلية‭ ‬الأدب‭ ‬الغربيّ‭ ‬على‭ ‬الأدب‭ ‬السوفييتيّ،‭ ‬وبخاصة‭ ‬مع‭ ‬الاعتراف‭ ‬بالحداثة‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬الشكل‭ ‬الأقصى‭ ‬للأدب‭ ‬الغربيّ‭. ‬ونتج‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الميل‭ ‬تنحيةُ‭ ‬الرواية‭ ‬الواقعية‭ ‬عن‭ ‬المنهج‭ ‬الذي‭ ‬يدرس‭ ‬في‭ ‬الأكاديميا‭ ‬وتهميشها،‭ ‬وإدراج‭ ‬الأدب‭ ‬الحداثيّ‭ ‬عوضًا‭ ‬منها؛‭ ‬لاهتمامه‭ ‬بالجماليات،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬مهمشًا‭ ‬ومُزدرًى‭ ‬هو‭ ‬الآخر‭ ‬وقتًا‭ ‬طويلًا‭. ‬وفي‭ ‬الحال‭ ‬اعتنقت‭ ‬برامجُ‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية‭ ‬أعرافَ‭ ‬النقد‭ ‬الجديد‭ ‬ودرّستها‭ ‬في‭ ‬ورش‭ ‬الكتابة،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬وجدت‭ ‬فيها‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬تسخيره‭ ‬لخدمة‭ ‬العاطفة‭ ‬المناوئة‭ ‬للشيوعية،‭ ‬والمروِّجة‭ ‬للفردانية‭ ‬الأميركية،‭ ‬ساعدها‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬أسبابٌ‭ ‬عملية‭ ‬أخرى؛‭ ‬مثل‭: ‬نزوع‭ ‬الجامعات‭ ‬إلى‭ ‬وضع‭ ‬حدود‭ ‬واضحة‭ ‬بين‭ ‬التخصصات‭ ‬المختلفة‭ ‬وغيرها‭. ‬

ليست‭ ‬الأعراف‭ ‬الأدبية‭ ‬والنقدية‭ ‬وَحْدَها‭ ‬ما‭ ‬سُخر‭ ‬لخدمة‭ ‬السياسيّ،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬مُثُلًا‭ ‬وقيمًا‭ ‬استُخدمت‭ ‬للغرض‭ ‬نفسه‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬ذهب‭ ‬إليه‭ ‬فرانسيس‭ ‬ستونر‭ ‬سوندرز‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الحرب‭ ‬الباردة‭ ‬الثقافية»؛‭ ‬إذ‭ ‬جزم‭ ‬سوندرز‭ ‬بأن‭ ‬حرية‭ ‬التعبير‭ ‬التي‭ ‬طالما‭ ‬قُدّرت‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬أعز‭ ‬مكتسبات‭ ‬الديمقراطية‭ ‬الليبرالية‭ ‬قيمةً،‭ ‬سُخرت‭ ‬لخدمة‭ ‬أجندات‭ ‬سِرّية‭. ‬وحاول‭ ‬سوندرز‭ ‬كشف‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الجهود‭ ‬الاستثنائية‭ ‬التي‭ ‬تورّط‭ ‬فيها‭ ‬أكثر‭ ‬دعاة‭ ‬الحرية‭ ‬الثقافية‭ ‬حماسةً‭ ‬في‭ ‬الغرب؛‭ ‬إذ‭ ‬كانوا‭ ‬يعملون‭ ‬لصالح‭ ‬السي‭ ‬آي‭ ‬إيه‭ ‬أو‭ ‬بدعم‭ ‬منها،‭ ‬سواءُ‭ ‬أعلموا‭ ‬بذلك‭ ‬أم‭ ‬لم‭ ‬يعلموا‭. ‬ركز‭ ‬سوندرز‭ ‬في‭ ‬تقصّي‭ ‬برنامج‭ ‬السي‭ ‬آي‭ ‬إيه‭ ‬السِّرِّيّ‭ ‬للتدخلات‭ ‬الثقافية‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬الغربية‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬داخل‭ ‬أميركا؛‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬خطة‭ ‬احتواء‭ ‬تهدف‭ ‬إلى‭ ‬تذويب‭ ‬شغف‭ ‬النخب‭ ‬الثقافية‭ ‬بالشيوعية،‭ ‬مستعينًا‭ ‬بوثائق‭ ‬وأدلّة‭ ‬تثبت‭ ‬استغلال‭ ‬أميركا‭ ‬رموزًا‭ ‬ثقافية؛‭ ‬مثل‭: ‬إيزايا‭ ‬برلين،‭ ‬وجورج‭ ‬أورويل،‭ ‬وجاكسون‭ ‬بولوك،‭ ‬وهانا‭ ‬آرنت،‭ ‬واستخدامهم‭ ‬كأسلحة‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭. ‬

الراقصون‭ ‬بوصفهم‭ ‬دبلوماسيين

انضمّ‭ ‬إلى‭ ‬المقالات‭ ‬والكتب‭ ‬التي‭ ‬تتناول‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭ ‬وعلاقتها‭ ‬بالإبداع‭ ‬كِتابٌ‭ ‬آخر‭ ‬صدر‭ ‬العام‭ ‬الماضي‭ ‬بعنوان‭: ‬‮«‬الراقصون‭ ‬باعتبارهم‭ ‬دبلوماسيين‮»‬‭ ‬لكلير‭ ‬كروفت‭. ‬يحلل‭ ‬كتاب‭ ‬كروفت‭ ‬الذي‭ ‬استندت‭ ‬في‭ ‬تأليفه‭ ‬إلى‭ ‬مقابلات‭ ‬كثيرة‭ ‬أجرتْها‭ ‬مع‭ ‬مصممي‭ ‬رقص‭ ‬وراقصين،‭ ‬كيف‭ ‬سخّرت‭ ‬الحكومة‭ ‬الأميركية‭ ‬الرقصَ‭ ‬في‭ ‬تصدير‭ ‬صورة‭ ‬مثالية‭ ‬لأميركا،‭ ‬ويختبر‭ ‬هذا‭ ‬السلوك‭ ‬الدبلوماسيّ‭ ‬الثقافيّ‭ ‬في‭ ‬مرحلتين‭ ‬مهمتين‭ ‬من‭ ‬مراحل‭ ‬السياسة‭ ‬الخارجية‭ ‬الأميركية‭: ‬العقود‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭ ‬والجزء‭ ‬المنقضي‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الحادي‭ ‬والعشرين‭. ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭ ‬استهدفت‭ ‬المناطق‭ ‬التي‭ ‬ظُنّ‭ ‬أنها‭ ‬أكثر‭ ‬عرضة‭ ‬للتأثير‭ ‬الشيوعيّ‭ ‬الصينيّ‭ ‬السوفييتيّ؛‭ ‬مثل‭: ‬أوربا‭ ‬الشرقية،‭ ‬وأميركا‭ ‬اللاتينية،‭ ‬وجنوب‭ ‬شرق‭ ‬آسيا‭. ‬

وفي‭ ‬القرن‭ ‬الحادي‭ ‬والعشرين،‭ ‬عقب‭ ‬أحداث‭ ‬11‭ ‬سبتمبر،‭ ‬تحوَّلتْ‭ ‬بوصلةُ‭ ‬الدبلوماسية‭ ‬الثقافية‭ ‬الأميركية‭ ‬لتستهدف‭ ‬مناطق‭ ‬يدين‭ ‬أكثر‭ ‬سكانها‭ ‬بالإسلام‭ ‬ومعظمها‭ ‬في‭ ‬آسيا‭. ‬خلال‭ ‬هاتين‭ ‬الحقبتين‭ ‬كان‭ ‬نشاط‭ ‬الدبلوماسية‭ ‬الثقافية‭ ‬قائمًا‭ ‬على‭ ‬أشُدِّه؛‭ ‬إذ‭ ‬بعثت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأميركية‭ ‬فنانين‭ ‬إلى‭ ‬الخارج،‭ ‬بوصفهم‭ ‬ممثلين‭ ‬رسميين‭ ‬لها،‭ ‬بل‭ ‬وحتى‭ ‬أعمالًا‭ ‬فنية‭ ‬من‭ ‬لوحاتٍ‭ ‬وسواها،‭ ‬بوصفها‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬برامج‭ ‬الدبلوماسية‭ ‬الثقافية‭ ‬التي‭ ‬نفذتها‭ ‬في‭ ‬أماكن‭ ‬متفرقة‭ ‬من‭ ‬العالم‭. ‬ولعل‭ ‬أحد‭ ‬أهم‭ ‬عروض‭ ‬الرقص‭ ‬دلالةً‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشأن‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬عام‭ ‬1962م‭ ‬حين‭ ‬أدَّت‭ ‬فرقة‭ ‬باليه‭ ‬مدينة‭ ‬نيويورك‭ ‬عرض‭ ‬‮«‬ويسترن‭ ‬سيمفوني‮»‬‭ ‬على‭ ‬خشبة‭ ‬مسرح‭ ‬بولشوي‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬موسكو‭. ‬كان‭ ‬حدثًا‭ ‬رمزيًّا؛‭ ‬إذ‭ ‬عُزف‭ ‬قبل‭ ‬بدئه‭ ‬نشيدا‭ ‬أميركا‭ ‬والاتحاد‭ ‬السوفييتيّ‭ ‬الوطنيان،‭ ‬وقاد‭ ‬فرقةَ‭ ‬الراقصين‭ ‬والراقصات‭ ‬الأميركية‭ ‬مهاجرٌ‭ ‬روسيٌّ‭ ‬يُدعَى‭ ‬جورج‭ ‬بالانشين‭. ‬قوبل‭ ‬العرض‭ ‬بحفاوة‭ ‬شديدة؛‭ ‬بسبب‭ ‬ما‭ ‬عزته‭ ‬الكاتبة‭ ‬إلى‭ ‬الاختلافات‭ ‬الجمالية‭ ‬بين‭ ‬الباليه‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬الدولتين،‭ ‬وإلى‭ ‬تزامن‭ ‬العرض‭ ‬مع‭ ‬أزمة‭ ‬الصواريخ‭ ‬الكوبية‭ ‬التي‭ ‬كادت‭ ‬الحرب‭ ‬أن‭ ‬تندلع‭ ‬بين‭ ‬الدولتين‭ ‬بسببها‭. ‬على‭ ‬عكس‭ ‬التحذيرات‭ ‬التي‭ ‬تلقاها‭ ‬فريق‭ ‬الباليه‭ ‬باحتمالية‭ ‬أن‭ ‬يواجه‭ ‬جمهورًا‭ ‬غاضبًا‭ ‬في‭ ‬المسرح،‭ ‬كان‭ ‬الحضور‭ ‬مبتهجًا،‭ ‬وقابل‭ ‬الفريق‭ ‬بتصفيق‭ ‬حارّ‭ ‬وهتاف‭ ‬طويل‭.‬

برامج-الكتابة-الإبداعية6

مبنى ورشة آيوا للكتابة الإبداعية

عن‭ ‬هذا‭ ‬العرض‭ ‬كتبت‭ ‬كروفت‭: ‬‮«‬من‭ ‬خلال‭ ‬إرسال‭ ‬باليه‭ ‬مدينة‭ ‬نيويورك‭ ‬إلى‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتيّ‭ ‬بوصفه‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬الدبلوماسية‭ ‬الأميركية‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬العشرين؛‭ ‬اخترقت‭ ‬وزارةُ‭ ‬الخارجية‭ ‬الأميركية‭ ‬والمسرحُ‭ ‬القومي‭ ‬الأميركي‭ ‬والأكاديميةُ،‭ ‬الجهة‭ ‬التي‭ ‬اختارت‭ ‬الفنانين‭ ‬لجولات‭ ‬وزارة‭ ‬الخارجية،‭ ‬اخترقتا‭ ‬الستارة‭ ‬الحديدية‭ ‬بفن‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬أشكال‭ ‬الفنون‭ ‬المحبوبة‭ ‬في‭ ‬روسيا‮»‬‭ ‬عبر‭ ‬الجولات‭ ‬الكثيرة‭ ‬التي‭ ‬موّلتها‭ ‬وزارة‭ ‬الخارجية‭ ‬الأميركية‭ ‬ضمن‭ ‬برامج‭ ‬الدبلوماسية‭ ‬الثقافية،‭ ‬تحمّل‭ ‬السفراء‭ ‬الثقافيون،‭ ‬الراقصون‭ ‬وغيرهم‭ ‬من‭ ‬الفنانين،‭ ‬مسؤولية‭ ‬تصدير‭ ‬سردية‭ ‬وطنية‭ ‬مهيمنة‭ ‬تحاول،‭ ‬وإنْ‭ ‬عبثًا،‭ ‬أن‭ ‬تطرد‭ ‬عن‭ ‬نفسها‭ ‬تُهمًا‭ ‬محتملة‭. ‬أكَّد‭ ‬مسؤولون‭ ‬حكوميون‭ ‬للفنانين‭ ‬المشاركين‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الجولات‭ ‬الدولية‭ ‬أن‭ ‬عملهم‭ ‬ليس‭ ‬سياسيًّا،‭ ‬كما‭ ‬أشار‭ ‬بعض‭ ‬الفنانين‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬مسؤولين‭ ‬في‭ ‬وزارة‭ ‬الخارجية‭ ‬أَمْلَوْا‭ ‬على‭ ‬الراقصين‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬تحضيرات‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬الجولة‭ ‬في‭ ‬واشنطن‭ ‬العاصمة‭ ‬تعليماتٍ‭ ‬محددةً‭ ‬طلبوا‭ ‬فيها‭ ‬منهم‭ ‬ألَّا‭ ‬يخوضوا‭ ‬في‭ ‬محادثات‭ ‬سياسية‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬وجودهم‭ ‬في‭ ‬الخارج‭. ‬

عمد‭ ‬المسؤولون‭ ‬عن‭ ‬برامج‭ ‬الدبلوماسية‭ ‬الثقافية‭ ‬إلى‭ ‬إفهام‭ ‬الفنانين‭ ‬أن‭ ‬تصرفاتهم‭ ‬تمثّل‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأميركية،‭ ‬وحضّهم‭ ‬على‭ ‬تجنّب‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬سياسيًّا؛‭ ‬مثل‭: ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬حرب‭ ‬فيتنام‭ ‬في‭ ‬الستينيات‭. ‬وبحسب‭ ‬كروفت،‭ ‬فإن‭ ‬إرسال‭ ‬فنانين‭ ‬إلى‭ ‬الخارج‭ ‬يُعَدّ‭ ‬خطوة‭ ‬مهمة‭ ‬للحكومة‭ ‬الأميركية؛‭ ‬لأنه‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬على‭ ‬مسؤولي‭ ‬الحكومة‭ ‬أن‭ ‬يديروا‭ ‬الفنانين‭ ‬بحساسية‭ (‬إذ‭ ‬الفنانون‭ ‬بخلاف‭ ‬الأعمال‭ ‬الفنية‭ ‬الجامدة،‭ ‬غير‭ ‬متوقعي‭ ‬التصرف‭)‬،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يتصرف‭ ‬الفنانون‭ ‬كبُرْهان‭ ‬على‭ ‬وعد‭ ‬الديمقراطية‭ ‬الأميركية‭ ‬المتمثل‭ ‬في‭ ‬‮«‬نظام‭ ‬حكومة‭ ‬يسمح‭ ‬بمعارضة‭ ‬فردية‮»‬‭. ‬ثبت‭ ‬أن‭ ‬الحرية‭ ‬الفردية‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬القيم‭ ‬الأميركية‭ ‬يمكن‭ ‬تصديرُها‭ ‬بوساطة‭ ‬عروض‭ ‬الرقص،‭ ‬والدراما‭ ‬الحية‭ ‬بطريقة‭ ‬أفضل‭ ‬وأنجع‭ ‬من‭ ‬تصديرها‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬مباشر‭. ‬

في‭ ‬الختام،‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭: ‬إن‭ ‬ما‭ ‬يذهب‭ ‬الظنّ‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬منيع‭ ‬ضد‭ ‬التدخّل‭ ‬السياسيّ‭ ‬لَهُو‭ ‬في‭ ‬واقع‭ ‬الحال‭ ‬وثيق‭ ‬الارتباط‭ ‬به‭. ‬لقد‭ ‬بانَ‭ ‬أن‭ ‬برنامجًا‭ ‬للكتابة‭ ‬الإبداعية‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬الوسط‭ ‬الغربيّ‭ ‬الأميركيّ‭ ‬إنما‭ ‬كان‭ ‬مسرحًا‭ ‬لتجاذبات‭ ‬سياسية‭ ‬وفكرية‭ ‬تسافر‭ ‬عبر‭ ‬المحيطات‭. ‬بعض‭ ‬الذين‭ ‬تفاعلوا‭ ‬مع‭ ‬كتابات‭ ‬إريك‭ ‬بينيت‭ ‬وغيره‭ ‬التي‭ ‬حاولت‭ ‬فضح‭ ‬تورُّط‭ ‬وكالة‭ ‬المخابرات‭ ‬المركزية‭ ‬الأميركية‭ ‬في‭ ‬تمويل‭ ‬مشاريع‭ ‬ثقافية‭ ‬لصالح‭ ‬أهداف‭ ‬سياسية‭ ‬لم‭ ‬يمانعوا‭ ‬هذا‭ ‬التدخّل‭ ‬ما‭ ‬دام‭ ‬أنه‭ ‬يوفّر‭ ‬وظائفَ‭ ‬وتعليمًا‭ ‬للكُتَّاب‭. ‬هذه‭ ‬وجهة‭ ‬نظرة‭ ‬مفهومة،‭ ‬وبينيت‭ ‬نفسه‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬‮«‬قد‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬ريموند‭ ‬كارفر،‭ ‬وهو‭ ‬يتدرب‭ ‬على‭ ‬أيدي‭ ‬كتاب‭ ‬غارقين‭ ‬في‭ ‬صيغ‭ ‬معادية‭ ‬للشيوعية،‭ ‬مُدرِكًا‭ ‬أن‭ ‬قصصه‭ ‬القصيرة‭ ‬تقوم‭ ‬بحرب‭ ‬أيديولوجيَّة‭ ‬مع‭ ‬ديكتاتور‭ ‬سوفييتيّ‭ ‬ميت‮»‬‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬وجهة‭ ‬النظر‭ ‬هذه‭ ‬تضمحلّ‭ ‬عند‭ ‬إدراك‭ ‬الضرر‭ ‬الذي‭ ‬يلحقه‭ ‬التدخل‭ ‬السياسيّ‭ ‬ببرامج‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية،‭ ‬والمتمثّل‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬التدخّل‭ ‬السياسيّ‭ ‬يفرض‭ ‬شروطه‭ ‬بالضرورة،‭ ‬ويرسخ‭ ‬لجُملة‭ ‬من‭ ‬الأعراف‭ ‬الفنية‭ ‬والقيم‭ ‬الجمالية‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬حضورُها‭ ‬مُهيمِنًا‭ ‬على‭ ‬المشهد‭ ‬الأدبيّ‭ ‬الأميركيّ‭ ‬حتى‭ ‬اليوم‭. ‬

لقد‭ ‬نجحت‭ ‬أميركا،‭ ‬كما‭ ‬يبدو،‭ ‬فيما‭ ‬أخفق‭ ‬فيه‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتيّ،‭ ‬ألا‭ ‬وهو‭ ‬الصادرات‭ ‬الثقافية‭. ‬لكن‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬الإبداع‭ ‬الحقيقيّ‭ ‬قد‭ ‬خسر‭ ‬كثيرًا؛‭ ‬بسبب‭ ‬حقن‭ ‬صفوف‭ ‬الكتابة‭ ‬بأيديولوجيا‭ ‬الإذعان‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يجرؤ‭ ‬على‭ ‬التصريح‭ ‬بها‭ ‬أحد‭. ‬
.

.

رجال‭ ‬مخابرات‭ ‬خريجو‭ ‬ورش‭ ‬للكتابة‭ ‬الإبداعية

من‭ ‬الجليّ‭ ‬أن‭ ‬إنغل‭ ‬استخدم‭ ‬في‭ ‬مراسلاته‭ ‬للمموّلين‭ ‬لغة‭ ‬سياسية‭ ‬مشفرة‭ ‬تناسب‭ ‬الجو‭ ‬العام،‭ ‬وشدد‭ ‬على‭ ‬نجاعة‭ ‬استخدام‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬محاربة‭ ‬الشيوعية‭. ‬وهكذا‭ ‬توافقت‭ ‬رؤيته‭ ‬المعلنة‭ ‬مع‭ ‬رؤية‭ ‬الحكومة‭ ‬الأميركية،‭ ‬المتمثلة‭ ‬في‭ ‬برنامج‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬الكونغرس‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الحرية‭ ‬الثقافية‮»‬‭ ‬والهادف‭ ‬في‭ ‬نشاطه‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬إقناع‭ ‬اليسار‭ ‬غير‭ ‬الشيوعيّ‭ ‬في‭ ‬بريطانيا‭ ‬وأوربا‭ ‬أن‭ ‬أميركا‭ ‬تَعْنِي‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ميكي‭ ‬ماوس‭ ‬وكوكاكولا‮»‬‭ ‬ليس‭ ‬غريبًا‭ ‬أن‭ ‬قام‭ ‬برنامج‭ ‬‮«‬الكونغرس‮»‬‭ ‬بدفع‭ ‬اشتراكات‭ ‬في‭ ‬مجلات‭ ‬أدبية‭ ‬أميركية‭ ‬لكُتَّاب‭ ‬من‭ ‬الكتلة‭ ‬الشرقية‭ ‬من‭ ‬أوربا،‭ ‬وبخاصة‭ ‬إذا‭ ‬علمنا‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬رجال‭ ‬وكالة‭ ‬المخابرات‭ ‬الأميركية‭ ‬هم‭ ‬خريجون‭ ‬سابقون‭ ‬من‭ ‬ورشة‭ ‬آيوا‭ ‬للكتابة‭ ‬الإبداعية؛‭ ‬مثل‭ ‬الروائيين‭ ‬جون‭ ‬هانت‭ ‬وروبي‭ ‬ماكولي‭. ‬ليس‭ ‬غريبًا‭ ‬–أيضًا‭- ‬أن‭ ‬يحصل‭ ‬إنغل،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أسس‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬الستينيات‭ ‬برنامجًا‭ ‬متفرعًا‭ ‬من‭ ‬ورشة‭ ‬آيوا‭ ‬سمَّاه‭ ‬‮«‬برنامج‭ ‬الكتابة‭ ‬الدوليّ‮»‬،‭ ‬على‭ ‬عشرة‭ ‬آلاف‭ ‬دولار‭ ‬أميركيّ‭ ‬للسفر‭ ‬إلى‭ ‬آسيا‭ ‬وأوربا؛‭ ‬لتجنيد‭ ‬الكُتَّاب‭ ‬الشباب،‭ ‬والمثقفين‭ ‬وبخاصة‭ ‬ذوي‭ ‬الميل‭ ‬اليساريّ‭ ‬منهم،‭ ‬ومنحهم‭ ‬زمالات‭ ‬لدراسة‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية‭ ‬في‭ ‬آيوا‭. ‬

كان‭ ‬الهدف‭ ‬من‭ ‬جلب‭ ‬كُتَّاب‭ ‬أجانب‭ ‬أن‭ ‬‮«‬يحبوا‭ ‬أميركا‮»‬،‭ ‬وأن‭ ‬‮«‬يكتبوا‭ ‬بتفهُّم‭ ‬أكثر‭ ‬عن‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأميركية»؛‭ ‬لهذا‭ ‬حرَّر‭ ‬رجال‭ ‬الأعمال‭ ‬المحافظون‭ ‬لصالح‭ ‬مشروعه‭ ‬شيكاتٍ‭ ‬بمبالغَ‭ ‬كبيرةٍ‭ ‬جدًّا‭. ‬لقد‭ ‬نجح‭ ‬إنغل‭ ‬في‭ ‬إقناع‭ ‬مموّلي‭ ‬البرنامج‭ ‬بأن‭ ‬الأدب‭ ‬سوف‭ ‬ينقذ‭ ‬العالم،‭ ‬وأن‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية،‭ ‬حسب‭ ‬تعبير‭ ‬بينيت،‭ ‬سوف‭ ‬‮«‬تلقح‭ ‬العقول‭ ‬الضعيفة‭ ‬ضد‭ ‬الأيديولوجيّات‭ ‬الشمولية‭ ‬التبسيطية،‭ ‬وتشفي‭ ‬الجروح‭ ‬الرُّوحية‭ ‬التي‭ ‬أحدثتها‭ ‬الكارثة‭ ‬العالمية،‭ ‬وربما‭ ‬تمنع‭ ‬حدوث‭ ‬أمثالها‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‮»‬،‭ ‬ووفقًا‭ ‬للتصوُّر‭ ‬الذي‭ ‬ساهم‭ ‬إنغل‭ ‬في‭ ‬رسمه،‭ ‬يروِّج‭ ‬البرنامج‭ ‬للتجربة‭ ‬الملموسة،‭ ‬والخصوصية‭ ‬الذاتية،‭ ‬والحياة‭ ‬الواقعية‭ ‬في‭ ‬الرواية،‭ ‬بينما‭ ‬يرفض‭ ‬التجريد،‭ ‬والعمومية،‭ ‬والتجارب‭ ‬المدفوعة‭ ‬بالأيديولوجيا‭. ‬ويحتفي‭ ‬بالأدب‭ ‬الذي‭ ‬يُعلي‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬الحياة‭ ‬الجوَّانية‭ ‬والخاصة‭ ‬بالفرد‭ ‬التي‭ ‬تنعكس‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تجارب‭ ‬يعيشها‭ ‬لا‭ ‬تمليها‭ ‬عليه‭ ‬أي‭ ‬أيديولوجيّات‭. ‬إنه‭ ‬يقدم‭ ‬قيمة‭ ‬الفردانية‭ ‬باعتبارها‭ ‬أيديولوجيا‭ ‬رُوِّج‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬أميركا‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬وبعدها؛‭ ‬لتناهض‭ ‬الأنظمة‭ ‬الشمولية‭ ‬في‭ ‬نموذجَيِ‭ ‬الفاشية‭ ‬في‭ ‬ألمانيا‭ ‬وإيطاليا،‭ ‬والشمولية‭ ‬اليسارية‭ ‬للاتحاد‭ ‬السوفييتيّ‭. ‬

المنشورات ذات الصلة

4 التعليقات

  1. عبدالعزيز الصاعدي

    هل يمكنني الانظمام حول الكتابة الإبداعية في موقعكم الجميل الذي يحمل الفيصل.

    الرد
    • مجلة الفيصل

      أهلا بك… ترحب المجلة بأي فكرة ملف أو مقال أو ترجمة أو نص قصصي.. نأمل الاطلاع على سياسة النشر بأسفل الموقع الإلكتروني. ثم بعد ذلك إرسال المشاركات أو المقترح على البريد الالكتروني الموضح في نفس الصفحة.

      تحياتنا..

      الرد
  2. مهاب عبد الغفار

    هو تعليق متأخر جداً، حيث صادفت المقالة الآن فقط .. أعتقد مهم جداً للوعي الثقافي العربي، إدراك تلك الصيغ التي حملها العمل الإبداعي داخل الثقافة الغربية .. سواء كان ذلك بقصدية خدمة الأهداف السياسية، أو كما نلحظ الآن تسليع الإبداع لصالح نسق اقتصادي مستهلك .. إن إدراك تلك الصيغ يسهم في الوعي باللحظة الآنية ومقدار تأزم السياقات الثقافية في واقعنا العربي .. لا أريد أن أطيل .. تحية خاصة للكاتب علي المجنوني

    الرد
  3. حمدي سراج الدين

    يا ليت قومي يقرأون
    مقالة أكثر من رائعة
    وحديث ذو شجون

    الرد

Trackbacks/Pingbacks

  1. الإبداع في خدمة السياسي: برامج الكتابة الإبداعية في أمريكا نموذجا | مسألة وقت - […] هذه المقالة للمرة الأولى في مجلة الفيصل عدد ١٦ مارس […]

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *