كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
لِيلي بريك.. من عشيقة ماياكوفسكي إلى عميلة في الشرطة السرية!
عاشت لِيلي بريك بالطول والعرض. عاشت حتّى شبعت من العيش، فأنهت حياتها بكامل رغبتها في السابعة والثمانين من عمرها. كأنّ ليلي لا يليق بها أن تموت دون إرادتها، ميتة عاديّة مثل كلّ الناس. كأنها أرادت أن تحدّد وقت موتها بنفسها، حتّى وهي في أرذل العمر، وأن تختم تاريخها الطويل في التمرّد، بمقاومة سلطة ملاك الموت، وهي جلد على عظام. كانت ليلي قاتلة. لا القتل الكلاسيكي بالرصاص الحي، إنما باللحم الحي. بحرارتها وحريّتها، بجبروتها وجرأتها. كانت أينما تسير، يتبعها طوابير من المعجبين والعشّاق والمجانين. حين تراها لن يكفي أن تقول: «جميلة»، لا بدّ أن تصرخ عاليًا: «منتهى الجمال»!
ما الذي يتبقّي لي لأكتبه عن ليلي بريك؟
لا شيء تقريبًا، لا كبيرة ولا صغيرة، إذ إنها حين كانت تعطس، يكون هناك من يحتفي في قصيدة أو لوحة أو قطعة موسيقيّة، بروعة عطستها. واحدة من أكثر النساء تأثيرًا في الثقافة السوفييتيّة، لا يصعد شاب سلالم الشهرة، مهما كانت موهبته، إلا إذا منحته تأشيرة الدخول، ووصفها بابلو نيرودا بأنّها «مُلهمة الطليعة الروسيّة»، وهو إعجاب ملطّف، إذ لا بد أنه كان يريد أن يمدحها أكثر، لكنه خاف على مشاعر «ماتيلدا»، أو خاف من عقاب «ماتيلدا»!
* * *
وُلدت ليلي يوريفنا كاجان يوم 11 نوفمبر 1891م لعائلة يهودية ثريّة في موسكو. أبوها محامٍ وأمّها معلّمة موسيقا، أما أختها الأصغر منها، فهي إلزا تريولية، التي ستُعرف فيما بعد باسم إلزا أراغون، نسبة إلى الشاعر الفرنسي لويس أراغون الذي خلّد عيونها في ديوان كامل.
تلقّت ليلي تعليمًا راقيًا، وأتقنت الألمانية والفرنسية، ورقص الباليه، والعزف على البيانو، وتخرّجت من معهد موسكو للهندسة المعماريّة. في سنّ الثالثة عشرة أدركت قدرتها الباكرة على «سحر الرجال». جلبت كثيرًا من المتاعب لوالديها، تقول: «أمي لم تعرف الراحة بسببي، كان لا يغمض لها جفن». كانت دائمًا «تقع في الحب بسهولة»، وهو في كل مرّة «حبّ حتى الموت»، مع ليلي دائمًا هناك حبّ جديد.
ما إن بلغت السابعة عشرة، حتّى تكوّر بطنها الجميل. ممّن؟ لا تذكر المراجع اسم ذلك الحبيب في سلسلة الحبّ الطويلة، ليلي نفسها لا تذكره، أو ربّما لا تتذكّره. أجرت عملية إجهاض في قرية نائية، وكان الثمن عدم قدرتها على إنجاب أطفال بقيّة عمرها. لا بأس أيضًا، ليليشكا طفلة الجميع المدلّلة، فما حاجتها لطفلة أو طفل؟!
في 26 فبراير 1912م تزوّجت الشاعر والناقد أوسيب بريك، وانتقلت للعيش معه في سانت بطرسبرغ، وبعد أشهر عدة قرّرا تحويل الشقّة كلّ أحد إلى صالون أدبي للكتّاب والشعراء والرسّامين وصنّاع الأفلام والثوريّين من الجيل الجديد.
ذات ليلة من ليالي يوليو عام 1915م جاءت إلزا التي كانت في التاسعة عشرة من عمرها، ومعها عملاق فارع الطول، قويّ البنية، وعيناه تقدحان شررًا. ما الذي ستفعله «ماكينة بشريّة» كهذه في صالون أدبي؟ ستفعل كثيرًا، ستغيّر حياة ليلي بريك برمّتها، وتغيّر وجه الشعر الروسيّ كلّه. كانت الغرفة معبّأة بدخان السجائر، ومليئة عن آخرها بضيوف جاؤوا لإلقاء أشعارهم. كسر فلاديمير ماياكوفسكي آداب صالون آل بريك، وألقى واقفًا قصيدته الطويلة «غيمة في بنطلون»، التي تشتبك فيها اللغة الثوريّة باللغة الدينيّة، كأنه شجار عنيف بين امرأتين، وحين انتهى، كان يمكنك أن تسمع رنّة إبرة على البلاط لدقائق طويلة. الكتاب الصغير الذي كتبته إلزا عن ماياكوفسكي، وصدر في باريس بعد تسع سنوات من وفاته، يتضمّن «تشريحًا» لجسده بعيون أنثويّة: «يخيّل إليّ أنني ما زلت أراه يمشي في شوارع موسكو، برأسه العالية مقارنة برؤوس غيره من المارّة، تلك الرأس المذهلة ذات الجمجمة الضخمة المستديرة، والوجنتين المستطيلتين الغائرتين، والفكّين القوييّن، والعينين الكستنائيتين العميقتين الذاهلتين، برموشهما التي لا تكفّ عن الرفيف، وجبهته بأخاديدها القصيرة المتغضّنة. كان يمشي على قدمين قويّتين، ونصفه العلوي، بمنكبيه العريضين، كأنه تمثال نصفي».
كانت ليلي قد سمعت عن هذه «القنبلة» أنه منبوذ من المجتمع، وسُجن ثلاث مرّات في سنّ المراهقة، وتخلّى عن السياسة الحزبيّة، ويبادل المؤسسات البرجوازية ريبة بريبة، وانتقل إلى موسكو لدراسة الفن، ويحظى بمحبّة طاغية في أوساط الشباب الراديكالي، ويقرأ قصائده في الشوارع. ماكينة بشريّة وطاقة شعريّة، هذا كافٍ ليجذب ليلي، ولتبدأ واحدة من أهم قصص الدراما والحب في التاريخ الروسي. ماذا عن زوجها؟ لا يهمّ، ليلي سترتّب الأمر، ليلي عندها حلّ لكلّ مشكلة.
* * *
في عام 1918م، كتبت ليلي: «بعد التأكّد من مشاعري تجاه ماياكوفسكي، كنت قادرة على إخبار بريك بكل ثقة عن حبّي، وقرّرنا نحن الثلاثة، أن نواصل علاقتنا الحميمة». بوضوح أكثر: احتفظت ليلي بالرجلين، واقتسمها الرجلان، بالعدل، وسط صدمة وقتها في المجتمع الروسي. انتقل ماياكوفسكي للإقامة في شقة سانت بطرسبرغ بعد طول تشرّد في الشوارع، وهناك صورة من هذه الحقبة تُظهر ليلي واقفة بين «رجُليها» وابتسامة عريضة تكسو وجهها. ماذا عن إلزا؟ ليست مشكلة. يبدو أن إلزا شبعت أو ملّت من ماياكوفسكي، وتنازلت عنه بطيب خاطر لأختها الكبيرة، وستجد بكل تأكيد واحدًا غيره. بلا ميلودراما، الحكاية بسيطة: ليلي خطفت لُعبتها، وستقتني لُعبة غيرها.
كتبت ليلي في مذكراتها: «ماياكوفسكي وقع في حبّي مرّة واحدة إلى الأبد. أقول: إلى الأبد؛ لأنه سيبقى لقرون عدة، ولن يولد من يمحو هذا الحب من وجه الأرض». ماذا عنها هي؟ أحبّته؟ ها هي إجابة: دائمًا تحكي ليلي هذه الحكاية ولا تملّ من تكرارها: «ذهبتُ مع ماياكوفسكي إلى مقهى بتروغراد الشهير. قبل مغادرتنا، نسيت حقيبتي، وعاد لاهثًا لجلبها. على الطاولة المقابلة كانت تجلس سيدة مذهلة، الصحافيّة المعروفة لاريسا ريسنر، نظرت بحزن إلى ماياكوفسكي وقالت: يبدو أنك ستحمل هذه الحقيبة مدى الحياة». تعلّق ليلي بفخر على حكايتها قائلة: «أنا ليليشكا! عليه أن يحمل هذه الحقيبة في فمه، لا كرامة في الحبّ». ستصبح ليلي ملهمة ماياكوفسكي لمدة عشرين عامًا. كرّس لها وعنها القسط الوافر من قصائده الغنائيّة، وكتب سيناريو فلم «السلسلة» وقاسمها بطولته، كما نشر بالتعاون معها ومع أوسيب بريك والمصوّر ألكسندر رودتشينكو، مجلّة الفنون اليساريّة التي فتحت صفحاتها للمبدعين الجدد.
في أواخر سنة 1920م، كاد الشرخ يضرب جدار العلاقة الثلاثيّة؛ بسبب شخصيّة ماياكوفسكي الدراماتيكيّة المتقلّبة. تعرّف خلال رحلة في باريس على روسيّة شابّة، هي تاتيانا ياكوفليفا، وبدأ معها قصّة غراميّة. امرأة تأخذ ماياكوفسكي من ليلي؟ مستحيل. ها هي تستعيده: «أقنعتْه بأن يعود من باريس بسيّارة رينو، وأن يتعلّم القيادة. أنا كنت دائمًا وراء عجلة القيادة. عندما كان هناك تهديد بالفراق بيني وبينه بسبب علاقته مع تاتيانا ياكوفليفا؛ طلبت من أختي إلزا، التي تعيش في باريس، كتابة رسالة تزعم فيها تاتيانا بأنها ستتزوّج من نبيل ثري، وقراءتها بصوت عال في إحدى الأمسيات. بُهت ماياكوفسكي وقرّر على الفور إنهاء علاقة الحبّ مع تاتيانا، التي لم تكن على علم بهذه المؤامرة».
* * *
عام 1928م تبدّلت موسكو. ازداد قمع الشعراء والفنانين، واستقرّت الستالينيّة على كرسيّ الحكم، مما ينذر بحمّام دم في العقد القادم، وبدأت التمزّقات الروحيّة تهزّ بدن ماياكوفسكي العفيّ. في 14 إبريل 1930م، أطلق رصاصة على قلبه بدون سابق إنذار. خيبة أمل في الثورة أم في ليلي؟ ربّما الاثنان معًا. ترك رسالة بخطّ يده: «إليكم جميعًا، أموت، ولا تتّهموا أحدًا في موتي، أرجو تجنّب القيل والقال، هذه الأشياء أكرهها. أمي، وأخواتي، ورفاقي، سامحوني. هذه ليست الطريقة الصحيحة (لا أوصي بها الآخرين)، ولكن ليس هناك طريقة أخرى للخلاص. ليلي أحبّيني. الرفاق، الحكومة، عائلتي تتكوّن من ليلي بريك، ماما، أخواتي، فيرونيكا فيتولدوفنا بولونسكايا، إذا كان يمكنكم أن توفّروا حياة كريمة لهنّ، أشكركم. أعطوا هذه القصيدة غير المكتملة لآل بريك، سيدقّقونها».
أما القصيدة التي لم يكملها فهي:
«ما يجب أن يحدث حدث
قارب الحبّ تحطّم
على الروتين الكئيب
اختبرتُ الحياة
ويجب أن نتخلّى
عن تبادل الأذى
والآلام والضغائن».
استقبلت ليلي خبر الانتحار بهدوء. قالت: «كان عصبيًّا دائمًا. أنقذته منه قبل مرتيّن». فعلًا، متعب يا ليلي أن تنقذيه في الثالثة.
شُيّعت جنازة ماياكوفسكي بعد أربعة أيام. سار 150 ألف شخص وراء تابوته في شوارع موسكو. حشود لم تجتمع من قبل إلا في جنازتين: لينين وستالين. لو دققّت في الصور، ستجد عينين واسعتين وسط الجموع، فشلت الفجيعة في تخفيف حدّة جوعهما للحياة، عينا ليلي.
* * *
الحياة تستمر. مع ليلي، يجب أن تستمر. مَن القادم؟ لا بد أن يكون رجلًا مناسبًا للمرحلة. حصلت على الطلاق من أوسيب، وبعد شهور قليلة من انتحار ماياكوفسكي، تزوّجت القائد العسكري فيتالي بريماكوف. من حبيبة شاعر، إلى زوجة جنرال، يا للهول! «خطوة تكتيكية ذكية لضمان فتح خط ساخن مع ستالين لإقرار الدولة بمكانة ماياكوفسكي في التاريخ الروسي»، هكذا يبرّر بعضٌ أسباب انحدار ليلي من المستقبليّة إلى الستالينيّة. عام 1935م اشتكت فعلًا في رسالة إلى ستالين مباشرة من تجاهل الدولة لأشعار ماياكوفسكي. غسيل سمعة، أم شكوى حقيقية؟ لا يمكن الجزم. صدر أمر فوري من ستالين نفسه إلى نيكولاي يزوف: «الرفيق يزوف، يرجى الاهتمام بشكوى بريك. ماياكوفسكي كان ولا يزال الأفضل، الشاعر الأكثر موهبة في عصرنا السوفييتي. تجاهل ذكراه وأعماله الإبداعية جريمة. شكوى بريك مبرّرة في رأيي». لكن هذا القرب الحميم من ستالين، لم يمنع اعتقال بريماكوف سنة 1936م بتهمة الخيانة وإعدامه رميًا بالرصاص مع عدد من التروتسكيين، على رغم تبرئته بعد وفاته بـ21 عامًا.
ليلي بريك تتعاون مع الشرطة السرية
تجربة مؤلمة؟ ليس كثيرًا. واصلت ليلي تعاونها مع الشرطة السريّة (OGPU)، ووزارة الداخلية (NKVD)، وجهاز أمن الدولة (CHEKA)، وغيرها من وكالات الاستخبارات السوفييتيّة، كما كانت «زائرة» دائمة لاتحاد الكتّاب في بيريدلكينو، وهو ما أثار تساؤلات عن دورها في القبض على عدد من المبدعين خلال تلك الحقبة.
كثيرون أعربوا عن شكوكهم في تعاون ليلي وأوسيب مع السلطات منذ وقت طويل. بوريس باسترناك كان يصف شقّتهما بأنها: «قسم شرطة موسكو». سيرجي يسينين، كتب بالطباشير على باب الشقّة: «هل تظن أن بريك، الناقد الأدبي، يعيش هنا؟ مخبر أمن الدولة يعيش هنا». آنا أخماتوفا أطلقت على الشقّة نفسها اسم: «ملتقى الكتّاب مع أمن الدولة».
في عام 1990م، بعد الإفراج عن المحفوظات السريّة لوزارة الداخلية السوفييتيّة، نشر الصحافي فالنتين سكورياتين تحقيقًا في العدد الخامس من مجلة (ru) بعنوان: «من، أنا، أطلقت النار على نفسي؟ لا تقل ذلك!»، يتناول فيه موت ماياكوفسكي الغامض وحصّة ليلي من الميراث بعد وفاته. تضمّن التحقيق الأرقام التسلسليّة في أمن الدولة لكل من أوسيب وليلي (24541 – 15073 على التوالي)، مؤكدًا تجنيد أوسيب عام 1920م، في حين لحقت به زوجته في عام 1922م.
الاتهامات بالعمالة، لم توقف ليلي عن مواصلة الحياة. «موهوبة في فنّ العيش» كما يقول ماياكوفسكي. في عام 1938م تزوّجت من الناقد الأدبي الشاب، فاسيلي كاتانيان، وبقيت معه حتى وفاتها. حاولت في السنين اللاحقة استعادة الماضي، بتحويل شقّة موسكو إلى صالون أدبي، لكنها أخفقت في إعادة تدوير الزمن. حاولت تكرار العلاقة الثلاثيّة مع زوجها وحبيب جديد هو المخرج سيرجي باراجانوفا، لكن الجسد كان قد ترهّل، ولم تعد تجدي صعقات كهذه في لفت الأنظار. سعى الشيوعيون «الأرثوذكسيون» منذ أوائل السبعينيّات، لطيّ صفحة أوسيب وليلي بكل ما تستدعيه ذكراهما من مستقبليّة، بوهيميّة، ومغامرة أخلاقية تشوّه سمعة ماياكوفسكي.
عاشت ليلي على بقايا مجدها الغابر. لا احتفاءات تقريبًا ولا تكريمات، باستثناء دعوات متناثرة في باريس للمشاركة في معارض استعاديّة، و«فستان رائع» أهداه لها مصمم الأزياء الفرنسي الشهير إيف سان لوران في عيد ميلادها الخامس والثمانين. يوم 4 أغسطس 1978م، في منطقة بيريدلكينو، بلعت ليلي جرعة هائلة من أقراص «نيمبوتال»، ونامت نومها الأبدي، بعد أن كتبت رسالتها الأخيرة: «لا تلوموني. فاسيك، أنا أعشقك، سامحني. والأصدقاء، سامحوني. ليلي».
«لا» حرف نهي
ليلي تأمر وتنهي من الموت
إياكم أن يلومها أحد، نفّذوا.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق