كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
حين تتوقف ساعة العقل
رفع رأسه إلى شاشة الإعلان عن مواعيد الحافلات، تفحصها مليًّا، ثم تأفف بصوت مرتفع: أُفّ..! يبدو أن الحافلة تأخرت مرة أخرى.
التفتَ إلى السيدة المنتظرة بجانبي وسألها: من فضلك، لا أرتدي نظاراتي، هل ترينَ إعلانًا يخص الحافلة القادمة من الجزيرة الخضراء؟
ابتسمت المرأة الستينية بمودة في وجه الرجل السبعيني، وكما لو أنها تعرفه، اقتربتْ منه وأجابتْ بصوت حزين: لا أرى إعلانًا يخص حافلتكَ. اسأل الجابي هناك وراء الكونتوار.
مع أنه في تلك اللحظة بالذات أُعلن عن الوقت المحدد لوصول الحافلة نفسها.
ما هَمَّني، قلتُ لنفسي.
تركتُه يتجه نحو الكونتوار متمتمًا كلامًا لم أفقهه، واتجهتُ أنا إلى محطة الإركاب. توقفتُ عند الرصيف رقم 12 كما هو مكتوب على بطاقة سفري. وقفت أنتظر قدوم الحافلة. انتبهتُ، ما زال على وقت السفر أكثر من ثلاثين دقيقة، وقت كاف لتناول فنجان قهوة وقطع من «التْشورُّو»، تخصُّص مقصف محطة غرناطة. في الوقت المحدد دخلت الحافلة، نزل المسافرون، وترجل السائق. من خلال زجاج المقصف، رأيت الرجل يتوجه إلى السائق ويسأله وهو يتفحص وجوه المسافرين القادمين واحدًا واحدًا:
هل هذه الحافلة قادمة من الجزيرة الخضراء؟
أجاب السائق بتعاطف غير مبرر:
لا، إنها قادمة من طريفة.
لكن اللافتة تحمل اسم الجزيرة الخضراء.
احتجَّ الرجل بإصرار.
أجاب السائق بهدوء:
أخبرتنا الشركة أن لا مسافرين في محطة الجزيرة الخضراء، فألغيناها من خط السفر هذا اليوم.
ازداد احتجاج الرجل:
كيف تلغون رحلة دون إخبار سابق، ابنتي نَوَت السفر على هذا الخط.
ثم حك رأسه مخمِّنًا:
لهذا لم تأتِ ابنتي هذا الصباح، الحمد لله، اعتقدت أن الحافلة تعرضت لحادثة في الطريق، لا يهم ألّا تأتي ابنتي في هذه الرحلة، المهم أنها بخير. ثم استدار نحو منظفة كانت منهمكة في جمع بقايا طعام على مقعد عريض:
ها أنت ترين يا بيبا، لم تكن حادثة سير ما أخَّر ابنتي، إنما سوء تدبير شركة النقل. في المرة القادمة سأنصحها بأن تأخذ حافلة من شركة بالْيَاريسْ، شركة ميغابُوسْ لا تحترم المسافرين.
صدَّقت المنظفة على كلامه بحركة من رأسها وتابعت عملها. اختفى الرجل في الممر المؤدي إلى باب الخروج. في الحافلة كانت جارتي هي نفس المرأة الستينية التي سألها الرجل أول الأمر. دون مناسبة، وكتكملة لحديث لم يجرِ بيننا، قالت:
أتعرفين أن العديد من الناس يفقدون الذاكرة من الألم والصدمة؟ عقل هذا الرجل أصابه التلف لكن ذاكرته ترفض النسيان. النسيان يساعد الذاكرة على تنظيف مشاعر الحب أو الكراهية المفرطة؛ كي لا يجن العقل. كل جمعة يأتي الرجل المسكين إلى هذه المحطة للسؤال، بنفس اللهجة والإيقاع، وفي نفس التوقيت، عن الحافلة القادمة من الجزيرة الخضراء، التي كان من المفروض أن تحمل ابنته إلى غرناطة، منذ خمس سنوات. لم يكن لديه في هذا العالم غير تلك الابنة، التي كانت تعيش مع أمها المطلقة. وكانت نهاية الأسبوع حصة الوالد من ابنته. منذ ذلك الحين توقفت ذاكرته عند هذه اللحظة، لحظة أعلنوا عن تعرض الحافلة لحادثة وعن وفاة ابنته. سوء الأقدار جعل الجميع ينجو إلا ابنته البالغة من العمر تسع عشرة سنة.
رسمت علامة صليب على صدرها، وتمتمت بأدعية قبل أن تواصل:
رفض حتى أن يتسلم تعويض التأمين وهو مبلغ مالي لا يستهان به. فالمذنب كان السائق الذي غفا أثناء السياقة. الكل في محطة غرناطة يجاريه لأنهم يعرفونه ويعرفون مصابه، لم يتأخر عن موعده كل جمعة إلا مرة واحدة، يوم نفقت القطة. وحسب ما حكت لي بيبَّا منظفة المحطة فإن القطة كانت لابنته. بعد شهور، قنطت القطة من انتظار عودة صاحبتها، فرَمَتْ نفسها من النافذة إلى حاوية الأزبال.
صمت. فجأة، التفتت إلي:
ألا توافقينني على أن انتحار القطة فيه ما يُريب؟ كثيرًا ما تتماهى أرواح القطط بأرواح البشر.. أن يقتلها الرجل أمر وارد، انتظار القطة يذكره بانتظاره المؤلم.
.. أعرف شيئًا عن هذا الارتباك بين التذكر والنسيان. فقد سبق وعانيت في فترة من حياتي من نسيان النسيان، وتلك حكاية طويلة لا تكفيها مسافة هذه الرحلة.
دون كلمة، حركت رأسي بتعجب. في الواقع كان سردها سلسًا ومتناسقًا جاهزًا للتدوين إذا ما فكرت يومًا في سرقة قصتها. غير أنني لم أعتد هذا الاقتحام المفاجئ، وبخاصة في بلد أوربي. حاولتُ أن أجد تفسيرًا لذلك، كأن تكون قد لاحظتْ عينيَّ الفضوليتيْن وهما تتبعان الرجل في كل مراحل السؤال. ظننتُ أن السيدة أفرغت ما في جوفها من مرارة وحسرة، وأشبعت تلك الرغبة في القص التي تصاب بها العجائز عادة، لكنها حولت بصرها إلى الحقول الممتدة على جنبات الطريق، لم تنتبه حتى إلى أنني لست إسبانية ولا أفهم بعض ما تنطق به حين تسرع في إيقاع الكلام. ودون أن تنظر إلي تابعت:
أصبح هذا الرجل جزءًا من رحلتي؛ لأنني أستعمل هذا الخط مرة في الشهر، لأزور ابنتي في الجزيرة الخضراء في مأوى للاحتياجات الخاصة. قضيت عشر سنوات وأنا أعتني بها وحدي عن طواعية، وأربع سنوات أخرى وأنا أنتظر مكانًا لها في مأوى، بعد أن أبدت ميولًا للعنف.. منذ أكثر من عشر سنوات وأنا أطالب المسؤولين بنقلها إلى مأوى في غرناطة لتكون قريبة مني، وأتوصل دائمًا برسائل اعتذار مبرر بأنه لا مكان في مأوى غرناطة، وحين يشغر مكان سيعملون على تلبية طلبي. عادة تغويني حكايات الأكبر مني سنًّا، وقد أطعمها بأسئلة حافزة، لكنني لم أنم جيدًا ليلة أمس في الإقامة الجامعية، وأحس بخمول ذهني وجسدي، لهذا لم أسألها عن الحلقة المفقودة: أين والد الابنة؟ التفتت نحوي، فأطل دمع لازوردي من عينين هما آخر مسحة جمال فضلت عن الشباب. وجه معبِّر لكنها ملامح لا تصلح لأن تكون لشخصية من الشخصيات الروائية المستقبلية، وذلك ما أخمد فضولي تمامًا.
مرة ذهبت أشتكي في المصلحة الشؤون الاجتماعية، فواجهتني الموظفة العانس بسؤال اتهامي:
ألم تكوني تعلمين أن الحمل بعد الأربعين ينتج عنه ولد معاق؟
مجاملة لألم إنساني رسمت على وجهي ملامح تعاطف واهتمام بقصة المرأة ما شجعها على الاستمرار في البوح:
لا أدري إن كنتُ سأواظب على هذه الزيارات مع تقدمي في السن، أو سأصبح مثل هذا الرجل أتردد على المحطة للسؤال فقط. وتحلّ محلي امرأة أخرى لتحكي لجارتها قصتي.
أما أنا فلا أعرف إن كانت تلك المرأة ستنزعج أو تتألم إذا عرفت أنني سرقت حكايتها، فعلًا، لأحكيها لكم.
المنشورات ذات الصلة
برايتون
... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر...
في طريق السفر تخاطبك النجوم
مغامرة صغيرًا كنتُ، صغيرًا جدًّا رميتُ صنارتي إلى البحر اجتمعت الأسماك معًا، رأيتُ البحر! * * * صنعتُ طائرة ورقية بسلك...
بين صحوي وسُكْرها
رغمًا ترددتُ.. لم أسكَرْ ولم أَصْحُ! في كأسكِ البرءُ أم في كأسكِ الجرحُ؟ قصّت جناحي بأفْق الحبّ أسئلةٌ ...
0 تعليق