كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
كتابة المرأة عصيان مدني غير معلن
للحقيقة لم يخطر ببالي سؤال كهذا من قبل: هل الناقد الرجل يمتدح نصًّا كتبته امرأة بسبب نسويته أم أن ذكوريته تدفعه إلى دعم الكاتبة الأنثى؟ السؤال هنا يضع الإجابة في مساحة ضيقة على المرء فيها اختيار حدّ من حدين: نسوية الكاتب أم ذكوريته. في الحالتين يبقى السؤال عن الرجل، وفيم يفكر؟ وعن الأسباب التي تدفعه إلى اختيار نص من دون غيره؟ لكن هناك الكاتبة وهناك نصها وهو ما يدفعنا إلى طرح أسئلة أخرى تنطلق من الجهة المقابلة للسؤال الأساسي. أسئلة من نوع: ماذا عن نص الكاتبة نفسه؟ ماذا عن قراءة من نوع ثالث لناقد يتفاعل مع النص، يكتب عنه لا عن كاتبته، ويهتم بأسئلة من نوع: هل هو نص جيد؟ نص مغاير، مختلف يكسر التقليد ويجدد؟ أسئلة عن التجربة الإنسانية التي تتجاوز الموضوع الجندري وقادت الكاتبة إلى اختيار موضوع معين من دون غيره.
الكتابة تعني امتلاك صوت وشخصية. عبر الكلمة التي تكتبها تحفر الكاتبة مكانها في المساحة العامة. مساحة بقيت أسيرة الرجل الكاتب لزمن طويل. المساحة العامة هي الضوء الذي تقف في قلبه المرأة الكاتبة وأحيانًا يغفل عن الناقد الرجل أنها قبل كل شيء كاتبة مثل أي رجل كاتب، وأنها هناك في مساحة الضوء تقف لتُعرِّي الآخرين وتنزع أقنعة الأفكار المسقطة والموروثة. يتراءى أحيانًا للرجل الناقد أنه يكتب عن امرأة تجلس وسط مساحتها الحميمة وليس عن نص كتبته امرأة تحتلّ حيزًا كبيرًا من مساحة كانت له وحده يومًا ما. يريد أن يعيدها من حيث لا يدري إلى غرفة النوم وإلى المساحات الضيقة في البيت والمطبخ والحديقة، أي إعادة تدجينها ودفعها إلى الخاص، إلى المشاعر المكبوتة والرغبات غير المحققة. هذا أسهل له من أن يكون وجهًا لوجه أمام نص مبدع حقيقي جموح لن يستطيع السيطرة عليه.
منطق الإبداع
إنني أرى المرأة الكاتبة في مكان آخر، أو لنقل: أرى نفسي أنا المرأة الكاتبة في مكان آخر لا يطوله رجل ناقد ولا رجل كاتب. الحرية، حرية التعبير والإبداع جوهرة ندفع ثمنها نحن الكاتبات. نصل معها إلى مكان تغدو فيه الكتابة خارج منطق المساواة بالرجل. تغدو داخل منطق الإبداع نفسه الذي لا جنس له. السؤال يغدو: هل أنا مبدعة أم لا؟ وليس: هل يراني الناقد أنثى أم لا؟ هل أحسن الناقد قراءة الكتاب أم لا؟ هل وصل إلى عمق الرواية أم لا؟ هل التقط مفاصل الحكاية وأساليب الكتابة ووضعها تحت ضوء النقد الأدبي أم لا؟ لا أذكر أنني فكرت يومًا: إن كان المقال النقدي بقلم نسوي أم ذكوري. هذا هو الأساس. لكن حين أقرأ نقدًا متزلّفًا لا بد من الاستياء بل الغضب.
تكتب المرأة وتحدث زلزالًا من الأسئلة. هزات فكرية على الرجل أثناءها إعادة ترتيب العالم حوله. تغدو الأسئلة أيضًا محاولة لإعادة الترتيب. على العالم أن يعي ترتيب نفسه بعد دخول المرأة الكاتبة إلى مساحة اقتصرت ولزمن طويل على الرجل. لكن أحيانًا تكون المرأة الكاتبة قد أصبحت في مكان آخر. مكان لا يهمها فيه تلك الأسئلة وذلك الترتيب؛ لأن الترتيب لم يكن يومًا لصالح حريتها، ولم يكن يومًا لدعمها، ولم يكن يومًا لدفعها نحو الأمام ونحو إثبات شخصيتها المبدعة. لكن لماذا علينا نحن الكاتبات الاهتمام بموضوع: مِن أيّ مكان يكتب الرجل عن نصنا؟ قبل أن أبدأ بكتابة هذا المقال سألت صديقاتي الروائيات عن رأيهن في هذا الموضوع: هل فعلًا هو أمر يهمهن؟ لم أجد كثيرًا من التفاوت في إجاباتهن. الأمور محسومة لديهن: لا يوجد مقال نقدي يكتبه رجل من منطلق نسوي! لا نعرف إن كان هناك نقاد أدب نسويون! أجابت إحداهن: الناقد الأدبي النسوي شبه غير موجود، أو لنقل لا ندري بوجوده. لكن إن كان غير موجود؛ كيف ستكون الإجابة هنا؟ كيف سنبني نقاشًا في العدم؟ لكن قد يحتاج هذا الرأي القاطع حول غياب الناقد النسوي إلى نقاش، وإلى بحث عن مقاربة ثالثة يتعامل فيها الناقد مع النص من دون العودة إلى جنس كاتبه سواء كان رجلًا أم امرأة. أن يجري النقاش حول النص وحول الإبداع وحول الأسلوب. أُومن أن هذه المقاربة موجودة. هؤلاء النقاد موجودون وجديرون بالاحترام. لكنهم يبقون قلة..
فعل معارضة
الكتابة بحد ذاتها هي فعل معارضة. هي عصيان مدني غير معلن. هي فعل قتل الأب بشكل رمزي، وهناك مجموعة لا يستهان بها من الكاتبات اللواتي تجاوزن هذا السؤال؛ حول مقاربة الناقد الرجل. لم يعد يعنيهن. لكن علينا القول: إن هذا السؤال ما زال يطرح أيضًا في الغرب، وهو ليس صناعة عربية فحسب.. لكن مهلًا علينا ألَّا نتوهم أن جميع الكاتبات متساويات في النظر إلى هذه المسألة. هناك كاتبات يُعِدن إنتاج علاقة الرجل بالمرأة في أدبهن. علاقة تقليدية موروثة. يفتشن عن أب جديد يقوم بتبني أعمالهن. يكتبن نصوصًا روائية أو شعرية سهلة. أدب سهل كقطعة سكر يستسيغه القارئ ويستمتع به لكنه يذوب ويمحى. هي لعبة الكتابة «السكرية» بطلاها الناقد الرجل والكاتبة المرأة. يخطر ببالي أسماء كثيرة الآن لن أذكرها. دعم الناقد لكتابة كهذه يعكس قيَمه هو أولًا، ويعكس أيضًا نظرته الدونية إلى قدرة المرأة الكاتبة على الإبداع. تلك المرأة الكاتبة تتوسل ناقدًا رجلًا كي يكتب عنها لأنها هي في لا وعيها تعتبر أن كتابته الإيجابية هي بمنزلة إعلان عمادتها ككاتبة. هكذا ندخل في حلقة مفرغة: المرأة الكاتبة تسترضي الرجل، تعيد إنتاج العلاقة نفسها، وهي علاقة غير منتجة بل تكرار لزمن بائد علينا الخروج منه. أما مقال الناقد الرجل فيؤكد توقيعه وموافقته بل تهليله لتلك العلاقة. كل هذا في وقت مطلوب فيه من المرأة الكاتبة القطيعة كي تخرج بنص مغاير. القطيعة على الأقل.
إن التمييز بين الكاتب والكاتبة ما زال قائمًا. المرأة تكتب كأميرة والرجل كرجل. الكاتبة تنافس كاتبة أخرى، والكاتب ينافس الكاتب. من النادر جدًّا أن أجد في مقال نقدي حول رواية لكاتبة مقارنة مع رواية أخرى كتبها رجل. الناقد الذي أتحدث عنه هنا يقارن بين الكاتبات النساء، ولا يستطيع أن يرى النص خارج جنس كاتبه.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب في الوطن العربي
صورة النخب وجدل الأدوار محمد شوقي الزين - باحث جزائري مثل المنطوق الأوربي (elite)، تنطوي مفردة «النخبة» في اللسان...
الإبل في الثقافات: شراكة في الحضارة قفْ بالمطايا، وشمِّرْ من أزمَّتها باللهِ بالوجدِ بالتبريحِ يا حادي
آفاق السنام الواحد عهود منصور حجازي - ناقدة سينمائية منذ فجر التاريخ، كان إدراك الإنسان لتقاسمه الأرض مع كائنات أخرى،...
تجليات الفن في العمارة… رحلة بصرية عبر الزمن
العمارة والفنون البصرية علاقة تكافلية مدهشة علاء حليفي - كاتب ومعماري مغربي منذ فجر الحضارة حتى يومنا الحالي، لطالما...
0 تعليق